هناك باحثون، وسياسيون، كثرة آلوا على أنفسهم الغوص في المسكوت عنه في تركيبة الثقافة السودانية المهيمنة التي مظهرت سياستها بالقدر الذي ساهم في انفصال الجنوب. وقد امتلكوا أدوات منهجية، وقدرات فكرية، لمعالجة تراث الاسترقاق في البقعة الجغرافية المعروفة الآن بالسودان. وعلى المستوى الآخر هناك أصوات لنشطاء كثيرا ما يكون هذا التراث حاضرا في محاجاتها حول الأحداث الطارئة التي يُستشف منها الأثر العرقي، أو لا يستشف. ومنذ حين بدت ممارسات حكومة الإنقاذ التي تأخذ طابعا عنصريا مجالا لاحتدام الجدل ليس فقط بين مؤيدي الحكومة والمعارضة، وإنما أيضا بين طرفي الرحى في الممارستين السياسيتين. وإذ إن طبيعة العلاقة بين نشطاء الحكومة تتجاوز الجدل حول العرقي، وموقعه في صراع اليوم السياسي، بهدف اغداق التماسك على بنية السلطة التي يستفيدون منها، وهم داعموها، ولكن على مستوى المعارضة شكل استحضار شفرات الفعل الاسترقاقي في الجدل الماثل نوعا من البحث عن التوافق على الأسباب الأساسية لتضعضع السودان، وكنوع من الاهتمام بأهمية التخطيط للمستقبل وفي ذهننا الاعتبار من ماضينا الاسترقاقي.
وبرغم أن هذا الجدل حول ما هو عرقي في الممارسة السياسية، أو غير ذلك، قد يفرز أحيانا تشاحنا، وتباغضا، وسط النشطاء، ولكن على مستوى آخر يعبر عن ذلك النوع من الاختلاف الذي ينبغي حسمه بمواصلة، ومضاعفة، السجال بكثير من الموضوعية، والتخلي عن الحساسية التي تغطي الجرح الناتئ. فلا مشاحة من وضع كل ما هو مختلف حوله في طاولة الحوار في زمان الانفتاح الإعلامي، إذا توفرت إمكانية لسماع كل الأطراف، ودفوعاتها، خصوصا أن كبت الجدل حول القضايا لا يولد إلا انفجارها بالشكل الذي حدث في الجنوب، وفي مناطق النزاع.
لقد شكل تراث الاسترقاق، من جهة، معوقا أساسيا لبناء الأمة في السودان ما انعكس على بناء الدولة من ناحية أخرى. وما يزال هذا التراث يمنع اجتراح حلول عملية لما ينبغي أن تكون عليه عملية الإصلاح السوداني في عموم تفاصيله. بل إن هذا التراث الذي فرضته قوة دفع الأثر الاجتماعي التاريخي يعاد الآن إنتاجه عبر سياسات حكومية تعتقد إنها ستحافظ على الدولة بالشكل الذي يدفع عنها التآمر المظنون. والحقيقة أن لا شئ يتآمر على حاضر، ومستقبل، البلاد أكثر من اعتماد حلول ــ عفى عليها الزمن ــ لصب الناس صبا في قوالب فكرية، وثقافية، تفتقد الحجة، وتجافي المنطق، وتتناقض مع حركة التاريخ. وللأسف جربت حكوماتنا الماضية بشكل بائن، ومستتر، نوعا من هذه السياسات القامعة فلم يكن الحصاد إلا فقدان الجنوب، واستطالة الأزمات في مناطق النزاع، وانعدام فرص التنمية والإصلاح للتجربة التاريخية، وتهديد سلطة المركز القابض على مفاتيح الملعب السياسي.
