عقدت الصدمة لساني عند رؤية مشهد غريبة في مدينة الفاشر، وتساءلت في نفسي ساعتها: ما هو الشيء الخطأ الذي يجري في دارفورنا أو في السودان عامة؟! المشهد التي أتحدث عنها عبارة عن حفلة الرقص فوق مقبرة جماعية بدافور، تجمع أربعة أشخاص هم: امير قطر الشيخ تميم بن حمد ال ثاني والرئيس التشادي ادريس دبي والرئيس السوداني عمر البشير وأخيرا وليس آخر الرئيس الظل لجمهورية افريقيا الوسطي فوستان اركانج.. جميعهم يقفون في تلك المشهد، وقد أعلن مقدم البرنامج بعبارة: “هي لله هي لله.. رجال لا يركعون إلا الله”.
رؤية تلك المشهد جعلتني أتذكر علي الفور قصيدة شهيرة للشاعر البريطاني المعروف روديارد كبلنغ عن ستة رجال أمناء.. تقول بعض أبيات القصيدة:
” يعمل عندي ستة رجال أمناء.. وقد علموني كل ما أعرفه الآن.. أسماءهم هي: ماذا ولماذا ومتي وكيف وأين ومن هو!”.
يقال إن الاستعارات اللغوية تحمل في طياتها معاني خاصة.. وعندما لا نري علم السودان ولا علم افريقيا الوسطي في تلك المشهد، فهذا يعني أنه لا توجد مساحة كافية في ميدان احتفال الدم لوضع العلمين.. بمعني آخر، هناك عنصران رئيسان في المشهد، بن حمد ودبي واثنان من الاعلام، قطر وتشاد!!
السؤال الذي يطرح نفسه الآن: ما هو المبرر الرئيس وراء تلك حفلة الدم الحالية؟! وما هي الأرض المشتركة تجمع هؤلاء الأشخاص الأربعة؟!
يبدو مثيرا للاهتمام أن نعرف أن السودان يمثل أهم قاعدة عسكرية حربية إخوانية ارهابية في المنطقة، برعاية دولة قطر.. وتبعا لديها خطة استراتجية فيما يخص الوضع في الخرطوم، ويرجع ذلك بوضوح إلي فكرة أنه من دون السودان- عمر البشير- لا تستطيع قطر توفير وتقديم الدعم للتنظيم العالمي للاخوان المسلمين في ليبيا أو مصر أو تشاد أو افريقيا الوسطي.. ويعتبر دارفور موقع مناسب لهذه الميليشيات الارهابية الاخوانية!!.. اما تشاد تخاف من هذه القاعدة العسكرية التي جزء منها من معارضتها.. اما افريقيا الوسطي قرارها بيد دبي والبشيىر!!
ترفض قطر ومعها تشاد أي محاولة لاصدار قرار من المجتمع الدولي أو الاقليمي ضد النظام السوداني، بسبب مصالحها الكثيرة والراسخة في السودان.. وتقول تقارير إن اثنين من كبار مسؤولي قطر وتشاد هما: وزير الخارجية التشادي، ونائب رئيس الوزراء القطري احمد بن عبد الله ال محمود، يقومان بزيارة الخرطوم كل ستة أشهر لتقييم الوضع المعقد في السودان.. ويقال أيضا إن الملف الدارفوري يخضع لإشراف احمد بن عبد الله، وهو رجل هاديء.. وبعبارة أخري، يمكننا القول بأن عمر البشير يعيش برعاية ودعم بن حمد ودبي!!
السؤال الأهم الآن هو عما إذا كانت قطر وتشاد قادرتين علي إيجاد حلول تنهي الكارثة الدارفورية.. ويبدو ذلك مهمة في غاية الصعوبة لأسباب كثيرة، أولها وبكل صدق، أن دارفور- لإقليم وكأمة- جري تدميره عن بكرة أبيه.. ونشاهد في الوقت الحالي الموجه الثانية في مسلسل تدمير الإقليم وإبادة سكانه.
