بقلم عثمان نواي
ان عصر الاقطاع كما عرفته القرون الوسطى في مناطق عدة من العالم يبدو أنه لا زال مستمرا بتفاصيله في السودان. وأول مظاهر هذا الاقطاع هو وجود طبقة من الأسر الارستقراطية ذات الامتيازات التي تفوق ما لدي اللوردات في العصور الوسطى. فالاسر الارستقراطية في السودان لها مساحات حركة وسلطة واسعة تتعدى السلطات السياسية والاقتصادية. هذه السلطات تنتج عن وجود شبكة من العلاقات التحتية الظاهرة وغير الظاهرة للعلن بين هذه الأسر وبين السلطات الحاكمة من جهة وبين رؤوس الأموال، من جهة وبين القوى الأجنبية والإقليمية ذات العلاقة والمصلحة في السودان. هذا أضافة إلى العلاقات الشبكية والتي بعضها يصب إلى درجة النسب والزواج البيني المتبادل مع كافة البيوتات السياسية والدينية والقبلية والطائفية. هذه الخلفية من العلاقات ومساحات السلطة وضعت أرضية ثابتة من الامتيازات التي تجعل هذه الأسر ليس فقط في مأمن من أي محاسبة بل تجعلها أيضا في مامن من تغيرات الحكومات وتقلبات السياسة والاقتصاد، حيث أن قاعدة علاقاتها تتسع للعلب في كل المعسكرات مهما تغيرت الأوضاع سياسيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا.
أحدي أمثلة هذه الأسر الارستقراطية تجلت عبر الحديث المنشور على صفحات التواصل الاجتماعي بكثافة في الأيام الماضية حول مؤسسة جامعة الأحفاد وملاكها اسرة رائد تعليم البنات بابكر بدري. وفي كثير مما نشر نجد الأسئلة الموضوعية ليس فقط عن موقف المؤسسة من تصرفات عميدها، ولكن وبعد الصمت الطويل من جامعة الأحفاد كمؤسسة وعدم خروج بيان عنها أو أي منشور رسمي يعبر عن موقفها، أصبح من المشروع التساؤل عن مؤسسية الجامعة نفسها. ويجدر أيضا التساؤل حول ما إذا كانت هذه الجامعة الخاصة هي مؤسسة ذات هيكلة مستقلة عن الأسرة ام هي كيان تابع للأسرة ليس له نظام هيكلي إداري مستقل.
هذه الأسئلة تبدو مشروعة في ظل الصمت الذي يجري من الجامعة الان على ما بدر من عميدها من تصرفات وتصريحات. في حين طالب البعض بأن يقدم العميد استقالته يبدو أنه من المنطقي أكثر مع تعقيد الأزمة وجوانبها المتعلقة بوجود تساؤلات حول طبيعة البيئة التعليمية والقيم الأكاديمية التي تدار بها الجامعة، من المنطقي الان إجراء عملية مراجعة وإعادة تقييم كاملة للجامعة كمؤسسة تعليمية وتربوية وأكاديمية تدير أيضا مراكز بحوث ومنظمات مدنية من المفترض انها تعمل لخدمة المجتمع والصالح العام. وذلك في إطار خروج أصوات من الطالبات وأفراد من الأسرة تعبر عن الدفاع عن موقف لا يمكن الدفاع عنه من قبل العميد، ووصف ممارساته في العنف والضرب بأنها ممارسة عادية. فإن هذا الفكر نفسه يحتاج إلى مراجعة إذا كان هذا هو المنهج العلمي الذي يخرج مثل هذه الأنماط من التفكير الدوني والتعايش مع القهر بين طالبات الجامعة واللائي يعتبرن من صفوة المجتمع المهنية والأكاديمية بعد التخرج. مما يهدد بخطر جام على المجتمع بأكمله. كما أن لدى المجتمع السوداني التحقق من مدى مؤسسية الجامعة وقدرة إدارتها على الحفاظ على القيم التي تدعي التبشير بها. لأن ما جرى من العميد يقدح في قلب مصداقية هذه الجامعة وكل ما يتبع لها من هيئات ومؤسسات في ظل صمتها المستمر . وبالتالي فإن هذا الصمت إنما يفسر لصالح التماهي والاتفاق مع ما حدث. والا فإن عدم وجود مواقف واضحة يؤكد على عدم صلاحية هذه الهيئات للقيام بما تدعيه من توعية بالحقوق وتعليم وتنمية المجتمع والمرأة.
من منحى آخر في اتجاه مؤسسية الجامعة يبدو أيضا التساؤل مشروعا حول ما يقال عن أن الجامعة تستفيد من منح وهبات وتمويل خارجي، وأنها تروج لنفسها على أنها تقوم بتعليم البنات من الطبقات الفقيرة ومن الهامش. وكون الجامعة تقوم بهذا الدور في التعليم له ما يثبته من الواقع وهو دور مقدر. ولكن السؤال هو الي اي مدى يوجد تمثيل لهذه المجموعات في هيكلة الجامعة الإدارية.؟ وفي مجالس إداراتها أو هيئاتها المالية؟ . ان مؤسسة بهذا الحجم تقدم خدمات تعليمية كبيرة من المهم أن تمارس قدر من الشفافية يليق بما تقول انها تقدمه.
