د. فيصل عوض حسن
هَوَانٌ في اللُّغَةِ تعني الضَعْفْ والخِزْيْ، ويُقال أيضاً الهُوْنْ، وكلاهما (الهُوْنْ أو الهَوَانْ) عكس/نقيض العِز، فيُقال هَانَ أي ذَلَّ وحَقَّرْ، أو هَوْناً/هَوَاناً أي ذُلْ ومَهَانَة، أو أَهَانَ/إِهَانَة أي اسْتَخَفَّ به/احتقره/أَذَلَّه وقَلَّلَ من قَدْره، أو لَمْ يَنْظُرْ إِلَيْه بِعَيْنِ الاعْتِبارِ وهكذا. ولقد قادني لهذه المُقدِّمة اللُّغَويَّة، ما يحياه السُّودانيون من هَوَانٍ فاق حدود الوصف والمعقول علي يد العصابة الإسلاموية الحاكمة.
وفي الحقيقة، يصعُب الحديث عن البشير وعصابته، فأفعالهم ومُمارساتهم أَلْقَت بظلالها الكارثية على كافة الأصعدة، وتحتاجُ لمُجلَّداتٍ ويصعُب تحديدها وحَصْرُها في جوانبٍ مُعيَّنة، غير أنَّ ما يُمكن تأكيده هو اعتمادهم الكامل على (العُنف)، بدءاً بانقلابهم على السُلطة ومُحاولاتهم المُستَميتة لشَرْعَنَة تجاوُزاتهم باسم الدين، ودَغْدَغَة المشاعر وإضفاء (القُدسية) على تلك المُمارسات، وتنصيب أنفسهم أوصياءً على البلاد وأهلها وخياراتهم، وتصوير كل ذلك كأوامر إلهية (عبادة). وكانوا – ولا يزالون – في حالة تحذيرٍ دائمٍ من خصومٍ وهميين/مجهولين، ليُبرروا جرائمهم وفقاً لهذا التضليل، أو ما يُعرف بمنهج (الغاية تُبرِّر الوسيلة)، وما نحياه الآن من مَهَانَةٍ وأزماتٍ مُتراكمةٍ وخطيرة، تُهدِّد بقاء السُّودان كدولة وتُنذِر بزواله، عبارة عن نتيجة إجمالية لتلك المُمارسات الإسلاموية!
فواقعنا الماثل يقول بفُقدَاننا أجزاء واسعة من أراضينا، بالاحتلال الجَبْرِي كالاحتلالين المصري والإثيوبي، أو عبر الرَهْنْ/البيع كحالة الصين والإمارات السعودية وغيرهم! وإيقاعُ الإجرام الإسلاموي ضد الشعب السُّوداني مُتسارع، خاصةً القتل وبأكثر من وسيلة، كالقنابل والصواريخ والبراميل المُتفجِّرة والأسلحة الكيماوية (حالة دارفور والمنطقتين)، أو القتل بالرُصَّاص كما جرى ببورتسودان وكسلا وكجبار وأمدوم وشمبات والحماداب وفي الجامعات والقائمة تطول! فضلاً عن القتل بالمواد السامَّة كالسيانيد أو بالنفايات التي دفنها المُتأسلمون بأكثر من منطقة، أو بالأطعمة المُسَرطَنَة التي تملأ الأسواق، أو بالمُخدَّرات الواردة للبلاد برعاية رؤوس الفجور الإسلاموي الحاكمين! وهناك سعيُ المُتأسلمين الحثيث لتغيير التركيبة السُكَّانية، بأكثر من أُسلوب كالقتل والتعذيب والاغتصاب والاعتقال، أو التجويع والتشريد من الخدمة وتشديد الضغوط الاقتصادية بما يدفع السُّودانيين لِهَجْر البلاد. وفي المُقابل يستقبل المُتأسلمون الأجانب، ويمنحونهم المزايا المحجوبة عنَّا، وبعضهم يشغل مناصباً دستورية وحَسَّاسة، ويتحكَّم في حاضر ومُستقبل البلاد وأهلها. واللافت أنَّ تغيير التركيبة السُكَّانية للسُّودان، يتم بدعمٍ إقليميٍ ودوليٍ فاضح، ودونكم الأموال الأوروبية التي منحوها للمُتأسلمين بحجَّة مُحاربة تجارة البشر (حسب زعمهم)، أو الأموال العربية مُقابل استقبال وتوطين الروهينقا والبدون و(غيرهم) خصماً على الشعب ومُقدَّراته، رغم علمهم برعاية البشير وجماعته لتصدير (مُرتزقة) الحروب، وهي جريمة أخطر من تجارة البشر بكثير!