غير أن السؤال الرئيس الأخري الذي لم تتوفر له إجابة بعد هو: هل تستطيع قطر ومعها تشاد إيجاد حل للمشكلة السودانية بدارفور؟! ربما بعد سنوات أخري من قتل ودمار وتشريد الدارفوريين، يستطيع نظام البشير التغلب علي المعارضة.. لكن، كيف يمكن لذلك النظام أن تحكم دارفور؟! وما هي فئات الشعب التي ستقبل العيش في ظله، لقد بلغ التطهير العرقي في دارفور مبلغه بصورة صادمة ومقيتة ومقذرة ولا تصدق.. لقد شاهدت مقطع فيديو علي موقع “يوتيوب” يظهر مجموعة تقوم بقتل الناس العاديين السالمين وكبار السن والأطفال وغيرهم، وتتبع تلك المجموعة ما يطلق عليه قوات الدعم السريع وكانوا من تشاد ومالي والنيجر وافريقيا الوسطي.. من الذي يستطيع أن يعالج كل تلك الجرائم؟! من ناحية أخري، كيف سيتنسي الشعب نسيان الكثير من الكوارث مثل الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والاغتصاب الجماعي والتهجير الممنهج؟!
بينما تضج كل الضمائر الحية بما يتعرض له دارفور علي رؤوس سكانه، نظمت السلطة الاقليمية لدارفور حفلا موسيقيا مفاجئا، لاعلان دفنها، في محاولة علي ما يبدو من الدوحة لكسب القلوب والعقول وتذكير العالم بدورها للسلام والتنمية والاعمار في دارفور.
يحدث أحيانا ولشدة الحزن والهياج أن تطلق في الجنازة زغاريد العرس، لكنها لا تلبس أن تطغي عليها صرخات التفجع والعويل.. وفي التاريخ سبق أن رقصت القبائل المتوحشة علي جثث أعدائها في كرنفالات النصر التي تقيمها بعد المعارك الطاحنة لتنسي قتلاها.. لكن لم يحدث أبدا أن أجبر أهالي القتلي والضحايا علي الرقص والاحتفال واظهار الفرح لمقتل ذويهم، فهذه قمة الاجرام وذروته، واجبار المتضررين منها علي انكار ونسيان فكرة العدالة.. فهذا غير مسبوق في التاريخ ولا يقوم به إلا حاقد وجبان ومجنون معاً!!
أما هنا أقصدالميليشيات القبلية الذين دفعوا ثمنا باهظا.. وفقدو نسبة كبيرة من شبابهم في معركة شخص يبحث بشكل مرضي عن السلطة ويوظفهم في معاركه الخاصة، التي ستنتهي بالاحتلال القطري التشادي للجميع، ويوهمهم بأنهم قد انتصروا لمجرد بقائه في السلطة،أيضا أهالي دارفور الذين يرزحون تحت احتلال القاعدة وداعش وميليشيات قبلية، وتمارس عليهم كل طقوس الاضطهاد والحرمان والترهيب والقتل والاغتصاب بهدف التركيع، الذي وصل إلي مستوي أبعد كثيرا من الخنوع.. تصوروا مثلا بالامس كيف ترقص امرأة دارفورية مات ولدها بيد الجنجويد وأخر في سجن شالا، لكنها لا تريد أن تصدق أنه قد تم تعذيبه حتي الموت كما يحدث لملايين بظروف غير معروفة، وتحيلوا فرحة أم فقدت ابنها من أجل أن يبقي معتوه في السلطة ساقه رغما عنه لمعركة مجنونة ضد شعبه.
أعراس المهزلة والدم هذه ليست جديدة علي هذا النظام الغريب العجيب، فهي مستمرة ومتكررة لكنها لم تكن بهذا المستوي من الجنون والهذيان الناجم عن الذعر، أو تشمل العدد الكبير من المجتمع الإقليمي، فقد سبق واقترح البعض في استفتاء دارفور للأبد.. لكنه خيب أملهم، وسبق لبعضهم أن دعاه عمر البشير ربا والها.. وما يزال يدعوه بهذه الصفة.. لكنهم بالعملي والثابت كانوا يقبضون ثمن ذلك مصالح مغرطة في الأنانية، فالنظام قد بني نفسه علي مبادلة الولاء والطاعة والمديح الممجوج بالمنافع الحقيرة والخسيسة والجريمة التي تحولت إلي عرس للاحتفال بنهاية تنفيذ بنود اتفاقية الدوحة لسلام دارفور!!
