أولاً أشد على أيد الأطباء السودانيين الذين نفذوا إضراباً يطالبون فيه بتحسين الخدمات الطبية في البلاد وحمايتهم من الإعتداءات التي ظلوا يتعرضون لها من قبل منتسبي القوات النظامية وبعض المواطنيين.
ما استوقفني وأثار دهشتي في موضوع إضراب هؤلاء الأطباء هي المحاولات المتكررة من قبل القائمين على أمره على إثبات أنه تحرك مطلبي لا علاقة له بأي أجندات سياسية وفي الجانب الآخر تجتهد الحكومة عبر وزير الصحة بولاية الخرطوم وآخرين في إلصاق تهمة الإضراب السياسي عليه.
يجب أن نوضح للقارئ لماذا يُثار الحديث حول أن الإضراب سياسي أو مطلبي، ففي حالة الإضراب السياسي فإن النشاط القائم يستهدف بالضرورة تغيير المنظومة التي تُدير شئون البلاد وإستبدالها بأخرى تحسن إدارتها، أما في حالة الإضراب المطلبي هو أن يتم الإذعان لشروط المعتصمين وتتولى الإدارة القائمة إجراء الإصلاح المطلوب دون يطال هذا الإجراء باقي المؤسسات المتأثرة، فإي النهجين أوصل إلى مظان حلول أزمتنا الماثلة الآن في السودان؟ يجدر بنا ( نحن السودانيون) أن نجيب على هذا السؤال حتى ينصلح حال بلادنا إن أردنا ذلك .
يتضح جلياً من السجال الدائر بين إعلام لجنة الأطباء المركزية التي تصر على أن الإضراب ليس إضراباً سياسياً وبين نظام الإنقاذ الذي يصر على أنه إضرباً سياسياً ، أن الأطباء يخشون بطش النظام إذا قالوا أن إضرابهم سياسي والنظام سئ الصيت والسمعة يرغب في إلصاق تهمة الصفة الساسية بالإضراب حتى يُنكل بالإطباء لأنه ومن كثرة بطشه بالسياسيين طيلة ال27 عاما من حكمه الجائر أصبح الأمر معتاداً إذ رسّخ في ذاكرة الرأي العام السوداني أن أي عمل سياسي بالضرورة هو إستهداف لأمن المواطن وأن القائمين به لديهم أجندات خارجية وأنهم يرغبون في جعل السودان مثل سوريا والعراق وليبيا إلى آخر أحاجي الرعب التي ظل يخوِّف بها الرأي العام ويجعله يُحجم عن مؤازرة أي نشاطٍ سياسي يستهدف تصحيح الأوضاع في البلاد وإستعادة دولة العدل والمؤسسات.
نقول للأطباء مالعيب في أن يكون إضرابكم سياسياً؟ بل نجزم جزماً لا يُخالطه شك أن هذا الإضراب إن لم يكن سياسياً فأنه حتماً لن يحقق النتائج المرجوة من تنفيذه، وعلى الأطباء أن يفهموا جيداً أن تلك المطالب وأوجه القصور في مجال الخدمات الصحية والتي ضمنوها مذكرتهم التي رفعوها إلى وزارة الصحة هي ليست تقصيراً إدارياً بقدر ماهو موضوع يتعلق بسوء إدارة البلاد أصلاً، والدليل على ذلك أن الإنهيار الذي يقولون أنه طال الحقل الطبي ومجال الخدمات الصحية إنما هو إنهيار عام وشامل عمّ كل المرافق الخدمية وغير الخدمية في البلاد، ليتصعد الأمر إلى أعلى قمم الخراب ويتجاوز فكرة الإصلاح في قطاع دون القطاعات الأخري إلى أزمة تحتاج إلى تدخل جراحي كامل يستأصل هذا النظام الذي فشل في إدارة شئون العباد والبلاد، فما من قطاع إلا وطاله التهميش والإهمال المقصود وغير المقصود، وما من مؤسسة إلا وطالتها يد التخريب وعشش فيها الفساد فباض وأفرخ، وأكبر دليل على الإهمال المقصود من النظام هو تخزين تلك المعدات الطبية في مخازن وزارة الصحة والمستشفيات تشكو لطوب الأرض من قلة وإنعدام تلك الأجهزة، عندما كنا نكتب ونقول أن هؤلاء الذين أُبتلي بهم السودان لمدة 27 عام هم قساة القلوب غلاظ الأفئدة وأنهم لا يهتمون لأمر الشعب السوداني وكل همهم حماية نظامهم الذي يمهد لهم الطريق لنهب مقدرات الشعب السوداني ثم حمايتهم إنما كنا نعني مثل هذا السلوك الذي فضحه إعتصام أطباء السودان، فكيف سولت لهم أنفسهم تخزين هذه المعدات والأدوية المنقذة للحياة والشعب السوداني يُعاني الأمرين من إنعدامها؟ إنه تصرف يؤكد تأكيداً تاماً أن هذا النظام لا يأبه لحال الشعب السوداني والظروف التي زجوه فيها عبر سياستهم الرعناء وإدارتهم الخطلاء لشئون البلاد.
