د. فيصل عوض حسن
بعيداً عن زوبعة تعيين الوُلاة والتشريعيين، وتمثيليَّة (التهبيل) الوزاري، ثَمَّة مُهدِّدات سِيادِيَّة خطيرة جداً، يَتَسَاهَل معها السُّودانِيُّون جهلاً أو عَمداً، والحِكْمَةُ تقتضي التنبيه لهذه المُهدِّدات وتوثيقها، لأنَّها تَمِس (سِيادَة) السُّودان واستمراره كدولةٍ وشعب. وللأمانة فهي مُهدِّداتٌ قديمة، (صَنَعها) المُتأسلمون عَمداً، وسَارَ الحاكمون الآن على نَّهجهم حتَّى استفحلت، وبلغت حدوداً خطيرة يصعُب مُعالجتها إذا استمرَّت الغفلة والتساهُل!
يَتَصَدَّر هذه المُهَدِّدات (تحقيقُ) السَّلامِ، والذي ينبغي أن يشمل ضحايا الإبادة الجماعِيَّة والتشريد والاغتصاب، وضحايا القمعِ والإعتقالات والإفقار والتجهيل، والذين نُزِعَت أملاكهم (أراضي/أموال) والممنوعين من العمل وغيرهم، فهؤلاء جميعاً يحتاجون لتطييب النفوس وجَبْرِ الخواطر، من خلال مُحاسبة/مُحاكمة الذين آذوهم دون استثناءٍ أو مُجاملة! وكمثال، فإنَّ السلامَ بدارفور والمنطقتين، يُحتِّم (تأمين/حِمَاية) المُواطنين العُزَّل من أي تعدِّيات، وإعادة النَّازحين لمناطقهم وإرجاع أملاكهم بعد إخراج الوافدين المُتواجدين فيها، مع تسليم البشير ورُفقائه فوراً للمحكمة الجِنائِيَّةِ، ومُحاسبة/مُحاكمة جميع نُوَّابه ومُساعديه والوُلاةِ والعسكريين، وكل من شارك في تلك الجرائم. وهذا يعني أنَّ البرهان والمُرتزق حِميدتي على رأس المُتَّهمين، تبعاً لجرائمهما المُوثَّقة سواء بدارفور والمنطقتين أو بقيَّة مناطق السُّودان، وآخرها الأحداث المُؤسفة التي شهدتها وحدة (فتابرنو) بمحلِيَّة (كُتُمْ)، وضحاياها من المدنيين العُزَّل على أيدي المليشيات الجنجويديَّة!
يتطلَّب السَّلام (الحقيقي) أيضاً إنصاف المفصولين (تَعَسُّفياً) من العمل وتعويضهم، بجانب مُتضرِّري السدود بشرق وشمال السُّودان، ومشاريع الرهد والجزيرة والسُّوكي والنيل الأبيض والشماليَّة وكُرْدُفان، وأراضي بُرِّي وأُم دُوْم والجِرِيْف شرق وغرب والفِتِيْحَاب وغيرهم، حيث يتَحَتَّم إرجاع ممتلكاتهم إليهم فوراً، ومُحاكمة المُتواجدين فيها والمُنتفعين منها، فضلاً عن عَدَالَة المُشاركة في السُلطَة وتوزيع الثروة والتنمية المُتوازنة وغيرها من الأمور المعلومة، وما لم نفعل هذه الاستحقاقات بسرعةٍ وصرامةٍ ودون استثناءات، فلا نعشم في سلامٍ/استقرارٍ بالسُّودان. فالسَّلام (الحقيقي) يكون بإزالة المظالم والمَرارَات/الغبائن المُتراكمة لأصحاب (الوَجْعَة)، وإشباع رغباتهم (المشروعة) في القصاص من الظَلَمَة، وليس بتوزيع (العَطَايا) والمناصب على الانتهازيين وتُجَّار الحرب!