ما سبق أعلاه هي تساؤلات حول مؤسسية الجامعة لا نملك لها إجابة واضحة، لكن الجامعة مطالبة بأن تثبت مدى مؤسسيتها. و ان تقوم برد فعل يناسب الحدث الذي أصبح على السنة الإعلام المحلي والدولي. لكن الأهم هو الشعب السوداني والمرأة السودانية التي فقدت الثقة في إحدى قلعات التنوير كما كان يظن الكثيرون. حيث أصبح من المنطقي الان التساؤل عن ما إذا كانت هذه قلعة تنوير فعلا ام انها لم تكن سوى إحدى اقطاعيات الاسر الارستقراطية في السودان التي تمارس فيها كل ما تريد دون أن يقول لها أحد (عينها في رأسها) كما قال قاسم بدري عن نفسه.
وان كانت الاحفاد إحدى نماذج اقطاعيات الأسر الارستقراطية السودانية، إذن يجب التوقف طويلا جدا في هذه القضية . ليس فقط لأنها نجحت في تسويق نفسها بصورة عكسية تماما، بل لأن كل مافي البلد من مؤسسات الدولة والصحافة والمجتمع المدني لم تتمكن من اختراق ورصد هذه الممارسات التي تعد انتهاكات بصور متعددة. فأين الصحافة الاستقصائية من تحري القضايا الهامة التي تؤثر على المجتمع واين مؤسسات المجتمع المدني التي للأسف للجامعة علاقات وثيقة مع كثير منها من لعب دور الرقيب المدني والبحث عن مصالح المواطنين بشكل فاعل. أما الدولة فهي في فسادها تعيث.
ان ما نشر خلال الأيام الماضية لا يدك فقط أسس الأحفاد، بل يدك في أسس المعتقدات العمياء التي ترى الألقاب والأسماء فتصاب بالعمى والصمم عن كل العيوب التي قد تأتي من تلك الاسماء والأسر الارستقراطية التي تحملها. وللأسف أن السودان على مستوى الحكومات والسوق والتعليم والصحة والدين والمجتمع والإعلام هو عبارة عن اقطاعيات مملوكة لأسر منها التاريخي كآل بدري أو الأسر والبيوتات الطائفية والقبلية ومنها الأسر الحديثة نسبيا التي نمت طفيليا في عهد نميري ثم تزايدت مع قدوم الإنقاذ ووصولنا إلى عهد آل البشير في كافوري.
هذا النسيج الاجتماعي الارستقراطي المتماسك جدا يصنع جدران صلبة من الحماية والامتيازات التي تجعل كل من داخلها في حالة حماية تامة وله كامل القدرة علي التصرف في كل السودان شعبا وأرضا بلا محاسبة. وهذه الاسر الارستقراطية والشلليات العسكرية وايضا الموظفين الكبار هي التي تلعب لعبة السلطة والثروة في السودان منذ الاستقلال. وتقوم ببناء حواجز طبيعية للحماية من خلال الانتماءات الاثنية والعرقية والدينية إلى المركز المهيمن وبالتالي ضمان مواصفات حصرية للحصول على الامتيازات التي هي اصلا محصورة سلفا في تلك الاسر التاريخية مع منافسيها من الأسر الحديثة التي تنتهج ذات النهج وتعلمت كيفية السيطرة بنفس الأدوات التي وجدت الأسر التاريخية تسيطر بها. من المخيف أن الكثير من هذه الاسر الارستقراطية لا تعبر عن وجودها علنا في السياسة مثلا ولكنها تعرف جيدا كيف ترعى مصالحها في الخفاء مع كل اللاعبين السياسين وكل الحكام ولذلك كان من ديدن ال بدري ربما منع التظاهر في الجامعة ليس فقط حماية للطالبات ولكن حماية لحيادية الجامعة أو في الحقيقة ربما حماية لحيادية ومصالح الآسرة. َ
أن المعركة الأساسية للتغيير في ألسودان هي معركة تتجاوز عمر البشير ورهطه إلى التفكير في كيفية التخلص من هذا النظام الآسري الارستقراطي الاقطاعي الذي يعتبر كل الشعب جزء من هذه الاقطاعية بادعاء الأبوة أو غيره يضرب ويعاقب ومن ثم يرفض أي محاسبة أو أعتراف بالجرم. هذه الكيانات الارستقراطية الاقطاعية النخبوية هي التي تحافظ على بقاء السودان كدولة يسودها التمييز العنصري والتمييز ضد المرأة والفقر الاقتصادي والجهل والأمية حتى تحتفظ بكل اقطاعياتها دون أن يكون هناك مواطنين ومواطنات واعين بحقوقهم وقادرين على إقتلاعها والمطالبة بها ونزع تلك الامتيازات من أصحابها والعيش في وطن تتساوى فيه النساء والرجال والاعراق والثقافات جميعا. هذه هي المعركة الحقيقية للتغيير لنزع هذه الحقوق في أن يكون الوطن ملكا للجميع وليس القطاعية مقسمة لأسر تحتكر البلاد في جيوبها منذ عقود في كافة المجالات من الدولة إلى السوق الي التعليم والصحة وحتى المجتمع المدني. هذه هي خطورة الوضع وهذه هي معركة المستقبل التي يجب على كل سوداني و سودانية الاستعداد لخوضها الان حتى لا نسقط البشير اليوم فيأتي بعده الف بشير أو قاسم آخر.
nawayosman@gmail.com
تعليق واحد
Very consistent, open to declare the standard of sectarian corruption and racism in Sudan. God bless the truth and the writer and talkers of truth always. Thank you Osman Nawai, all the donors are supporting Ahfad Girls University sincerely, thinking that 100% or say 75% of the resources are geared to the needy. Yes, they had played big role in helping the girls education in Sudan but what is really inside there since no code of conduct to discipline the directors and the staff of mostly family composed care in this university?