د. فيصل عوض حسن
في مقالتي (اَلْصَحْوَةُ اَلْسُّوْدَاْنِيَّة: مَحَاْذِيْرْ وَمُتَطَلَّبَاْت) بتاريخ 22 ديسمبر 2018، رَجَوْتُ شباب السُّودان الذين خرجوا للشوارع وَوَاجهوا الموت ببسالةٍ/شجاعة، بأن (يحموا) ثورتهم التي دفعوا ثمنها من دمائهم الطَّاهرة وألا يسمحوا بـ(سرقة) تضحياتهم، ونصحتهم بعدم التَرَاخي والإسراع بالانتظام في مرجعيَّةٍ شبابيَّةٍ واحدة، يُشكِّلونها ويُديرونها بأنفسهم (دون وِصَاية)، وبعيداً عن طُلَّاب السُلطة وتُجَّار الحروب.
اتَّسعت الاحتجاجات بدءاً بالأقاليم في 12 ديسمبر 2018 بسرعةٍ مُذهلة، فبحلول يوم 25 ديسمبر 2018 شملت الاحتجاجات كلاً من: الدمازين، الفاشر، بورتسودان، عطبرة، بَرْبَرْ، دُنْقُلَا، كريمة، كَسَلَا، الأُبَيِّضْ، القَضَارِفْ، الجزيرة أَبَا، كُوْسْتِي، رَبَكْ، سِنَّاْرْ، مَدَني/الهِلَاليَّة، النُّهُود، أُمْدُرْمَان، بحري والخرطوم، وكان بالإمكان القبض على غالِبِيَّة (قَادَة) المُتأسلمين، إذا استمرَّ الحِرَاك الشعبي بنفس القُوَّة والسُرعة، لولا ظهور تَجَمُّعِ المِهَنيين (المُفاجئ) وقفزه فوق الحِرَاكِ، مُتدثِّراً بوجوه (شبابِيَّة) غير مألوفة، تمَّ (تضخيمها) وتقديمها كمُستقلِّين، حتَّى يَتَقَبَّلهم الشعب الذي كَرِهَ جميع الكيانات (مدنِيَّة/مُسلَّحة).
افتقد المِهَنِيُّون التَجَرُّد/الصدق والوفاء، واهتمُّوا بـ(تعطيل) الثورة وتحجيم (صُنَّاعها) الحقيقيين من عامَّة الشعب، دون طَرْح أي أفكار استراتيجيَّة داعمة للتغيير، أو مُبادرات مُؤسَّسيَّة لتسيير الدولة، فكل ما قَدَّموه للثورة (جداول) تَظاهُر كارثِيَّة/مُتهوِّرة، كدعواتهم للسَيْرِ من جبرة أو الثورة إلى القصر الساعة الواحدة ظهراً و(بالأقدام)، أو التَوجُّه من لَفَّة القُبَّة جنوباً (نحو معسكر الاحتياطي المركزي)، وغيرها من الأفكار/الدعوات التي أضَرَّت بالحِرَاك، وخَلَّفت خسائر بشريَّة كبيرة (دون مُقابل)، ثُمَّ أكملوا (غدرهم) بالتَحَالُفِ (دون تفويضٍ شعبي) مع الكيانات الانتهازِيَّة، التي رفضناها/تجاوزناها وصنعنا الثورة بدونها! وما أن تَشَكَّلَت جماعة الحَرِّيَّة والتغيير (قحت) إلا وبدأت الربكة/الخلافات، وشَاهَدنا أسوأ صور الغَدرِ والانبطاح، والتَسَابُقِ للتَفَاوُض (الانفرادي) مع العَسْكَر، والسفر (خِلْسَةً) للإمارات وغيرها من مظاهر الخزي، وتَرَاجَعت التظاهُرات الشعبِيَّة التي غَطَّت 13 مدينة/منطقة في أقل من أسبوعين، لتُصبح فقط في (حَيَّيْنِ) اثنين أو ثلاثة من أحياء الخرطوم، عقب قيادة المِهنيين/قحت، و(تَقَزَّمَت) السقوف المَطلبِيَّة إلى (التَفاوُضِ) بدلاً عن (الإسقاط الكامل) للمُتأسلمين، وهذا أوضحته باكراً في مقالتي (خِيَاْنَةُ اَلْثَوْرَةِ اَلْسُّوْدَاْنِيَّة) بتاريخ 22 يوليو 2019.