التهديدُ (السِياديُّ) الثاني، يُمثِّله (المُجنَّسون) ودورهم المحوري في تغيير التركيبة السُكَّانِيَّة، حيث جَلَبَ المُتأسلمون مجموعاتٍ أجنبيَّةٍ عديدة، ومنحوهم الجِنسيَّات ومَلَّكُوهُم الأراضي، وألحقوهم بمليشياتهم المُختلفة، وبعضهم اسْتَوْزَر وتَقَلَّد مناصب حَسَّاسة بالدولة، وارتكب أبشع الجرائم ضد السُّودانيين، وفق ما أوضحنا بمقالنا (الغَفْلَةُ السُّودانيَّة) بتاريخ 26 مايو 2019. والمُؤسف أنَّ انتهازيي قحت وتُجَّار النِّضالِ والحروب، انشغلوا بمطامعهم المالِيَّة والسُلطَوِيَّة، وتَجاهلوا تغيير التركيبة السُكَّانِيَّة وخطورة (المُجَنَّسين)، وولائهم المُطلق لبلادهم الأصيلة، وحقدهم وجرائمهم البشعة ضد أهل البلد، كالنَّهبِ والقتل والاغتصاب والتعذيب، و(مَنْعِ) الصلاة على الموتى كما شاهدنا عقب مَجْزَرَة القيادة! وفي أبشع صور الغدر والخيانة، يَدَّعي بعضهم (تبعيَّة) أراضينا لدولهم المطرودين منها، مما يُحتِّم على السُّودانيين الضغط والمُطالبة القَوِيَّة والمُتواصلة، بحسمِ هؤلاء (المُجَنَّسين) والمُرتزقة دون تأجيلٍ أو تسويف. وأوَّل وأهمَّ خطوات الحسم هي إلغاء جميع الجنسيَّات والأرقام الوطنِيَّة الصادرة من 1989 وحتَّى الآن، وإخضاعها للمُراجعة الدقيقة استناداً لقوانين الجنسيَّة التي كانت مُطَبَّقة سابقاً، واعتماد المُسْتَوْفِية للشروط وسحب الأُخرى، ثُمَّ مُحاكمة كل من يثبُت تَوَرُّطَه في استخراج/مَنحِ الجنسيَّة لمن لا يستوفيها، باعتبارها “خيانةً عُظمى”.
يأتي الاصطفاف القَبَلي/الجِهَوِي كثالث المُهدِّدات (السِيادِيَّة)، رغم الارتباط الوجداني الكبير بين (عَامَّة) الشعب، تبعاً للزمالات الدِراسِيَّةِ/العَملِيَّةِ والجِيْرَةِ والمُصَاهَرَاتِ بل وصِلَةِ الرَّحِم، لكن المُغامرين وتُجَّار الحرب استغلَّوا (فِرْيَةِ) التهميش لتمزيق نسيجنا الاجتماعي، وبقليل من التأمَّل يُمكن (فَضْح) هذه الفِرْيَة، لأنَّ العَدالَةِ القانونِيَّة والاجتماعِيَّة/الإنسانِيَّة، مفقودةٌ وغائبة عن جميع أرجاء البلاد دون استثناء. والأهمَّ من ذلك، أنَّ الانتهازيين وتُجَّار النِّضال، الذين يُشعلون نيران الجِهَوِيَّة والاصطفاف القَبَلي، يحيون مع أُسرهم/عائلاتهم في دَعَّةٍ ورَغَد، ولم ولن يدفعوا تكاليف فِتَنِهِمْ (الخبيثة)، التي يستخدمونها وفقاً لمصالحهم السُلْطَوِيَّة والمالِيَّة، ولقد رأيناهم يخونون أهلهم ورفقائهم ويتحالفون مع المُتأسلمين، وبعضهم تَغَزَّل في الجنجويد المُرتزقة والقَتَلة ومَدَحهُم بلا حياء، رغم تَدَثُّرهم بالنِّضالِ لأجلِ المُهَمَّشين (أكبر ضحايا المُتأسلمين والجنجويد)! لهذا، فإنَّ الحِكْمَةَ تُحَتِّم استحضار تلك (السَواقِط) والاتِّعاظِ منها، وتعزيز تَلَاحُمنا وتسخير طاقاتنا/قُدراتنا ضد الأعداء (الحقيقيين)، وليس الاقتتال واستعداء بعضنا البعض!
