د. فيصل عوض حسن
ذَكَرْتُ في حُوارٍ نَشَرَتْه التيَّار يوم 6 أكتوبر 2018، بأنَّ أزمة السيولة (صَنَعها) المُتأسلمون، ضمن أُسلوبهم المعهود (الإدارة بالأزمات Management by Crisis). كما ذَكَرْتُ بأنَّ الصدمة الاقتصاديَّة تقوم على استغلال/صُنْعْ الكارثة، كالانقلابات والحروب أو الانهيار الاقتصادي أو الكوارث الطبيعية، وصولاً لتطبيق الرأسماليَّة بكل بشاعتها، أو ما يُعرف بـ(رأسمالية الكوارث)، حيث الحُرِّیَّة المُطلقة وقابليَّة كل شيئ للإتجار، بعيداً عن القيم الأخلاقيَّة والإنسانيَّة الأصيلة.
من الأهمِّيَّة بدايةً، التذكير بأنَّ (الإلهاء) عُنصُر أساسي في الإدارة بالأزمات، عبر افتعال الأحداث وإطلاق الشائعات وتصعيدها وتبريرها، لبلوغ المَرامي الحقيقيَّة لـ(صَّانِعِي) الأزمة/الأزمات، أو ما يُعرف بـ(التحكُّمِ والتطويع). ولقد أتقن المُتأسلمون هذا الأسلوب، وطَوَّعوه لنهب وتدمير السُّودان، والمُسْتَوْزِرْ (مُعتز موسى) يسير على نهج عصابته، مُستغلاً ترسانتهم الإعلاميَّة المأجورة ووسائل التواصُل المُختلفة. فمنذ (اسْتِوْزَاره) الأخير، وهو يجتهد في (إلهاء) السُّودانيين بتصريحاته المبتورة، عن التضخُّم وتَرَاجُع الإنتاج، وغياب السيولة وتدهور الاقتصاد السُّوداني، ولعلَّ أبرز (إلهاءاته) يتمثَّل في ادِّعائه مُعالجة مشاكلنا بـ(الصدمة)! والواقع أنَّ المُتأسلمين (صَنَعُوا) أزمة السيولة، من العدم، لتحقيق هدفين رئيسيين مع بعض الأهداف الفرعيَّة الأُخرى. أوَّل الهدفين الرئيسيين من أزمة السيولة، يتمثَّل في تغطية (حقيقة) انفراط التضخُّم، وانهيار الجنيه السُّوداني وفُقدانه لقُوَّته الشِّرائيَّة. والهدف الثاني، هو إلهاؤنا عن تسليم ما تَبقَّى من مُقدَّراتنا للدَّائنين، الذين يُطالبون بالقروض التي نَالَها البشير وعصابته باسم السُّودان و(امتنعوا) عن سدادها، حيث انتبه السُّودانيين لهذه (الخِيانة) الإسْلَامَوِيَّة وناهضوها بقُوَّة في أكثر من حالة، وهذه هي (الصدمة) التي تعمل العصابة على تنفيذها الآن. وبعبارةٍ أُخرى، فإنَّ تطبيق (الرأسماليَّة) في السُّودان لا يحتاج لـ(صدمة)، لأنَّ المُتأسلمين يَدَّعون تطبيق (التحرير الاقتصادي) منذ التسعينات، أي أنَّ الرأسماليَّة مُطبَّقة فعلياً وفي أبشع صورها، وبالتالي فإنَّ للصدمة التي يعنيها (مُعتز) وعصابته أهدافٌ أُخرى، هي التي ذكرنا أبرزها أعلاه.