وبرغم أن معظم التيارات السياسية غضت النظر عن إمكانية فتح ملفات الاسترقاق السابقة عبر حوار بناء، وكافٍ، وشجب هذه الممارسات، وتضمينها في كراسات الدرس، بدافع إحداث التعافي الوطني إلا أن الحاجة ماسة الآن لفتح الحوار حول هذا الأمر الذي يشكل عقبة أساسية لهزيمة كل محاولات هذه التيارات لخلق سودان معافى. وربما نجمت تطورت الأزمة السودانية لهذا الدرك، ليس بسبب قصر نظر في المشاريع الوطنية والسياسات العامة المتقصدة النهوض، فحسب، وإنما لغياب الشجاعة في توصيف المشكلة الأساسية لاصطدام المكونات الجغرافية السودانية بعضها بعضا. فالحلول السياسية التي طرحت طوال نصف قرن مضى استبطنت عددا من الرؤى النيرة وشرحت الأزمة السودانية في جوانبها العضوية نسبيا. كما أن أدبيات الحوار السياسي والنشر الفكري والثقافي زاخرة بالعصف الذهني الذي خلق وعيا كبيرا بالقياس بالدول التي من حولنا، والتي حققت نهضة نسبية، ولكن بقي المسكوت عنه، لدوافع تتعلق بالحساسية تجاهه مكمن الداء الذي لا بد من علاجه. ومهما تجاهلنا إفرازات تراث الاسترقاق على السياسية المركزية، وبحثنا عن حلول أيديولوجية أخرى للأزمة الكؤود، مع تجاهل هذا التراث الذي ما يزال يتغذى كل يوم، فإن جسد البلاد سيكون ناتئا بلا تضميد، تتقطع الأوصال مرة، ثم مرة، إلى أن يفقد الناس يوما رأسها. وحينها سيدركون نتيجة المداورة، والالتفاف، على الحل الناجع لأزمة التساكن السوداني.
-2-
خلال الغناء السوداني القائم على شرائح نغمية خماسية، وميلودي أفريقي ـ تكشف عنه الأغنية نفسها ـ لاحظنا أن قبول السودانيين لإنتاج الفنانين نابع عن حاجة الروح للتعبير عن ذاتها الحقيقية. الذين شكلوا مادة الغناء يتحدرون من قوميات متعددة تأثرت بشكل متفاوت بتراث الاسترقاق. بل إن عددا من المبدعين المهرة جدا في هذا المجال من أبناء القوميات المسترقة. ولكن الاعتراف المتناهي بهم في الساحة الفنية ساهم في خلق فن يعبر عن جماع السودانيين، بينما لاحظنا أن الساحة السياسية ما تزال ترى أن الإبداع الحكومي مقتصر على أبناء قوميات دون أخرى. وربما أن تركيبتها لا تسمح بوجود منظرين ذوي حلول للمأساة السودانية من خارج بنية المركز السلطوي. وقد لاحظنا كيف أن فكرة السودان الجديد قد شيطنها المركز بالقدر الذي عدت بأنها مؤامرة لتفتيت السودان، أكثر من كونها طريقة حل سياسي قابلة للأخذ، والرد.
ولعل هذا الهجوم غير المسبوق على تلك الفكرة، خصوصا من حملة الثقافة العربية ـ الإسلامية، ينبع من استبطان الشر في دوافع الذين يتحدرون من قوميات مسترقة، ومن ناحية أخرى يستنكف هؤلاء إمكانية أن يحوز أحد أبناء هذه القوميات على القدرات الفكرية، أو النظرية، التي تمكنه من إرساء فكرة خلاقة لتنظيم سياسي لديه الشروط المنطقية للإصلاح أكثر من هذه الأفكار التي يكون منبعها في المركز السلطوي. وإذا كان السياسي مثل المغني، يُعترف أولا بقدراته العلمية المماثلة لمدى الصوت، وبناء اللحن، وجودة الأداء، حتى يتقدم الصفوف لإظهار تجربته عبر التاريخ، فإن عددا من السياسيين الذين صاروا رموزا ستسقطهم لجنة النصوص ذات التخصص السياسي، إذا افترضنا وجودها. وفي هذا الجانب تشبه تجربتنا المتأثرة بتراث الاسترقاق التجربة الأميركية بذيولها كافة.