ومُؤخَّراً بدأ المُتأسلمون فصولاً جديدة من إجرامهم دون حياءٍ أو تردُّد، بعدما بَطَشُوا ونَكَّلوا بالعباد، وقاموا بشراء السَّاقطين والمُغامرين، ولَبُّوا رغبات الطَّامعين والمُغامرين من العالم الخارجي، وخصوصاً الموصوفين بـ(الأشقاء)، الذين ينهشون في جسد السُّودان المُبتلى بالبشير وعصابته. والمُتأمِّل للمُمارسات الأخيرة، يَلحَظ جُرأة كبيرة تتَجَاوَز ما كانوا يفعلونه (سابقاً) بتردُّدٍ و(بعض) الحياء! فالمُتأسلمين يبيعون الآن كل شيء مهما كان وبأبخس الأثمان ويتنافسون في هذا، ومن أبرز أمثلة ذلك لجوء البشير لبيع جيشه بالـ(رأس) كما تُباع الدَّوَاب وأصبح استثماراً جديداً، وقوده الأرواح السُّودانية التي يراها (رخيصة)، وعوائده له ولمُعاونيه وخاصَّته من سَقَط المَتَاع! وهناك أيضاً تَسَتُّرْ البشير وعصابته على جريمة فسائل النخيل التي ترتقي لمُستوى الخيانة الوطنية، وبدلاً من المُحاكمة والطرد والتعويض، مَنَحُوا الجُنَاة والمُخرِّبين مساحاتٍ إضافية، وفق ما أعلنوا في مُؤتمرٍ (ارتجالي) عن اعتزامهم زراعة 221 مليون نخلة بالبلاد، والحديث يطول في هذا الجانب وسنُفرد له مساحة تفصيلية لاحقة بإذن الله.
هذه المَهَانَة التي يشهدها السُّودان وأهله، و(قُوَّة عين) المُغامرين والطَّامعين الخارجيين، لها أسبابٌ كثيرة على رأسها (شخصية) البشير (المهزوزة/المُنكسرة)، فهو يستجيب لابتزاز كل من يستغل (تجاوُزاته) المُوثَّقة، كرعايته للجرائم البشعة بدارفور وغيرها، والتي جعلته مُلاحقاً من العدالة الدولية، وأصبحت البلاد وأهلها رهينون بسلامته وأمنه الشخصي، فضلاً عن تورُّط البشير وعصابته في مُحاولة اغتيال حسني مُبارك بأديس أبابا عام 1995، فاستغلَّها المصريون والإثيوبيون واحتلُّوا أجزاءً واسعة من بلادنا، ولا تزال توغُّلاتهم مُستمرَّة وستستمر طالما بقي البشير بالسُلطة. واستغلال الصين للبشير وعصابته كان كبيراً، وخسارتنا كدولةٍ وشعب (مُركَّبة)، فالبشير يسعى لسلامته الشخصية ويطمع في دفاع الصين عنه دولياً، بجانب أطماعه المالية هو وعصابته، لذلك قاموا بمَنْحْ الصينيين أفضل أراضينا ومُقدَّراتنا كضماناتٍ للقروض التي نالوها بشروطٍ لا يقبلها إلا المُخرِّبين والخَوَنة، وأحالوا مُعظمها لمصالحهم الخاصَّة، ويقومون الآن بتسليم (الضمانات) بحِجَجْ التطوير والاستثمار، ولتتأملوا ما يفعله (الآفة) عوض الجاز بمشاريع الجزيرة والرهد والسُّوكي وغيرها. وبذات السياق، استغلَّ (الأشقاء) بالإمارات والسعودية وغيرهما (شخصية) البشير وانحطاط مُعاونيه، فاستولوا على حِصَصهم (فينا)، سواء كانت هذه الحصص أراضي أو عقارات أو مُؤُسَّسات أو ثروات أو بشر!
السببُ الثاني لحالة الهَوانْ التي نحياها الآن، يعود للموصوفين بـ(قادة/زُعماء) وللموصوفين بنُخبة مُتعلِّمة/مُثقَّفة. فقادة/رموز الكيانات بعضهم لا يعرف (الحياء)، وقَبِلَ وبكل (انكسار) بفتات المُتأسلمين وشاركهم الإجرام تأييداً وصَمتاً، لتأتيهم صفعة البشير قوية على نحو ما فعله مُؤخَّراً بتعيين نائبه رئيساً للوُزراء، رغم فروض الولاء التي أبداها الكثيرون في (الوثبة) وغيرها، ومع هذا هَلَّلَوا لذلك التعيين! وبعضُ الموصوفين بقادة/رموز، يتأرجحُون ما بين النضال و(الانبراش)، وبعضهم يُقاتل دون أثرٍ أو نتيجةٍ ملموسة، وجميعهم لا يملكون رُؤية رصينة لإنقاذ ما تبقَّى من البلاد وأهلها، ولم يُبْدِ أياً منهم جهداً (حقيقياً/عَمَلِيَّاً) في سبيل ذلك. وبالنسبة للموصوفين بالنُخبةِ، نجدهم يحيون تَوَهاناً كبيراً إلا القِلَّة منهم، وبدلاً من قيامهم بالتوعية وصناعة التغيير، يَتَّبِع غالبيتهم الموصوفين بقَادَة/رموز بلا وعيٍ أو نقاش، ويستميتون دفاعاً عنهم وعن أسرَهِم أكثر من السُّودان، رغم فشل أولئك (الرموز) ومُتاَجَرَتهم بكل شيئ، وتركيزهم على السُلطة والثروة و(توريثها) لأنجالهم! وبعضُ النُخَبْ يُشاركون المُتأسلمين الإجرام في جماجم البُسطاء وتحطيم البلاد، وبعضها يُجَادِلون في أمورٍ بعيدة عن أزماتنا الحقيقية، ويقعون في الفِخَاخْ الإسلاموية كالمُؤتمرات الإنصرافية وغير ذات الأولوية. والأغرب أنَّ غالبية هذه النُخَبْ، يتساءلون (ببلاهة) عن البديل الآمن دون تفكيرٍ في أن يكونوا هم البُدَلاء!