التحدِّي الرَّابع يُمثِّله الاحتلال، سوا بِغَلَبَةِ السِّلاحِ أو المال، حيث تحتل مصر حلايب وغالِبيَّة الأراضي النُّوبِيَّة وبعض شمال دارفور، وتملك مليون فَدَّان بالشِمالِيَّة (مشروع الكنانة)، وتعبث بمياهنا الإقليميَّة بالبحر الأحمر. وشَيَّدَ الإثيوبيُّون قُرىً كاملةً بـ(مَحْمِيَّة الدِنْدِرْ)، عقب احتلالهم للفشقة وما حولها منذ 1995، بخلاف تهديدات سد النَّهضة المُقام على أرضٍ سُّودانِيَّةٍ بالأساس (بني شنقول)، وهذه حقيقة تاريخيَّة ثابتة، عمل جميع حُكَّامنا منذ ما يُسمَّى استقلال على (تمييعها)، وفق ما فَصَّلته في مقالاتٍ عديدة كـ(مَتَىْ يَسْتَعِيْدْ اَلْسُّوْدَاْنْ بَنِيْ شُنْقُوُلْ) بتاريخ 17 ديسمبر 2017. وهناك المساحات التي بَاعَها المُتأسلمون للصين وروسيا والسعوديَّة، وموانئ بورتسودان وسَوَاكِن، وغيرها من التفاصيل المُوضَّحة في مقالة (أَمَا آَنَ اَلْأَوَاْنُ لِإِيْقَافِ اَلْصَلَفِ اَلْإِثْيُوْبِيّ) بتاريخ 13 أغسطس 2017، ومقالة (اَلْبَشِيْرُ وَتَعْمِيْقِ اَلْاِحْتِلَاْلِ اَلْمِصْرِيّ لِلْسُّوْدَاْنْ) بتاريخ 19 أغسطس 2017، ومقالة (تَسْلِيْمْ وَتَسَلُّمِ اَلْسُّوْدَاْنْ) بتاريخ 17 أكتوبر 2017، و(اَلْسُّوْدَاْنُ مَسْرَحُ اَلْدُّمِي) بتاريخ 5 أغسطس 2018 وغيرها. وبالمُحصِّلة، نقول بأنَّ غالِبيَّة أراضينا مُحتلَّة أو مُبَاعَة، واستردادها يحتاج لـ(صدقٍ) وتفكيرٍ جادٍ ووحدةٍ حقيقيَّةٍ سريعة، وصَرَامةٍ مع الدول المُحتلَّة وليس قبول (وَساطاتها) وتوجيهاتها.
يأتي الاقتصاد كخامس المُهدِّدات (السِيادِيَّة) التي تُواجهنا، وتَكمُن خطورته في استغلاله/تطويعه لـ(تركيعِنا) وتحوير خياراتنا، وهو ما نرى بعض مظاهره الآن، حيث انخدع البعض بـ(فتاتِ) الجنجويد وسادتهم بالخارج، ورُبَّما (انجبروا) على ذلك بفعل الضغوط المعيشيَّة المُتزايدة! حتَّى لو تَوقَّع/حَلُمَ البعضُ بانفراجاتٍ اقتصادِيَّة، تبعاً لمِنَحٍ/قروض في (رَحِمِ الغيب)، نقول بأنَّها (لو تحقَّقت فعلاً) ستزيد حالتنا تعقيداً، لأنَّها (مُستحقَّة الدفع) سواء مالياً، أو من إرادتنا التي ما نزال نسعى لتحريرها، وستكون الانفراجة (شَكْلِيَّة) ومحدودة قِيَمِيَّاً ووقتياً/مرحلياً، ولن تتعدَّى بعض التَحَسُّنِ في قيمة الجنيه، أو أسعار بعض السَلَع/الخدمات، وسُرعان ما ستعود مظاهر/مؤشرات الانهيار، لأنَّ مشاكلنا الاقتصادِيَّة بِنْيَوِيَّة/هيكليَّة، ونفتقد لجميع عناصر وأدوات الإنتاج، وهي حالة يستحيل مُعالجتها/تجاوُزها بالوعود الزَائفة، كأكاذيب إعفاء الديون أو رفع اسمنا من قائمة الإرهاب، أو (أوهام) التعويل على علاقات هذا أو ذاك وغيرها من المَتَاهَات!