ولمزيد من التوضيح، سأضرب مثالين واقعيين لأهداف المُتأسلمين (الخَفِيَّة) من دراماتهم الماثلة، المثالُ الأوَّل، هو ميناء بورتسودان الذي باعوه للإماراتيين، وقبضوا الثمن وأحالوه لمصالحهم الشخصيَّة، وحينما حاولوا تسليمه اصطدموا بصلابة العُمَّال وبعض الشُرفاء، الذين ناهضوا بيع الميناء وطردوا الوفد الإماراتي منها، ورفضوا مبدأ إتاحتها لغير السُّودانيين من أساسه. وعقب سلسلة من الأكاذيب/التناقُضات، أعلن مُسْتَوْزِر النقل في 23 نوفمبر 2017، أنَّ اختيار الشركة الفائزة بعطاء الميناء سيكون في 7 يناير 2018، رغم قراره رقم 23/2016 القاضي بحسم الأمر لصالح موانئ دبي! وفي 2 أغسطس 2018، أعلن ذات المُسْتَوْزِرْ عن (فوز) الشركة الفلبينيَّة بعطاء الميناء، وذكر بأنَّه أبلغ شركة موانئ دُبي بذلك! ثُمَّ وبلا مُقدِّمات أو (عطاءات) أو إجراءات قانونيَّة، أعلن المُتأسلمون في 28 أكتوبر 2018، عن اتفاق السُّودان والإمارات لتطوير وتحديث ميناء بورتسودان تنفيذاً لتوجيهات البشير، دون اعتبارٍ للشركة الفائزة بالعطاء وفق إعلانهم السابق! هذه الرَبكة الإسْلَامَوِيَّة هدفها تسليم الميناء للإمارات، التي (تضغط) على البشير وعصابته الذين لا يملكون إلا تسليم الميناء أو إرجاع الأموال للإمارات، فلجأوا لهذه الدرامات حتَّى يتمكَّنوا من استكمال (خِيانتهم) العُظمى! والمثالُ الثاني، يتمثَّل في تسليم الصينيين أراضي إنتاج الحبوب الزيتيَّة، مُقابل (بعض) قروضهم الضخمة المحسوبة على السُّودان، وهو أمرٌ تَنَاوَلْتُه أيضاً في عددٍ من المقالات، آخرها مقالتي (اَلْفَخُّ اَلْإِسْلَاْمَوِيُّ اَلْصِّيْنِي)، التي شرحتُ فيها استهداف الصينيين هذه الأراضي السُّودانيَّة، لمعرفتهم الأكيدة بفوائدها وعوائدها الاقتصاديَّة (المُجزية) حالياً ومُستقبلياً.
وتمهيداً لهذه الكارثة، نَشَرَت صحيفة الأخبار السُّودانيَّة في 29 أكتوبر 2018، خبراً عن (احتكار) الصين لإنتاج البلاد من الفول السُّوداني، كما نَشَرت السُّوداني في ذات التاريخ، خبراً عن إلغاء جميع رسوم وضرائب الاستثمارات (الأجنبيَّة)، ونَشَرَت الصيحة يوم 29 أكتوبر أيضاً، مُطالبة نائب البشير الأسبق ببيع مياه النيل الأزرق للمُزارعين، وجميع هذه الأخبار (ضد) السُّودانيين عموماً والمُنتِجين الزراعيين خصوصاً. فالاحتكار يتقاطع مع التحرير الاقتصادي، ومع إعلانات المُتأسلمين المُتكرِّرة بشأن مُحاربته، والأهمَّ أنَّه يُخالِف دستور السُّودان (الانتقالي)! وبالنسبة للإعفاء من الرسوم والضرائب، فكان الأولى بها المُنتِج المحلي لتشجيعه على الإنتاج، بدلاً من التضييق المُتزايد عاماً بعد عام، لا سيما وأنَّ البشير أعلن مراراً (صوت وصورة)، إعفاء المنتجين الزراعيين من كافة الرسوم الإنتاجيَّة، ولم يُنَفَّذ هذا الأمر حتَّى الآن! وأمَّا بَيْعُ المياه، خاصةً للاستخدمات الزراعيَّة، فيُخالِف ما أقَرَّته الدول والمُنظَّمات، ونَادَت به دراسات وبحوث استرداد تكلفة إتاحة المياه للإنتاج الزراعي، كما يتقاطع مع مُتضمَّنات إعلان القاهرة للأمن المائي، الذي وَقَّعه السُّودان (يعقوب أبو شورة) منذ التسعينات، ومن المُدهش أنَّ من يُطالِب ببيع المياه للمُزارعين، يسبق اسمه حرف (الدال) ويَدَّعي انتسابه للزراعيين! والرَّاجح أنَّه يستهدف بطلبه هذا، ابتزاز المُزارعين وتنفيرهم من الزراعة، تمشياً مع رغبة ورُؤية عصابته الإسْلاَمَوِيَّة المأفونة، التي (حَجَبت) السيولة عن المُزارعين لإعاقة عمليات حصاد وتسويق المحاصيل، وإخراج المزيد من دائرة إنتاج الموسم القادم، وهو ما حَذَّرَ منه بعض مُزارعي القضارف، وفق التيَّار في 22 أكتوبر 2018.