صَوَّرَ المِهنِيُّون/قحت التفاوُض والاعتصام كـ(إنجازات)، تُتيح لهم أحقِّيَّة (الاسْتِوْزَار/التمكين) دون غيرهم، وهذه (خِدْعَة) مُركَّبة لم ينتبه لها الكثيرون حتَّى الآن! فالتفاوُض لم يكن مَطْلباً شعبياً أبداً، وإنَّما خيار الكيانات الانتهازِيَّة على اختلاف مُسمَّياتهم (نداء سُّودان، جبهة ثوريَّة …. إلخ)، لأنَّ خيار الشعب هو اقتلاع المُتأسلمين من الجذور. وأمَّا الاعتصام، فقد (صَنَعته) جماعة قحت/المِهَنِيُّون دون استراتِيجيَّة نَّاضجة/واضحة، ورفضوا الأفكار الدَّاعمة له من قِبَل العديدين، وأغرقونا في تصريحاتٍ وصراعاتٍ (هايفة). ولو شئنا الدِقَّة، فإنَّ الاعتصام سَمَحَ لـ(قادة) المُتأسلمين وأُسرهم بالهروب للخارج، وقَلَّلَ نِسَب/احتمالات استرداد أموالنا المنهوبة، وأتَاحَ للطَّامعين الخارجيّين فرصة التَدَخُّل وتحوير خياراتنا، وزاد مُعاناتنا الاقتصادِيَّة والإنسانِيَّة والأمنِيَّة. والأخطر، أنَّ الاعتصام كان (وسيلة/آلية) لاقتناص خيرة شبابنا (اغتيالاً وخطفاً/اعتقالاً)، سواء بنحوٍ فردي أو جماعي كما جرى في (مَجْزَرَة) فَضِّه البشعة، التي لم يُصَبْ فيها أياً من رموز قحت/المهنيين، مما يُثيرُ الريبة خاصةً عقب تأكيد (معرفة) كيانات قحت المُسبقة بموعد فَضِّ الاعتصام وانسحابهم من ساحته، ليكون أبناء السُّودان وحدهم (الضحايا)، والآن يَتَرَاخى القحتيُّون/المِهنِيُّون في مُلاحقة/مُعاقبة مُرتكبي تلك الجريمة البشعة رغم أن المجرم معروف للجميع ولا يحتاج الى تشكيل لجان او خلافه لإثبات الجرم!
اكتمَلت خيانة/سرقة الثورة بتمثيليَّة الوثيقة الدستوريَّة، والاتفاق الكارثي الذي مَنَحَ (الشرعيَّة) للمُجرمين، وحَصَّنهم من المُلاحَقة/المُحاسبة والعقاب، وأغفل المليشيات المُسلَّحة وتسليم قادتها/أفرادها المُتورِّطين للعدالة، ولم يُوقِف الارتزاق وتجارة البشر. كما أغفل (المفقودين) الذين صنعوا الثورة بدمائهم وأعراضهم، وتجاهل التغيير (المُتسارع) للتركيبة السُكَّانِيَّة والتجنيس العشوائي، وإعادة النَّازحين لأراضيهم الأصيلة وتعويضهم، واسترجاع الأراضي المُحتلَّة، وهيكلة القُوَّات النِّظامِيَّة وتعديل القوانين/التشريعات، وغيرها من الجوانب التي لا يسع المجال لتفصيلها. ثُمَّ أتى القحتيُّون/المِهَنِيُّون بحمدوك ليُواصِل التضليل وتغبيش الوعي، بمُسَانَدَةِ طاقمه (الكارثي) خاصةً وزير المالِيَّة، وبعض الأرزقِيَّة و(الغافلين) الذين تَبَنُّوا حملات تضخيمه (الأسطوريَّة)، وتخوين كل من يُحاول التوعية والإشارة لكوارثه المُتلاحقة/المُوثَّقة، وعدم إيفائه بأيٍ من وعوده التي أطلقها فور إعلانه رئيساً للوُزراء، وثَمَّة تفاصيل بمقالاتي (إِلَى أَيْن يَقُوْدُنَا حَمْدوك) بتاريخ 24 سبتمبر 2019، و(المُتَلَاعِبون) بتاريخ 24 أكتوبر 2019.
