د. فيصل عوض حسن
شَهِدَت السَّاحةُ السُّودانيُّةُ خلال الفترةِ الماضيةِ أحداثاً عديدة، دار حولها الكثير من الجدل ولا يزال، لعلَّ أبرز هذه الأحداث، زيارة نائب وزير الخارجيَّة الأمريكي واجتماعاته (المُغلقة)، و(طَلباته/أوامره) المُتدثِّرة بالحُرِّيات وحقوق الإنسان، كإلغاء المواد القانونيَّة المُتعلِّقة بالرِدَّة والكُفر والأعمال الفاضحة، وتعديل مواد رعاية الطفل والميراث! ومُؤخَّراً، زيارة البشير لروسيا وانبطاحه المُفاجئ و(المُتقاطع)، مع مُحاولاته لاسترضاء أمريكا التي (استجدى) حماية الرُّوس منها، ومع تحالفُاته الخليجيَّة التي بلغت حدود (الارتزاق)!
لتفسير هذه الأحداث والوصول لاستنتاجاتٍ منطقيَّة، من الأهميَّة تشبيكها مع بعض المُعطيات الأُخرى ذات العلاقة. وفي هذا الإطار، وعلى غير العادة، تَحَاشَى البشير وعصابته الإسْلَامَوِيَّة، الحديث عن اجتماعات الأمريكي الزَّائر ومَطَالِبه (الصَّارخة)، وتركوا الأمر لبعض أزلامهم الذين انقسموا لثلاثة آراء رئيسيَّة! حيث وَعَدَ رئيس ما يُسمَّى مَجْمَع الفقه بدراسة المَطَالِبَ، بالتعاوُن مع ما يُعرَف بهيئة العُلماء التي أبدى رئيسها غضباً (ظاهرياً)، ورفض مَطالِب الأمريكان ووصفها بـ(الإملاءات)! في ما أَيَّد أحد مُتأسلمي المُؤتمر الشعبي تلك المَطَالِب بدون تحفُّظ! وانقسم الرأي العام السُّوداني – عموماً – إلى قسمين، بعضهم أيَّدَ مَطَالِب الأمريكان، سواء بحِجَّة الحُرِّيَّات أو نِكَايةً في المُتأسلمين. وبعضهم الآخر لم يَتَعَدَّ الشَمَاتَة/السُخرية، من تَغَيُّر مواقف المُتأسلمين وانبطاحاتهم المُتوالية! ولم يتطرَّق الجميع لـ(دَوَافِع) الأمريكان من تلك المَطَالِب، وهذا هو الأهم والأخطر، لأنَّ أمريكا لا تفعل شيئاً دون حسابٍ أو مُقابل!
والمُتأمِّل للعداء الأمريكي، يجده اشتدَّ عقب (سَطْوْ) البشير وعصابته على السُلطة عام 1989، تبعاً لخطابهم العدائي (المقصود) آنذاك، وتَصَاعَدَ العداءُ بتأييد المُتأسلمين لغزو العراق للكُويت، وتَطَوَّر أكثر بإدخال السُّودان بقائمة الدول الرَّاعية للإرهاب عام 1993، لاحتضان البشير وعصابته للجماعات الإسْلَامَوِيَّة المنبوذة عالمياً وإقليمياً. ثُمَّ قامت أمريكا بتشديد حصارها الاقتصادي عام 1997، وقَصَفَت مصنع الشفاء عام 1998 وخَفَّضَت تمثيلها الديبلوماسي، وصَنَّفَت السُّودان ضمن الدول التي يُمكن مُحاصرتها اقتصادياً عقب أحداث 11 سبتمبر 2001. ووفقاً لهذا العرض المُختصر، فإنَّ البشير وجماعته هم سبب العداء/الحصار الأمريكي، لكنهم لم يتأثَّروا به، حيث تَوَاصَلَ تعاوُنهم مع الأمريكان وبإشراف البشير شخصياً، طِبقاً لإقرارات الطرفين. كما تحتضن الخرطوم أكبر سفارة لأمريكا بأفريقيا والشرق الأوسط، ويستحوذ رؤوس الفجور الإسْلَامَوِي وأُسرهم على جوازاتٍ أمريكيَّة، وبعضهم استقرَّ هناك بشكلٍ دائم! وبعبارةٍ أدَق، صَنَعَ المُتأسلمون العَداء بالتنسيق مع الأمريكان، تحقيقاً لهدفين (مُستَتَرَيْن)، أوَّلهما الأوَّل نهب وتدمير مُقدَّراتنا الوطنيَّة/السياديَّة (الناجحة)، وثانيهما تفتيت وتمزيق السُّودان! فبحِجَّةِ الحصار، تَمَّ تدمير ونهب الخطوط الجويَّة والبحريَّة والسكك الحديديَّة والنقل النهري، ومشروع الجزيرة ومُنشآت السياحة والاتصالات، بخلاف أراضينا الزراعيَّة التي بِيَعَت للغير! وشَكَّلَت ورقةُ الحصارِ (الحافز) الرئيسي لانفصال الجنوب، وفقاً لإقرار المُتأسلمين والأمريكان والمُغامرين أيضاً، الذين أكَّدوا أنَّ أمريكا استخدمت (جَزَرَة) رفع العُقوبات للتوقيع على اتفاقيَّة نيفاشا، وهذا ما يسعون لتنفيذه الآن بالمنطقتين ودارفور، ودونكم الاشتراطات الأمريكيَّة المُتلاحقة على نحو ما عُرِفَ اصطلاحاً بخطَّة المساراتِ الخمسة، ومَطالِبهم الأخيرة التي بدأنا بها هذه المقالة، وتناغُمها مع مَطالِب المُتاجرين بقضايانا (السابقة والمُتوقَّعة)، والتي بدأت نُذرها (قبل وعقب) الزيارة الأمريكيَّة (الملغومة)!