فسيطرة الأفارقة الأميركيين على مجال الفن حتى حققوا لثقافة الولايات المتحدة الموسيقية انتشارا كثيفا في كل تخوم العالم عبرت عن أن الإبداع لا يرتبط باللون، والعرق، وإنما بالقدرات مثل التي امتلكها أبناء الجنوب أمثال رمضان حسن، ورمضان زايد، وعبد المنعم عبد الحي، وأحمد زاهر، مثالا. وحين نضجت التجربة الأميركية وتناءت عن تراثها الاسترقاقي أثبتت أن الرئاسة الأميركية لا يديرها من هو أفضل من رجل المرحلة الأفريقي الأصل. وهكذا هي الفنون ترينا إلى أي مدى قدرتها على هزيمة المتمسكين بتراث الاسترقاق على مستوى العالم، وإحراج الصامتين الرافضين لاستحضاره في معمل البحث لمعرفة صلته بمآسي الحاضر.
إن إبداع المغنين المتحدرين من بيئات الاسترقاق، والتهميش، بشروط المركز الثقافية، وحيازتهم للقمم اللحنية والشعرية، والغنائية، يمكن أن يشكل دلالة خصبة على أن بقاء ثقافة الاسترقاق في ساحة السياسة المركزية معوق للإصلاح والتجديد. فضلا عن ذلك فإن ذلك يكشف أن المفاهيم الإصلاحية الجيدة مقصورة على جهة دون أخرى، وبالتالي يصبح من الصعب إحداث التعافي الوطني على المدى القصير ما لم يتم تبني الأسس الموضوعية التي قامت عليها إبداعية الأغنية، وسائر النشاطات الثقافية والفنية التي تخاصم تراث الاسترقاق بالمزيد من الثقة في الذات الإبداعية السودانية، أيا كانت خلفياتها الإثنية، ومنطلقاتها الأيديولوجية. وهنا تكمن قدرة المبدعين على إظهار التعدد الثقافي الذي تقمعه سلطة الدولة المركزية الديموقراطية، والديكتاتورية، عن طريق الفخاخ السياسية التي تدجن أبناء الاسترقاق، والهامش، في مشاريعها ذات النفع السلطوي. ولذلك ظلوا تابعين، ذليلين، لهذه المشاريع السياسية التي منحتهم بعض الاكتفاء المعاشي بينما هزمت عندهم قدرة الاستئناس في ذاتهم بأنهم يمكن أن يصبحوا أيضا قادة أحزاب، أو مستنيرين إصلاحيين، ما دام البشر يولدون بالتساوي في القدرات الذهنية والحركية. على أن القمع السياسي لا يقتصر على الإبداع السياسي، وتنوعه، وإنما يمتد ليشمل التعدد الإبداعي عن طريق ممثلي سلطة الاسترقاق المركزية في الموصلات الإعلامية.
-3-
من خلال التجربة الرياضية التي بدأت بروابط الناشئين، والأندية، والاتحادات الرياضية، لاحظت أن لا أثر لتراث الاسترقاق السوداني على مستوى الإبداع . بل إن المعايير المستخدمة في تقديم الموهبة على العرق، واللون، والمنطقة، واللكنة اللغوية، تقوم على أساس الإبداع وحده، خلافا لما يحدث في الاجهزة الإعلامية، مثالا. إذ ينتصر اللون، وتلعب العلاقة الاجتماعية دورا، وتفضل لهجة للعربية على ما عداها، وليس من الصدفة أن تكون لهجة مقدمي برامج الإذاعة والتلفزيون قاصرة على خلفية مكون واحد، بينما تتنوع لهجات كباتن أندية القمة، وغيرها، والفريق القومي، والعداءين القوميين الذين حملوا شعلة الأولمبياد، وحققوا سمعة طيبة في مضمار ألعاب القوى: خليفة عمر، الكشيف حسن، وموسى مدني، موسى جودة، وأبو بكر كافي، وغيرهم. فالتنوع الرياضي السوداني في محافله كافة هو انعكاس مستمر للسودان الجديد بصورة لن يلحظها زعماؤنا السياسيون الذين يترفعون من الاختلاط بالرياضيين. وبينما يستهجن كثير من المثقفين طبيعة الممارسة في الوسطين الرياضي، والفني، ويبدون تعاليا نحو الرياضيين، سوى أن هذا التجاهل لطبيعة هذين المكونين حرمنا من إجراء دراسات علمية عن الكيفية التي بها يتمظهر تماسك السودانوية في أنصع صورها في المجالين الحيويين.