المُجتمعون بجوبا لا يختلفون عن المُتأسلمين والمهنيين/قحت وأزلامهم، فهم يُنفذون سيناريو أخطر وأكثر انحطاطاً، مما حدث بنيفاشا التي أفضت لفصل الجنوب وحده، بينما يجري الآن العمل على تذويب/تلاشي السُّودان بكامله، ويتضح هذا التآمُر من التَعَدُّد والتقسيمات (المُفاجئة) لما يُسمَّى مسارات تفاوُض، وإيجاد مقاعد/مسارات وَهمِيَّة للبعض، و(فَرضْ) مُعطيات مُغلقة كـ(العلمانِيَّة) وخياراتها/بدائلها، مع تَعَنُّت كل طرف وتُمَسُّكه برأيه، بما يُفضي لخياراتٍ مُحدَّدةٍ بدقَّة (سلفاً)! ولو كانوا صادقين/قادرين فعلاً، لما جلسوا مع المُرتزق حِمِيْدْتِي من أساسه، لأنَّه كان ولا يزال (أداة) الإبادة والإجرام في السُّودان عموماً، ودارفور والمنطقتين والشرق بصفةٍ خاصَّة، وهي المناطق التي يُتَاجر المُتواجدون في جوبا بقضايا ودماء أهلها.
إنَّ الثورة (الوحيدة) التي صنعها السُّودانيُّون بصدقٍ وثبات تَمَّت سرقتها بدمٍ باردٍ، وغالبيتنا إمَّا غافلون أو مصدومون، في ما يُواصل الخَوَنة عمالتهم وارتزاقهم، ولا اعتقد أنَّ السُّودانيين ضَحُّوا بأنفسهم وأعراضهم ليَسْتَوْزِر المُرتزقة و(الانتهازيين/الطُفيليين)، وينجوا المُتأسلمين و(أزلامهم) من المُحاسبة والعقاب، وتُسْتَبَاح البلاد وأهلها من مُغامري الدَّاخل والخارج. لكننا نَشَدْنا وطناً حُراً عزيزاً، يَنعُم فيه الإنسان بخيرات/موارد بلده بعدالةٍ وكرامة، وهذا لم ولن يَتحَقَّق بوجود هذه الكيانات الانتهازِيَّة، التي أعاقت – ولا تزال – أي جهود مُخلصة/صادقة لإعادة بناء السُّودان، على أُسُسٍ إنسانِيَّةٍ وقانونِيَّةٍ وأخلاقِيَّةٍ وعلميَّةٍ سليمة.
لا أملك إلا تجديد دعوتي لشبابنا السُّوداني عموماً، وللجان المُقاومة خصوصاً – أصحاب الوَجْعَة – لتَبَنِّي الفكرة التي طرحتها منذ 2014، وتتعلَّق بتشكيل مجلس شبابي/سِيادي من كل أقاليم السُّودان، وفق التقسيم الإداري: دارفور، كردفان، الشرقي، الأوسط، النيل الأبيض، النيل الأزرق، الشماليَّة والخرطوم، وبمُعدَّل شابَّينِ اثنين/للإقليم (16 عُضواً)، يختارهم أبناءُ الإقليم المعني بأعمارٍ بين 25-55، بغض النظر عن دياناتهم أو أعراقهم أو أنواعهم (ذكور/أُناث)، لنضمن تمثيل كل السُّودانيين في الحكم، على أن يختار أعضاء المجلس (في ما بينهم) رئيساً ونائباً، ويُحَبَّذ لو أُخْتِيرَت امرأة لرئاسة المجلس، تقديراً لمُساهمة المرأة السُّودانِيَّة القوِيَّة في الجهود النِضالِيَّة. وهناك أكاديميين (مُستقلِّين) كُثُرْ، مُستعدِّين لمُساعدة الشباب بإعداد/تجهيز استراتيجيَّة رصينة للفترة الانتقاليَّة (خمس سنوات)، مع خطط عمل تنفيذيَّة تفصيليَّة وفق مواردنا المُتاحة فعلاً، دون وِصايةً أو مَطامع مالِيَّة/سُلْطَوِيَّة. والأكاديميُّون مُستعدُّون كذلك للمُساعدة في صياغة شروط/مُوهِّلات المناصب الوزاريَّة المعنيَّة، وفقاً للكفاءة والتخصُّص (المُؤهِّلات العلميَّة والخبرات العمليَّة)، بعيداً عن الميول الحِزبيَّة أو الديانة أو النوع أو الإقليم، وترشيح ثلاثة أسماء (بالتَسَلْسُلْ) لكل وزارة، وتبريرات اختيارهم ليختار المجلس أحدهم، مع دمج/ضغط الوزارات الاتِّحادِيَّة وإلغاء وزراء الدولة، واستبدال الوزارات الإقليميَّة بإداراتٍ عامَّة، كالإدارة العامَّة للشئون الماليَّة (بدلاً عن وزير الماليَّة)، لتعمل تحت إشراف حاكم الإقليم، ولكن وفقاً لمُوجِّهات الوزارة الاتحاديَّة المعنيَّة. وبالنسبة لنظام/شكل الحكم (فيدرالي/مركزي/لامركزي وغيره)، فيتم الاحتكام لمبادئ الإدارة العلميَّة الرَّصينة لاختيار النظام/الشكل الإداري، حسب توفُّر مُقوِّمات/عوامل نجاحه (إداريَّة، اقتصاديَّة/ماليَّة، ثقافيَّة/معرفيَّة، اجتماعيَّة وسياسيَّة)، بعيداً عن الارتجال و(دَغْدَغَة) المشاعر، وبعد انتهاء الفترة الانتقالِيَّة يُمكن إعادة انتخاب أعضاء المجلس الشبابي، أو اختيار آخرين بحسب رغبة أبناء الإقليم المعني.
