بقلم عثمان نواى
لم يهتز فضاء السوشيال ميديا السودانى قريبا لحضور شخصية مثل حضور بلقيس إدريس. امرأة سيطرت بوعيها وثقتها بنفسها واتساع قاموسها اللغوى والمعرفى على قلوب وانتباه الكثيرين فى ايام قليلة. قدمت فرادة فى المحتوى ووضوح وصراحة فى الطرح لم يعتد عليها كثير من رواد السوشيال ميديا السودانين، مثقفيهم ومتصفحيهم العابرين. وان كان لمصطلح المؤثرين معنى ومثال فإن بلقيس إدريس هى مثال يقوم بصناعة وعى جمعى جديد، ولم أجد influencer يستحق هذا التوصيف أكثر منها فى الفضاء السودانى.
بلقيس هى أيضا من رائدات الوعى والنشاط السياسي المدافع عن تنوع السودان والمناهض لمشاريع الكيزان ومشاريع التعريب والاسلمة القسرية لسنوات طويلة.
لكن وعى بلقيس وفرادتها اتت أيضا من منبعها الاجتماعى والجغرافى فى منطقة الديوم. تلك المنطقة التى اقتطعت لنفسها جغرافيا وتركيب ديموغرافى فريد. اختلط فيه ماضي السودان الذى يتجنب الكثيرين ذكره مع حاضر يمتنع الكثيرين عن نقاشه. فتاريخ الرق والتمييز الاثنى فى السودان يتلخص ويتمظهر فى متحف تاريخى حى ومفتوح فى ديوم الخرطوم وديوم بحرى. فى مجتمعات لها تاريخ عريق و مساهمة ضخمة فى تشكيل وبناء الخرطوم كمدينة بشكلها الحديث. وقد كتب الدكتور أحمد سيكنجا بتدفق وعلمية عن تاريخ هذه المنطقة وعلاقتها ببناء الخرطوم المدينة عمرانيا و اداريا. ولكن ما يتجاهله الكثيرون او يجهله هو المساهمات الثقافية و الإبداعية والسياسية من جانب شعبوى وليس سلطوى لمنطقة الديوم.
فإن التأثير السحرى لهذه المنطقة على قاطنيها ومن خالطهم لا يمكن وصفه سوى بأنه يجعل الإنسان أكثر انسانية، أكثر تقبلا للآخر وأكثر تفهما لما يعنيه هذا السودان حقيقة، وليس سودان الكتب والتلفزيونات والنخب الزائفة.
ان الديوم احتوت اول من قاموا بتسمية أنفسهم حركة السودانين، فإن اسم السودان كدولة فى العصر الحديث يدين لهذه المنطقة بالكثير. المعروف ان السودانيين كانوا اهل مناطق الديوم ممن كانوا يحبون وصف أنفسهم بهذا التوصيف لأنهم خليط عرقي نتج عن تاريخ علاقات الرق التى افرزت مجموعات لا يمكنها الانتماء إلى قبيلة او منطقة، بل انتماء ها الوحيد هو ” للسودان”. وقد تمت تسمية بعض هذه المجموعات “بالمنبتين” وهذا توصيف سياسي اجتماعى له دلالة ترسخ لقبلنة الانتماء الوطنى فى السودان. وتوصيف يضع الانتماء للقبيلة هو محدد للهوية الوطنية أكبر من الانتماء للوطن. ومن المثير للسخرية ان يحتقر السودانيون ايام الاستعمار وبعدها بسنوات اسم السودان نفسه لانه اتصف به هؤلاء. وان هذا لحكى طويل له مساحات أخرى.
لكن بالعودة.. إلى بلقيس والديوم، فإن الديوم قطنتها مجموعات مختلفة من قبائل سودانية عديدة، وسكنها كثير من اللاجئين إلى السودان فى العقود الأخيرة كما سكنها كثير من الباحثين عن مكان متسامح مع التنوع والابداع والفنون ومتقبل للمختلف والجديد.
وقد انتجت أحياء الديوم الفنانين والشعراء و الرياضيين من الجنسين. كما انتجت الكتاب والسياسيين الفاعلين شعبيا. ويعلم الجميع اسهامات مناطق الديوم أحياء وسكان فى ثورة ديسمبر المجيدة. وهذا تاريخ قريب جدا. ان ما يميز بلقيس هو انها منتج سودانى ادهش كثيرين لجهلهم ولسطوة خطابات ثقافية معينة قامت بكتم أصوات وتجارب كثيرون أمثال بلقيس، فقط لأنهم لا ينتمون للسردية المتبناه من أصحاب السلطة لماهو السودان او من هم السودانيون شكلا وانتماءا ووعيا.
الديوم هى فى الحقيقة ربما تكون المجتمعات الحضرية المدينية الاعرق فى الخرطوم وربما السودان ككل. فإن مساحات التلاقى الحضري فى أطر تتجاوز العلاقات التقليدية المبنية على القبيلة والمنطقة الجغرافية لهو اهم صفات المجتمعات المدينية. مجتمع الديوم يتعامل مع الفرد ويعطيه قيمته الإنسانية بناءا على ذلك وليس بناءا على انتماؤه او لغته او لونه. من ناحية أخرى فإن الانفتاح على الاحتياجات البشرية من طعام وشراب وجنس وعدم وضعها سوى فى اطارها الإنسانى جعلها مناطق لها قوانين حضرية حاول البعض قديما وحديثا وصفها بالانحلال ووضعها فى قوالب أخلاقية. ولكن مدى الأخلاقية فى الديوم لا يمكن الحكم عليه منفصلا عن اى معيار اخلاق يحكم مدينة الخرطوم كلها بل والسودان كله. فسكان الديوم ليسوا من خارج السودان ومن يستفيدون من اى خدمات تجارية او اجتماعية فى الديوم هم قاطنو الخرطوم نفسها واخلاقياتهم هى التى تتحكم فى أسواق العرض والطلب لأى منتج او خدمة. فكيف يتم الحكم اخلاقيا على مقدمى الخدمات واستثناء المستفيدين منها من ذات الحكم الأخلاقى؟ فك هذا التناقض له علاقة وثيقة بهيمنة خطابات معينة على الوعى الجمعى السودانى، ومما اوردت الخرطوم وأهلها الا موارد الهلاك الذى تعيشه الان.
وقد تعرضت بلقيس لتنمر كثيرين ولكنها أبدعت فى الرد على المتنمرين بما يصلح لان يكون منهجا يدرس. فكان ردها ممزوجا بالسخرية والفكاهة والوعى واللغة الراقية المتحصنة ب wide range of vocabulary. وما التنمر عليها الا لاختلافها الذى يجعلها ماهى عليه. ودفاعها عن اختلافها هو دفاع الحقيقة عن حقها فى الوجود وحق كثيرون غيرها. ومع دمار الخرطوم الذى يجرى الان، فإن من يفكرون فى إعادة بناء الخرطوم المدينة على المستوى المجتمعى والسياسي يجب أن يتعلموا التعايش وتقبل للآخر واحترام اسس البنية المجتمعية الحضرية المدينية من الديوم وأهلها.
و تستمر بلقيس الملكة فى رفع عرشها من القيم الرفيعة والوعى العميق بين عقول وقلوب السودانيين لتريهم ان فى السودان ماهو أكبر وأجمل مما يتخيلون ويعرفون او يرغبون.
Osman.habila@gmail.com