مَرَّت الآن ثمان سنوات بالتمام والكمال على صُدور أمر قبض البشير، من الدائرة التمهيدية الأولى بالمحكمة الجنائية الدولية في 4 مارس 2009، لاتِّهامه بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، واعتباره مُرتكباً/شريكاً في الهجمات ضد المدنيين بدارفور، وقتل وإبادة واغتصاب وتعذيب ونقل المئات منهم قسرياً ونهب مُمتلكاتهم.
ويُعدُّ البشير أوَّل رئيس يصدر ضده أمر قبضٍ (دولي) وهو ما يزال في الحكم، بعدما اعتبرت المحكمة الجنائية أنَّ منصبه كرئيس لا يُلغي مسؤوليته الجنائية، ولا يمنحه حصانة من المُقاضاة. إذ يقول النظام الأساسي للمحكمة، أنَّ الحصانات الدبلوماسية لا تُسْقِطْ المسؤولية الجنائية الفردية الدولية، وبإمكان المحكمة مُتابعة أي مسؤول جنائياً سواء كانت دولته مُصادقة على ذلك النظام من عدمه، بُناءً على توجيهات المُدَّعي العام الذي يتحرَّك وفقاً لطلبات الأطراف المعنية (أفراد، جمعيات، مُنظَّمات غير حكومية)، أو تبعاً لإحالة قضيةٍ ما من قِبَلْ مجلس الأمن، وذلك بالنسبة للجرائم المنصوص عليها في نظام المحكمة، وهي جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية. وتنص المادَّة (13) من النظام الأساسي على: للمحكمة أن تُمارس اختصاصها في ما يتعلَّق بجريمة مُشار إليها في المادة (5) وفقاً لأحكام هذا النظام الأساسي في الأحوال التالية:
أ) إذا أحالت دولة طرف إلى المُدَّعي العام، وفقاً للمادَّة (14)، حالة يبدو فيها أنَّ جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتُكِبَتْ.
ب) إذا أحال مجلس الأمن، مُتصرفاً بمُوجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المُتَّحدة، حالة إلى المُدَّعي العام يبدو فيها أنَّ جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتُكِبَتْ.
ج) إذا كان المُدَّعي العام قد بدأ بمُبَاْشَرَة التحقيق في جريمة من هذه الجرائم وفقاً للمادَّة (15).
هذا يُوضِّح علاقة مجلس الأمن بالمحكمة الجنائية الدولية، وأحقِّية المجلس بإحالة أي حالة أو قضية يراها للمُحكمة، وبمعنىً آخر يملك مجلس الأمن حق تقديم شكوى للمُدَّعي العام للمحكمة. ووفقاً لهذا، قَرَّرَ مجلس الأمن في سبتمبر 2004 تشكيل لجنة دولية، وتكليفها بالتحقيق في انتهاكات القانون الدولي وحقوق الإنسان بدارفور، عقب امتناع البشير وعصابته عن مُحاكمة المعنيين بتلك الجرائم.