السببُ الثالث لحالة الهَوانْ التي نحياها الآن، نُجسِّده نحن عامَّةُ الشعب بانسياقنا خلف (الإلهاءات) الإسلاموية، وحَكْمَنَا بالعواطف دون تَدَبُّر/تَعَقُّل، وجُنوحنا للقَبَلِيَّة/الجَهَويَّة والحزبية الضيقة، وتُغَافَلْنَا عن جرائم المُتأسلمين والمُغامرين بالداخل والخارج! فعلى الرغم من قناعتنا الرَّاسخة باستمرار جرائم البشير وعصابته ضدنا (أرضاً وشعب)، ما يزال بعضنا (يفرح) بتنصيب نائبه رئيساً للوزراء، ويتناقل (حَسَناته) المفقودة عبر وسائل التواصُل الاجتماعي بصورةٍ مُدهشة، مُتناسياً أنَّ هذا (النائب الأوَّل) للبشير شريكٌ أساسي، ومحور ارتكازٍ في كل الجرائم المُرتكبة ضدنا. وفي الوقت الذي نرى فيه الدعم الخارجي الكبير للبشير وعصابته، يسعد بعضنا باستثمارات (الأشقَّاء) الوهمية/الكَذُوبة، دون تأمُّل غَدْرْ أولئك (الأشقَّاء) وتعاوُنهم مع المُتأسلمين! وفي الوقت الذي يتلاعب بنا الموصوفين بقادة/رموز ويسعون لإشباع شهواتهم السُلطوية والمالية، نخرج لاستقبالهم بالآلاف، ونَسْعَد لمُشاهدتهم وهم يُمارِسون رياضاتهم الاستفزازية كالتقاط الأوتاد/الخوازيق! وما تبقَّى مِنَّا كشعب، يحيا غيبوبة (صاحية) ويُساهم بفعالية في ترويج الدرامات الإسلاموية، بمُسميَّاتها الغريبة كـ(الوثبة) و(الهوت دوق/الكَلِبْ الحَار) و(الجُقُور آكلة الجُسُور)، ومُؤخَّراً زواج التراضي و(قَسِيمته المضروبة)، أو المُشادات الإسلاموية المُفتعلة والمُوزَّعة بينهم بدقَّة لإلهائنا وإشغالنا بتفاهاتهم التي لا تنتهي!
إنَّ حالة الهَوَانْ التي نشهدها الآن ستتفاقم بنحوٍ أكثر خطورة، وستقود إلى زوالنا (أرضاً وشعب)، وبدأت نُذُرها بالتصاعد أكثر من السابق، ليس فقط ببروز بعض الجرائم غير المألوفة، وإنَّما بجُرأة الجميع علينا لأنَّنا لم نردعهم. ومسئولية إيقاف كل هذا العَبَث والتحوُّل من الانكسار للعِزَّةِ والشُّمُوخ، تقع علينا نحن السُّودانيون بالدرجة الأولى، وليس العالم الخارجي الطامع في مُقدَّراتنا ويستكثرها علينا. ودعوتي أوجِّهها بصفةٍ خاصَّة للمُخلصين من نُخبتنا المُتعلِّمة، للإسراع بوضع استراتيجيات وخطط (عملية/قابلة للتطبيق) لاقتلاع البشير وعصابته، لأنَّهم الخطر الأكبر الذي يُهدِّد بقاء السُّودان كدولة/أرض، ويُمكنهم إدخال مُجادلاتهم الحالية (دين/هوية وغيره) في استراتيجيات وخطط إعادة بناء السُّودان عقب اقتلاع هؤلاء، فليسارعوا الآن للحاق بما تبقَّى من سُّودان قبل زواله!
وأُكرر ما ظللتُ أقوله دوماً، بأنَّنا نحن فقط المعنيون بتغيير أوضاعنا، والخوف والحوار مع المُتأسلمين لم ولن يُجدي، وهم الذين يصنعون الموت والدمار ويسعون لإحداث الفوضى بإصرارٍ واحترافيةٍ فريدة، وعلينا الاتعاظ من تجربتنا المريرة معهم والمُمْتَدَّة لـ(28) سنة، وهي كافيةً جداً للتقييم و(التعلُّم) و(التقويم)، فلنتَّحد بصدق لننجوا جميعاً وإلا لن نجد سوداناً نتجادل بشأنه.