بالنسبة للحَدث الأبرز الثاني، وهو زيارة البشير (المُريبة) لروسيا و(استجدائه) الحماية من الأمريكان، فهي أيضاً تحتاجُ لقراءاتٍ أكثر عُمقاً وموضوعيَّة لبعض المُعطيات، والتي من أبرزها (عَلَانِيَّة) استجداءات البشير، بصورةٍ تختلف عَمَّا أَلِفْنَاه في روسيا من حرصٍ وسِرِّيَّة! إذ لم نعهدهم ينشرون (تفاصيل) لقاءات/مُباحثات (صوت وصورة)، على نحو مقاطع البشير عقب سُوَيْعَات من لقائه ببوتين! وهنا، قد يتَعَلَّلَ البعضُ بـ(غباء) البشير ومحدوديَّة تفكيره وغيرها من الحِجَجْ السطحيَّة، وهذا غير صحيح لأنَّه واعي تماماً لما يفعله، وحَتَّى لو افترضنا (غباؤُه)، فقد كان بإمكان الرُّوس عدم نشرها، خاصةً مع (حساسيَّة) تلك الاستجداءات، مما يدفعنا للتساؤُل عن (أسباب/دَوافع) نشرها؟ ونضيف لذلك، لَهْث البشير وعصابته خلف الأمريكان، كتصريحات غندور قبل وعقب الزيارة، وتأكيداته الشديدة بأنَّهم مُلتزمون بتعهُّداتهم للأمريكان وحُلفائهم بالخليج! ولو قال البعض بأنَّ البشير (يَئِسَ) من التطبيع مع الأمريكان، الذين يُطالبون بتسليمه للجنائيَّة ويرفضون مُجرَّد اجتماع مُوفديهم به، أقول بأنَّ البشير لو لم يكن مُتِّفقاً مع الأمريكان (مُسبقاً) لما سافر إلى روسيا من أساسه، كما وأنَّ الأمريكان لو أرادوا القبض عليه لفعلوها (سابقاً) أو الآن، وما تركوه عاد من زيارته هذه، خاصةً مع بيان الاتحاد الأوروبي في 23 نوفمبر 2017، ومُطالبته بالقبض على البشير احتراماً للمحكمة الجنائيَّة الدوليَّة! وبخلاف هذا، فإنَّ حديث البشير عن سوريا ودفاعه عن إيران وروسيا، يتقاطع مع (تحالُفاته) الخليجيَّة وتحديداً الإمارات والسعوديَّة، اللَّتان تُنعمان عليه بالمال، وتحتضنان أرصدته واستثماراته هو وعصابته!
الرَّاجح، عندي، أنَّ أمريكا آثَرَت التَدَخُّل (المُباشر) لاستكمال مُخطَّط تقسيم السُّودان، بعدما فشل البشير وعصابته في بلوغ ذلك الهدف، واصطدامهم بـ(صلابة/صبر) أهلنا المنكوبين خاصةً بدارفور والمنطقتين، وتَحَمُّلهم للإجرام الإسْلَامُوِي المُتزايد عليهم، والشواهد أمامنا ولا تحتاج لتفصيل. وتَدَخُّلات الأمريكان (المُباشرة)، بدأت (فعلياً) عقب نجاح حملة العصيان المدني أواخر العام الماضي، حيث بادرت أمريكا (فجأة) بالحديث عن رفع عقوباتها الاقتصاديَّة عن السُّودان، رغم وجود أسباب تلك العقوبات و(ازديادها)، حيث تَعَدَّى الإجرام الإسْلَامَوِي حدود السُّودان ليشمل الارتزاق في اليمن، تارةً بحجَّة الدفاع عن الحرمين، وأُخرى لاسترجاع الشرعيَّة التي يفتقدها البشير وعصابته! والأمريكان يعلمون هذه الحقيقة تماماً ولم يوقفوها أو يحسموها، بل بادروا بالإعلان عن رفع العقوبات، لصرف أنظار السُّودانيين وتشتيتهم عن اقتلاع المُتأسلمين لأنَّهم (أداة) تقسيم بلادنا الرئيسيَّة. فطلباتُ الأمريكان ظاهرها رحمة وباطنها خُبثٌ وشر، ولو كانوا حريصين على السُّودان وأهله، لحاصروا البشير وعصابته و(حَطَّموهم) كما فعلوا ببلادنا ومُقدَّراتنا الوطنيَّة!