قليل جدا من المثقفين، أو المتعلمين، الذين نالوا دراسات عليا ارتبطوا بالنشاط الرياضي، وللأسف سعى كثير منهم لترسيخ سياسة الاسترقاق عبر احتكارهم لتسيير إدارتها. فالملاحظ أن التنوع الذي ينعكس على ملعب القدم، والطائرة، والملاكمة، والسباحة، والسلة، ومضمار ألعاب القوى، لا ينعكس على مستوى إدارات الأندية، والاتحادات، واللجنة الأولمبية، ولذلك يفهم احتجاج قدامى اللاعبين على محاربة الإداريين لهم. والغريب أن ناديا مثل الهلال والمريخ لا تجد في عضويته، لا سكرتاريته حتى، لاعبا مثل علي قاقرين، أو عوض دوكة، أو حامد بريمة، بما لديهما من خبرات رياضية، وعلمية، وأكاديمية. فالحقيقة المرة أن إدارات أندية مثل أندية القمة لا تمثل إلا نوعا في كثير من الأحيان إلا تمظهرا من تمظهرات الرأسمالية المسماة وطنية، وهي التي تدفع بيمينها الملايين لتسجيل اللاعبين بينما تسترد أضعافا أضعافا منها عبر الاستفادة التجارية بناءً على الامتياز الرياضي.
حين النظر للتركيبة العرقية لأندية القمة، والأقاليم، ومشجعييها، تراهم يمثلون التنوع السوداني بشكل لا تخطئه العين. وتقوم العلاقات في الوسط الرياضي وسط هذه المجموعات على قدر كبير من الاحترام، والتقدير، لكل صاحب مساهمة نوعية، سواء إبداعية، أو إدارية، أو تشجيعية. ولا ينطبق الأمر على مجال كرة القدم فحسب، وإنما على كل مناشط الرياضة بلا استثناء. فالأصل في التفوق في المجال يقوم على الموهبة الخارقة، والتنافس مبني على كيفية تنمية القدرات، والتبجيل قائم على السجل الناصع من المساهمات التي تحقق الانتصار الرياضي. ولذلك لا مجال هنا لاستحضار تراث الاسترقاق لسرق الأضواء، والمجد، والاستعلاء على الآخر. فكل من يبذل العطاء سيجد التقييم، بل إن طبيعة العمل الرياضي تمهد للمبدع دوما فرصا للتطور لا التعويق، ويندر أن تجد رياضيا مبدعا عانى الاضطهاد، أو التهميش، لكونه ينتمي لقومية مستضعفة، أو مشكوك في ولائها للمركز. الأكثر من ذلك أن الترقي إلى الكابتنية القائم على تراتبية الانتماء للنادي كثيرا ما وضع رياضيين يتحدرون من قوميات مسترقة، أو مهمشة، في قمة المسؤولية الرياضية وربما شملت فرص الكابتنية لاعبين يتحدرون من قوميات تمتد أصولها إلى خارج السودان، وشاهدنا كثيرا أن تكريم هؤلاء الكباتن عبر عن وفاء مستحق، وخرج آية في التبجيل. لا سبيل لشفاء أمة تسعى لتمام التشكل إلا بكشف بؤر ماضيها الكالح، ثم نقده، وسن القوانين الصارمة لمحاربة سيماءاته، وخلق بعض التمييز الإيجابي لسد الفجوات في التفاوت الاجتماعي، والوظيفي. وبغير ذلك سيعيد التاريخ إنتاج نماذجه الكارثية التي تفتت كيان الدولة مهما تحصنت بالقمع الثقافي وسيلة لترسيخ الفشل.