هذه المُعطيات، تفضح تغريدات/تصريحات مُعتز الإلهائيَّة، بشأن مُعالجة أزمة السيولة التي أصبحت (مُركَّبة) وأكثر تعقيداً. فمن جهة (طَبَعُوا) آلاف الأوراق النقديَّة المحليَّة، دون غطاءٍ إنتاجي أو احتياطٍ معلومٍ من العُملات الأجنبيَّة، مما يعني المزيد من إضعاف الجنيه السُّوداني وإفقاده قُوَّته الشرائيَّة! ومن جهةٍ ثانية، ورغم تراجُع قيمة الأموال المطبوعة، فقد (حَجَبها) المُتأسلمون عن المُزارعين، لتعطيلهم عن الحصاد والتسويق والإيفاء ببقيَّة التزاماتهم، وتَعَرُّضهم للمُلاحقات القانونيَّة والابتعاد عن الإنتاج في الموسم القادم، وهذا ما يرمي إليه البشير وعصابته لِيُسلِّموا الأراضي للصينيين، الذين طالبوا بهذه الأراضي وفق تصريحات البشير وعصابته، والتي تَنَاولتها بالتفصيل في مقالتي المُشار إليها أعلاه. وهذا التكتيك الشيطاني لن يتوقَّف على أراضي الحبوب الزيتيَّة، وسيمتد ليشمل مُقدَّرات وطنيَّة أُخرى، ودونكم ارتفاع الجدل بشأن سُكَّر النيل الأبيض وكنانة وغيرها من مُقدَّراتنا. وبدلاً من تبادُل أكاذيب/تغريدات مُعتز الهايفة، وقراراته الانصرافيَّة المُتلاحقة، علينا التعامُل بجِدِّيَّة وسُرعة مع الحقائق المُرعبة التي ذكرنا ملامح بعضها أعلاه، ولنعلم بأنَّ البشيرُ وعصابته سيُواصلون (خِياناتهم)، لإنقاذ أنفسهم من الدَّائنين و(المُبتزِّين) الخارجيين على حساب السُّودان وأهله، وسيهربون بعدها للبلاد التي يحملون جوازاتها، لأنَّ البلد لن يَتَبَقَّى منها شيئٌ من مُقوِّمات ومُتطلَّبات الحُكْمِ ومُغرياته.
إنَّ خلاص السُّودان وأهله يكون باقتلاع البشير وعصابته الإسْلَامَوِيَّة، وهذا لا يتحقَّق بمَصْمَصةِ الشفاه (حسرةً)، وانتظار البَلْوَة تِلو الأخرى، وإنَّما بالاتِّحاد والوقوف صفاً واحداً لبلوغ هذه الغاية الحتميَّة، والفرصة ما تزال مُواتية للخلاص منهم.
مُلاحظة: عقب انتهائي من هذه المقالة، اطَّلعتُ على خبرٍ نَشَرَتْه المجهر السياسي في 3 نوفمبر 2018، بشأن دراسات (جديدة) لسدي كجبار وستيت (تقلل الآثار الاجتماعية).. هذا بخلاف (التعطيش المُتعمَّد) لمحاصيل العروة الصيفيَّة بالجزيرة وفق السُّوداني في 4 نوفمبر 2018.. فتأمَّل..!