وبالنسبة لزيارة روسيا و(انبطاح) البشير المُوثَّق لرئيسها، فهذه (أوامر) الأمريكان و(بعِلْمِ) الرُّوس، لـ(شَرْعَنَة) الوجود الرُّوسي بالشرق السُّوداني ورُبَّما غيره مُستقبلاً، في إطار صفقات تقسيم (كيكة) السُّودان، على نحو ما حدث في أماكن أُخرى بالمنطقة، وهو ما ألمحَ إليه البشير صراحةً عقب عودته، حول المفاعل النووي والقواعد العسكريَّة وغيرها من الأكاذيب! وفي مُقبل الأيَّام، ستَتَوالَى (الخَيَانَاتِ) باسم (النِّضالِ) و(الحُرِّيَّة) و(حقوق) الإنسان من بقيَّة (الخَوَنَة)، بعدما (مَهَّدت) طلبات نائب وزير الخارجيَّة الأمريكيَّة الطريق لذلك! وبعبارةٍ أُخرى، سيفرضون علينا واقع (التقسيم) الذي قطع البشير وعصابته شوطاً كبيراً فيه، بعدما دفعوا الجنوب للانفصال، وتركوا للمصريين جميع العُمُوديَّات النُّوبيَّة بما في ذلك أرقين التي أصبحت ميناءً بَرِّيَّاً لمصر، بجانب التَوغُّل المصري بشمال دارفور والتهامهم لمُثلَّث حلايب! وها هو الشرق سيمضي بالتخلُّص من الميناء، وبيع بعضه للسعوديين وترك الباقي لإثيوبيا، ولم يَتَبَقَّ (فعلياً) سوى المنطقتين ودارفور!
قد يكون حديثي هذا قاسياً، لكنه الحقيقة التي سَعى البشير وعصابته لتحقيقها ولا يزالون، وفق رُؤيتهم الملعونة المُسَمَّاة (مُثلَّث حمدي)، الذي حَصَرَ السُّودان في محور (دنقلا، الأُبيض وسِنَّار)، واستبعد بقيَّة المناطق خارج هذا المحور، وهي أقصى الشمال والشرق ودارفور والمنطقتين! علينا ألا ننخدع بمَطَالِبِ الأمريكان (الملغومة)، ولنتذكَّر حياتنا قبل الكيزان، والتآلف والترابُط الذي كان بيننا، وعدم مُشاهدتنا لمسجدٍ يُهَاجَم أو كنيسةٍ تَهْدَم أو راهبٍ أو دَّاعية يُعتَقَل، ولم تكن بيننا عُنصُريَّة أو جَهَوِيَّة، وكُنَّا نتقاسم ونتشارك الطَعام والشراب والأفراح والأتراح، ولم تتعكَّر حياتنا إلا بمَقْدَمِ البشير وعصابته المأفونة! وواهمٌ من يعتقد بأنَّ مشاكلنا ستنتهي بتغيير مادَّة قانونيَّة أو اثنين أو أكثر، فالقوانين الآن موجودة لكنها لا تُطَبَّق على المُتجاوِزين! وواهمٌ أيضاً، من يُصدِّق الأمريكان ويأمن جانبهم، فتجاربنا (المَريرة) معهم لا تحتاج لفراسةٍ وعبقريَّة، لفهم أطماعهم المُتزايدة، وارتكابهم جميع المُحرَّمات لإشباعها، بدءاً بالتضليل ونشر (الفِتَن) والضغائن وشراء الذِمَم وتسخير العُملاء، وانتهاءً بالغزو والاحتلال والإبادة بالقنابل والصواريخ!
إنَّ المُتأسلمين أكبر حليف استراتيجي للأمريكان، وهم أساس كل أزمة/كارثة طَالَت السُّودان وأهله، بدءاً بالبشير وأسرته وانتهاءً بأصغر مُنتسب لهذه العصابة المأفونة! ولقد آن الأوان لنفيق من (غفلتنا) ونتلافى الفِخَاخ الأمريكيَّة/الإسْلَامَوِيَّة، ولا ننشغل بأكاذيبهم المُتزايدة والمُتلاحقة، ونستنزف طاقاتنا وأوقاتنا في السُخريَّةِ منها أو إثبات عدم صِحَّتها، ولنُركَّز في توحيد أنفسنا وتنظيم صفوفنا، والإسراع باقتلاعهم اعتماداً على ذواتنا. على أمل إعادة بناء بلادنا وعلاج أزماتنا المُتراكمة في كافَّة المجالات، السياسيَّة والاقتصاديَّة والتشريعيَّة والاجتماعيَّة/الإنسانيَّة والثقافيَّة لاحقاً، وفقاً للأُسُس العلميَّة السليمة/الرصينة، فهكذا تكون الأولويَّات والخطوات لو أردنا فلاحاً ونجاة.