هذه الآلية كإطارٍ عام قابلة للإثراء، وربَّما تكون (واقعيَّة) للخروج من أزمة إدارة الدولة، ثم البناء عليها وتطويرها باستمرار بما يدعم نهضة السُّودان، وهي اختبارٌ/تَحَدِّي حقيقي لبلورة شعار إتاحة الفُرصة للشباب، وتعزيز مُشاركتهم في الحُكم. ومن مزاياها تقليل الإنفاق العام، وعَدَالة وحُرِّيَّة اختيار أبناء السُّودان لمُمثِّليهم، وحَسْم إشكاليَّة التهميش نهائياً، عبر وجود تمثيل دائم لكل إقليم في المجلس. ومن جهةٍ ثالثة، سيُشرف المجلس الشبابي، على كافة مراحل إعداد الدستور الدائم للسُّودان، وإجراء أي انتخابات تجري بعد ذلك وفقاً لهذه المُعطيات. ولعلَّ من الأوجب، التحرُّك بسرعة وتنظيم الصفوف وتكثيف التواصل الشبابي، لتشكيل مجلسهم وعدم إهدار الوقت في بيانات (استجداء) المُغامرين والانتهازيين، الذين يمضون في تنفيذ أوامر/توجيهات سادتهم بالخارج.
إنَّ التَلَكُّؤ/التأخير سيكون ثمنه زوال/تذويب ما تَبقَّى من السُّودان، فلقد أفْرَطَ القحتيُّون/المهنيون وأزلامهم في الاستخفاف بالسُّودانيين وتضحياتهم، وبلغوا حدوداً غير مسبوقة من السفور والانحطاط، ودونكم أنَّ رئيس الوُزراء الذي (فُرِضَ) على الثورة بتضليلٍ سافر يتغاضى عن ملفَّات خطيرة وحَسَّاسة كمطبعة العُملة وبنك السُّودان وغيرها، ويقبل بالمحاكمة الصورية للبشير، ويرفض مُقابلة الشعب عموماً وأسر الشهداء خصوصاً، ويتلكَّأ في إعادة المفصولين تعسُّفياً، ويلتقي/يحتفي بكبار المُتأسلمين وخُبثائهم، ويُعيِّنهم في أخطر الوظائف كرئاسة القضاء ووكالة الماليَّة والسفارات وغيرها، رغم تمثيليَّة (التفكيك) الهَزلِيَّة/السخيفة.
أثق تماماً في قدرة شبابنا بلِجان المُقاومة في إنجاح هذا التَوَجُّه وبَلْوَرته لواقعٍ مُعاش، لأنَّهم أصحاب الوَجْعَة الحقيقيّين، وهم أكثر أخلاقاً وصدقاً، ولا تنقصهم العقول/الكفاءات في مُختلف المجالات والمُستويات، فَلْيَكُونوا الوطَن ويقودوه دون وِصَايةٍ أو إقصاء، وسينجحون دون أدنى شك في استرداد ثورتنا السُّودانِيَّة المسروقة.
مُلاحظة: عقب فراغي من هذه المقالة، قرأتُ تحذيراً للحركة الإسْلَامَوِيَّة للحكومة الانتقالِيَّة نَشَرَته صحيفة الانتباهة الكيزانِيَّة يوم الأحد 2 فبراير 2020، أبرز ما فيه أنَّ “صَمْتَهُم لم يكن عَجزاً، ويأملون إلا يُضطرُّوا للمَواجهة”.. فتأمَّل..!