ألسودان الحديث لعبت في صياغته الإجتماعية والثقافية والسياسية حقبة تاريخية مفصلية من عمره، عرفت بالثورة والدولة المهدية، تلك الانتفاضة الشعبية العظيمة التي جمعت شتات البلاد في محيط الخارطة الجغرافية الحاضرة، ولولاها لما تماسكت هذه الفسيفساء العريضة من الشعوب والقبائل والعادات والتقاليد، قبلها كان ما يعرف بالسودان التركي المصري المنحصر في النيليل الأبيض والأزرق ومجرى النيل الرئيسي، وبعدها تمددت لتحتوي غرب وجنوب كردفان ودارفور وشرق السودان، وكانت ركائزها الثلاث الحاملة لعرش الوطن العزيز ممثلة في ثلاثة من القادة العظام هم عثمان دقنة ومحمد احمد المهدي وعبدالله تور شيل، والمفاخر الوطنية لشعوبنا منذ عهد الملك تهارقا لم تقام شعائرها ولم توقد جذوة مشعلها إلا بعد ثورة الإمام المهدي ورفاقه الميامين، كانت الأمجاد الملحمية صاحية في وجدان الوطنيين الأحرار والشرفاء من بني وطننا، وعلى أرض شيكان والجزيرة أبا وكرري وأم دبيكرات سالت دماء عزيزة وغزيرة من أبدان ورقاب الأبناء البارين بتراب أجدادهم.
ألأسافير تناولت موضوع حذف حقبة المهدية من مقررات كتب التاريخ بالمراحل الدارسية، وإن صح هذا الزعم تكون إدارة المناهج قد جاءت بما لم يأت به الأولون، فالتاريخ الناصع لهذه الفترة الزمنية من تأسيس أول دولة وطنية سودانية مستقلة وسط العالمين العربي والأفريقي الذين كانا يرزحان تحت وطأة الأستعمار الأجنبي،لا يجب أن يكون مهملاً ومستبعداً عن الذاكرة الجمعية لأجيال الغد المشرق، وذلك لأن من ليس له ماض لا حاضر له ولا مستقبل، ومما يؤسف له أن الصراعات الأيدلوجية بين الطائفيين والجمهوريين قد رمت برواسبها على مادة المنهج التربوي، علماً بأن التاريخ لا يُحاكم ولايستطيع الناس أن يهربوا منه، فهو مختزن في الكتب والأضابير ومجلدات البحوث التاريخية والمنحوتات الموجودة بمكتبات ومتاحف لندن وباريس، فإن أزاله القراي من المقرر الأكاديمي فهو ماثل في الصدور، ولا يعتبر القرن الذي حدثت فيه الأحداث والتحولات الكبرى هذه بذلك الماضي الديناصوري والخرافي البعيد العصي على الأستذكار والأستحضار، إذ أن جيل اليوم قد عاصر أجداده المعاصرين بدورهم لآبائهم الحاضرين لوقائع ذلك الزمان، ولا حجة لبعض الجهويين المنكفئين على ذواتهم الذين ادّعوا زوراً وبهتاناً تعرض ذلك السرد التاريخي للتزوير، وهي حجة يشوبها الكثير من الظن لأن معاهد البحث التاريخي ومنقحي الخصيصة التاريخية المشكك بها متاحون لمن أراد للحق سبيلا.
ألصراع المركزي الهامشي بانت أسبابه عندما وصلت الثورة المهدية إلى مرحلة بناء الدولة، وذات السيناريو تكرر في القرن الذي تلى حقبة المهدية، وما يحدث اليوم من تبخيس مقصود للثورة الوطنية الأولى ما هو إلا امتداد لذات الدوافع والأسباب، فمركزيو العقل والثقافة اليوم هم أنفسهم الغاضبون على بلورة فكر الدولة الوطنية القومية الشاملة، إنّهم الراغبون في استحواذ واحتكار الماضي والحاضر، والمتابع للشأن الفكري والسياسي هذه الأيام يرى الغاضبين على شراكة الأقوام والنخب المحسوبة على ثاني ركائز تلك الدولة الوطنية الأولى – عبدالله بن محمد (تورشيل) – يعيدون الكرة مرة أخرى، فيثيرون الأغبرة والأتربة الكثيفة بغضاً في قدوم هؤلاء الشركاء الجدد الحاملين لمشاعل السلام، أما الذين يعملون على طمس هوية الثورة بمحو آثار البطولات التي أخرجت المستعمر التركي صاغراً، هم أنفسهم الذين أتوا على ظهر البواخر الحاملة لجنود (الفاتح) كتشنر، ففي السودان قومان، قوم أصيلون دمرت انجازاتهم الحضارية في الفاشر وسنار وأرض البجا، وآخرون غاضبون لم يرق لهم في يوم من الأيام اجتماع الكتل السكانية في بهو وفضاء هذا الوطن الفسيح.
ألعقدة المركزية تجاه الثورة والدولة المهدية لن تجمع الناس على كلمة سواء، ومثالها كمثال عقدة (قوردية) التي لم يحلها إلا ذلكم الفعل الجريء الذي قام به الأسكندر الأكبر، وهي العقدة التي ما تزال دافعاً أساسياً لإراقة كل الدماء في اطراف البلاد، وتجسدها محاولات المركزيين تجيير مآلات التاريخ لمصالحهم السلطوية والمالية، لأن الأعتراف بالآخر مساهماً أصيلاً في صناعة تاريخ بلاده يفرض استحقاقاً دستورياً يجعله شريكاً رئيسياً في دواوين السلطة وخزائن المال، ويقول محرروا الشعوب إذا أردت أن تقود شعباً طائعاً أعمى كطاعة الأغنام لراعيها، قم بطمس تاريخه ولقنه السير والأخبار التي تدعم مكوثك الدائم في وجدانه بطلاً لا يقهر، فالمشهد العام صباح هذا اليوم ومساء الغد لا يتمنى المركزيون أن يشهدوه، بسبب دخول الوافدين من جوبا إلى الخرطوم سلماً كما دخلوها حرباً في عملية الذراع الطويل، ومثلما فعل حملة الرايات الأربع قبل قرن ونصف القرن حينما اقتحموا عش الدبور (الخرطوم) مؤرخين لبداية العهد الوطني الجديد بمداد مسكوب من دماء عنق غردون.
ألجمهوريون وعموم أهل اليسار يتخذون من جدل المهدية موضوعاً يستغلونه في عدائهم مع حزب الأمة، ولا يدركون أن الثورة التي قادها كل من عثمان ومحمد وعبد الله ليست حزبية، ولم يكن القائد الملهم لتعاليمها جهوياً ولا قبلياً، وأخشى أن تكون المناكفات الدائرة بين حواري الأستاذ محمود وأنصار الإمام زعيم الحزب، قد ألقت بظلالها على القرار المزعوم والقاضي بمسح المادة التاريخية المتعلقة بحقبة المهدية من الكتب، حينها يكون القراي قد خاض فيما خاض فيه الكيزان عندما فرضوا وجهات نظرهم على نصوص مواد المنهج التربوي الهزيل الذي ظلوا يلقنونه لطلاب العلم ثلاثة عقود، علينا بتخليص حقبة المهدية من شوائب الاستقطاب السياسي و وضعها في موضعها الأنسب، وهو أنها فترة ثرة من فترات سيرة ومسيرة الأمم السودانية الواجب علينا حفظها وتلقينها لأبنائنا وبناتنا، لا أن ننسبها لطائفة وجهة أو نلقي بأوراقها في علبة المهملات.
إسماعيل عبد الله
[email protected]
14 نوفمبر 2020