لا نعتقد أن إصلاح المؤسسات الخدمية أمراً سيكون متاحاً في ظل بقاء هذا النظام، وحتى لو أراد أن يقوم صادقاً بإصلاحها فهو لن يستطيع لأنه أضاع مقدرات البلاد التي يمكن أن تُعينه في الإصلاح وبعثرها في حروبات عبثية ودفعها رشاوي من أجل بقائه في السلطة أو ترك منسوبيه ينهبونها ويبنون بها قصوراً ويكتنزونها في حسابات بنكية داخل وخارج البلاد.
هناك حقيقة إقتصادية تقول أن الموارد، في أي دولة من الدول، هي محدودة والحاجات التي تتطلب الإنفاق عليها دوماً غير محدودة ولذا من المستحيل أن تصرف دولة بالطريقة التي يتصرف بها نظام الإنقاذ في أموال البلاد ثم يأتي النظام ليقول إنه سيصلح ما أفسده جرّاء سوء إدارته لموارد البلاد و تبذير قدراتها المالية، فإصلاح هذه المؤسسات يحتاج إلى أموال وعملات صعبة والنظام ليس في وضع يسمح له بالصرف على مثل هذه الأمور، فهي ليست من أولوياته، وأي محاولة إصلاح حقيقية لم تتم خلال ال27 عاماً بالتأكيد لن تتم في خواتيم عهد نظام الإنقاذ الآخذ في الأفول، فهو مشغول الآن بالكيفية التي يُعالج بها أهوال سقوطه التي بدت أعاصيرها تلوح في الأفق.
أما بخصوص إعتداءات منتسبي الأجهزة النظامية وإستهداف الأطباء بالضرب، فإنها ستستمر ولن تقف سواء أكان الإضراب سياسياً أو متعلق بإصلاح بيئة العمل في المستشفيات، ومرد ذلك أن ذات الدمار الذي لحق بحقل الطب في السودان طال أيضاً المؤسسات النظامية والعسكرية فقد تم تمليش معظمها فتغيرت العقيدة القتالية والعسكرية التي كانت تستهدف حماية المواطن والوطن ليحل محلها عقيدة حماية البشير ونظامه من السقوط، فأصبح منتسبو هذه المؤسسات هم عبارة عن مليشيات غير منضبطة، وبحكم أنها المسئولة عن حماية عمر البشير فهي محصنة ضد المساءلة والملاحقة القانونية ولذا تفعل ما تريد، فإذا كانت هذه المليشيات تُزهق أرواح الموطنيين داخل المدن والسلطات القضائية لا تستطيع أن تحرك ساكناً فكيف لا يبرحون الأطباء ضرباً؟، بل إن حوداث الإعتداء بالضرب على الناشطين لا تدون في مضابط مكاتب البلاغات وإن دُونت فإنما تُدون ضد مجهولين رغم أن المُعتَدى عليه يعلم يقيناً أن الذين إعتدوا عليه هم أفراد من القوات النظامية وقد يعرفهم بالإسم والرتبة، فهل يا تُرى سيتنازل النظام عن صمام أمانه وحامي ظهره ويحل هذه المليشيات من أجل عيون أطباء السودان؟.هل يذكر أحد من الذين عاشوا عصر ما قبل الإنقاذ أن تجرأ أحد رجال الشرطة او الجيش على ضرب أي مواطن ناهيك عن موظف دولة أثناء أداء واجبه؟ هؤلاء الدهماء الذين يعتدون على موظفي الدولة أثناء عملهم ليسوا بقوات نظامية بأي حالٍ من الأحوال، معلوم أن هناك مواد في القانون الجنائ السوداني تُجرم هذا الفعل، فكيف لرجل يحمي القانون أن يخرقه هو بنفسه إن لم يكن فعلا ليس جندياً حقيقياً.
أتمنى أن يصمد أطباء السودان مهما كانت الصعوبات والتهديدات التي سيلاقونها فهذا هو قدرهم، فهم ضمير هذه الأمة وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم وعلي بقية القطاعات المهنية الأخرى اللحاق بهم فوراً ودونما إبطاء فقد حانت ساعة الوطن وعلى المعارضة السياسية أن تُحرِّض عضويتها للخروج إلى الشوارع والتظاهر في هذه الأيام وأرجو أن لا تغيب عن هذا الموعد مثلما فعلت في سبتمبر 2013م ولا عندما تمت الدعوة للحضور إلى ميدان ابو جنزير ولم يحضروا وقد جاء الأستاذ محمد إبراهيم نقد رحمه الله ولم يجدهم، فكلنا نتطلع ونتشوف إلى إصلاح الأوضاع في بلادنا ولكن الأمور لن تنصلح إلا بإسقاط هذا النظام.
Almotwakel_m@yahoo.com