كان بإمكاننا تخفيف الضغط الاقتصادي باسترجاع الأموال التي نَهَبها المُتأسلمون، ويكفي أنَّ عوض الجاز وحده، يملك (64 مليار دولار)، وفق جريدة “المدينة” في 26 أبريل 2019، نقلاً عن ويكليكس، وهذا مبلغٌ يُسدِّد جميع ديون السُّودان بفوائدها ويفيض، فكيف ببقِيَّة أعضاء العصابة الإسْلَامَوِيَّة ورئيسهم البشير وإخوته! ولكن الدكتور حمدوك ومُعاونيه (تَخَاذلوا) في هذا الأمر (عَمداً) ولا يزالون، وضاعفوا مُعاناتنا الاقتصادِيَّة بتَوَجُّهاتهم المشبوهة ومُمارساتهم المُدمِّرة، التي عَزَّزت قناعاتي تماماً بأنَّهم (مُخَرِّبين)، وخائنين لثقةِ السُّودانيين ولا يرتقون لتضحياتنا، ولن يأتي منهم خير. ولقد (وَثَّقتُ) كثيراً لثقوب وثغرات الدكتور حمدوك ومُعاونيه، في عددٍ من المقالات كمقالة (خِيَاْنَةُ اَلْثَوْرَةِ اَلْسُّوْدَاْنِيَّة) بتاريخ 22 يوليو 2019، و(إِلَى أَيْن يَقُوْدُنَا حَمْدوك) بتاريخ 24 سبتمبر 2019، و(المُتَلَاعِبون) بتاريخ 24 أكتوبر 2019 و(اِسْتِرْدَادُ الثَوْرَةِ السُّودانِيَّة) بتاريخ 2 فبراير 2020، و(مَتَى يَنْتَبْهْ اَلْسُّوْدَانِيُّون لِعَمَالَةِ حَمدوك) بتاريخ 12 فبراير 2020 وغيرها.
ليتنا نعي خطورة وأبعاد هذه المُهدِّداتِ (السِيادِيَّة)، وحتميَّة مُعالجتها بجِدِّيَّةٍ وسُرعةٍ وتَجَرُّد، فالثأرات والغبائن المُشتعلة في الصدور، يُطفئ نيرانها الإسراع بـ(القَصَاصِ) من المُتجاوزين. وخطورة (المُجنَّسين) وتغيير التركيبة السُكَّانِيَّة، يُحْسَمْ بإلغاء ونَزْع الجنسيات وألأوراق الثبوتِيَّة (غير المُسْتَوْفاة)، وليس بالتحشيد القَبَلِي/الجَهَوي ضد بعضنا البعض. وتحرير أراضينا المُحتلَّة، يكون باتِّخاذ الخطوات القانُونِيَّة الدوليَّة والإقليميَّة العاجلة والحاسمة، وليس بالتقافُزِ والاستجابة (للوساطات/الأوامر) وقبول الفِتاتِ كعطايا وهِبَات! والاقتصاد لن يتحسَّن بالأحلام والتَوَرُّط في المزيد من القروض، أو التعويل على العلاقات والأشخاص، وإنَّما الوطنِيَّة (الحَقَّة) والفكر والتخطيط السليم وقُوَّة الإرادة، وتسخيرها لاسترداد أموالنا المُستحقَّة وإيقاف العبث بمُقدَّراتنا ومواردنا المُسْتَبَاحة.
رُبَّما مُفرداتي قاسية لكنها تعكس الواقع المُحزِن الذي نحياه، والإنكارُ والمُكابَرَةِ لا يُلغي هذه الحقائق، ولا يحمينا من مآلاتها المُفزعة التي تُهدِّد بقاءنا كدولةٍ وشعب. ومن السذَاجةِ بمكان تَوَقُّع الخير أو العلاج والحَسمِ من الحاكمين الآن، سواء كان العَسْكَر أو الدكتور حمدوك ومُعاونيه أو جماعة قحت أو تُجَّار النِّضالِ والحروب، تبعاً لمُمارساتهم التي ساهمت في تعميق أزماتنا الماثلة. وبلا تجميلٍ أو تخفيف، أقول بأنَّ مُواجهة المُهدِّدات (السِيادِيَّةِ) أعلاه وغيرها، أصبحت مسئوليتنا نحن كشعب بالدرجة الأولى، ولنعلم تماماً بأنَّ التساهل والتَراخي سيكون ثمنه (بقاء) السُّودان كدولةٍ/أرض وشعب. فبدلاً عن الانشغال بترشيح هذا أو ذاك، وانتظار تَحَقُّقِ الآمال/الأحلام، فلنُسخِّر طاقاتنا وقُدراتنا للتعامل بجِدِّيَّةٍ وسرعة مع هذه التحديات، إذا أردنا اللحاق بما تبقَّى من البلاد والعباد.. وللحديث بقيَّة بشأن تحدي المليشيات بتفاصيله الكثيرة والمُتشعِّبة.