كان الاحتفال والرقص علي مقبرة جماعية بدارفور رسالة لكل من يفكر بالاعتراض، وكانت الشعارات بفداء البشير بالروح والدم واسد افريقيا تطلق بمناسبة ومن دون مناسبة، وكل ذلك في سياق التحضير للتطهير العرقي الجديد المتوقعة في أي مكان أو زمان يوجد فيه أي دارفوري.. وهي قمة السلام والاعمار والاستقرار التي يدعونها.. إنها احتفالية الخوف المعزز بالدم والمجازر والاغتصاب الجماعي والتشريد.. احتفالية الغطرسة إلي حد الجنون.. إنه نظام العار والجريمة والذل الذي ثار عليه الشعب الدارفوري وسيستمر باذن الله.
لنترك التوصيف الحزين لما جري في الفاشر السلطان العاصمة الالتاريخية والحضارية والثقافية والاجتماعية لإقليم دارفور ولنعود للتقييم السياسي لما فعله البشير بالامس وتوهم فيه النصر:
-قدم صورة لا شك فيها أنه غير مستعد لأي تنازلات، بل ممعن في تسلطه واستبداده ووقاحته، لتسقط للمرة الألف كذبة الإصلاح والحوار والسلام والتوافق والحل السياسي.. لقد أطلق بالأمس رصاصة الرحمة علي مسار اديس ابابا وهو المسار المصمم لإيجاد مخرج لائق له وللمجرمين من ميليشياته وعصابته.
-رفع مستوي الغطرسة والتحدي لدرجة العمي الذي سيودي به وبحلفائه، والتي سوف تتسب في نفور حتي الأحزاب التي صنفها بالوطنية، والتي حاولت طوال ثلاث سنوات تقديم الاعذار لسلوك البشير واتهام المعارضة بإطالة عمر الأزمة عندما ترفض الحوار(وثبة البشير) مع النظام وتصر علي التفاوض اولا.
-قدم البرهان لكل دعاة الطريق الثالث من دول وشخصيات.. أنه لا حل لأزمة السودان بدارفور إلا عبر طريق واحد هو اسقاط النظام، لأن هذا النظام يغلق الباب علي كل مبادرة أو حل، فإسقاط البشير هو مفتاح الحل مهما كان شكل هذا الحل، وهو ما رأينا ترديده.
-قدم لمخدوعي المصالحات التي تجري تحت ضغط التجويع والترهيب الحقيقية لمستقبلهم الذي سيخضعونه فيه لسوية أعلي من الغطرسة المجنونة والتجبر والإذلال والاحتلال فذروة الاحتفال جرت في الدوحة وانجمينا ومعسكرات الميليشيات.
-قدم البرهان الواضح لكل القبائل أن السبب في دمار العقد الوطني هو نظام عمر وحده، وبغض النظر عن اشكال معارضيه ومآربهم المختلفة فكل من عارض البشير كان علي حق، وكل من ساعده كان علي باطل.
بقي علينا هنا أن نؤكد أن مشكلتنا مع هذا النظام ليست مشكلة سياسية ولكنها جنائية واخلاقية، وبالتالي لن تجد حلها في الحوار كما يتوهم بعض السياسيين.. بل فقط بالسلاح والقتال لكسب الحرب التي أعلنها البشير ضد شعبه الثائر علي جرائمه وأزلامه وعصابته، الحرب التي لن تضع أوزارها إلا بتحقيق العدالة وإزالة الطغاة، بعدها فقط يمكن للحوار أن تحسم الأزمة السودانية.
وليعلم الجميع أن الحرية والكرامة هي وطننا الذي نقاتل من أجله بغض النظر عن اسم الدولة أو شكلها أو من يحكمها..