وفي أكتوبر 2004 تمَّ تشكيل اللجنة المذكورة، وأوضحت في تقريرها بفبراير 2005، أنَّ المُتأسلمين وميليشياتهم ارتكبوا جرائماً ضد الإنسانية وجرائم حرب (قتل، اغتصاب، عنف جنسي، تعذيب، نقل واختفاء قسري للمدنيين)، وأعدَّت لجنة التحقيق التابعة لمجلس الأمن لائحة غير نهائية لـ(51) مَتَّهماً، بقصد إحالة القضية من مجلس الأمن للمحكمة الجنائية الدولية، وتمَّ ذلك فعلياً وفق القرار الصادر1593 في 31 مارس 2005، ومنها فَتَحَ المُدَّعي العام للمحكمة تحقيقاته عن الوضع بدارفور، استناداً لمعلوماته التي استقاها من مصادر مُختلفة، بجانب محفوظات ووثائق لجنة التحقيق الدولية المعنية بدارفور والاستعانة ببعض الخُبراء. وفي مارس 2009، قَدَّمت المحكمة مُذكِّرة توقيف البشير لسفارة السُّودان التي سارَعَت بعدم الاعتراف بصلاحيات المحكمة، ثمَّ قام المُتأسلمون بطَرْد (13) مُنظَّمة بزعم تعاوُنها مع الجنائية الدولية. علماً بأنَّ البشير وعصابته، لم يجروا أي تحقيقات (حقيقية) مع المُتَّهمين بجرائم دارفور، منذ مارس 2005 (موعد إحالة القضية للمحكمة من قِبَلْ مجلس الأمن)، وفق تأكيدات المُدَّعي العام للمحكمة في تقريره في (يونيو 2008). وهذا دَفَعَ الدائرة التمهيدية الأولى بالمحكمة لتحميل البشير المسؤولية بُناءً على المادَّة 25 (3) (أ) من نظام المحكمة كمُرتكبٍ غير مُباشر أو شريكٍ غير مُباشر، في الجرائم الثلاث المنصوص عليها بالنظام الأساسي، وهي جريمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وبَرَّرت الدائرة أمر القبض بحتمية امتثال البشير للمحكمة ووقوفه أمامها، وعدم قيامه بعرقلة التحقيق الجاري، والحيلولة دون استمراره في ارتكاب المزيد من الجرائم المذكورة.
مُنذُ إصدار أمر القبض عليه، ظلَّ البشيرُ طليقاً وسافر لدولٍ عديدة، سواء المُنضمَّة للجنائية أو غيرها، وصَاحَب رحلاته زخمٌ إعلاميٌ كبير، يليه احتفالاتٌ صاخبة وإظهار البشير كبطل. مع استمرار الانتهاكات غير الإنسانية بدارفور وتزايدها بصورةٍ كثيفة منذ عام 2010، ولم تنحصر على المُقيمين في حدود الإقليم، وإنَّما انتقلت لتطال أهالي دارفور بكل بقاع السُّودان بما في ذلك الخرطوم، وبلغت مَدَاها باستخدام الأسلحة الكيماوية المحظورة، وفقاً لتأكيدات مُنظَّمة العفو الدولية، مع صَمْتْ وتجاهُل دولي فاضح ومُريب جداً. ومُؤخَّراً قَدَّمَ ما يُسمَّى (المُجتمع الدولي) دعماً سافراً للمُتأسلمين، تارةً بحُجَّة مُحاربة الإرهاب، وأخرى بحجة تحجيم تجارة البشر وغيرها من الحجج الواهية، وتغافلوا تماماً عن إجرامهم السابق والماثل، بل مَارَسَ ما يُسمَّى مُجتمع دولي (ولا يزال) ضغوطاً كثيفة لإجبار الكيانات الدارفورية على الدخول في تسوياتٍ مع المُتأسلمين! وهنا يطرح السؤال المنطقي نفسه بقوة.. لماذا أحَالَ مجلس الأمن القضية للجنائية طالما لن يساعدها أو يسْعَى لتنفيذ قراراتها؟ وما يجعلنا نطرح هذا السؤال المحوري، هو أنَّ الجميع يُحمِّلون المحكمة الجنائية وِزرْ الأمر، ويتَّهمونها بالضعف وعدم الحيادية/المُحاباة وغيره، ويتجاهلون تماماً أنَّ المحكمة تناولت موضوع دارفور والبشير وعصابته بتوجيهٍ من مجلس الأمن ولم تَسْعَ إليه من نفسها، وكان حرياً بالجميع اتَّهام المجلس (وحده) بالتقصير، وعدم مُتابعته للجنائية أو مُساعدتها في تنفيذ قراراتها، لا سيما عقب إقرار البشير (صوت وصورة) بسَفك دماء أهل دارفور، دون أسبابٍ/مُبرِّرات موضوعية، وهو إقرارٌ كفيلٌ بمُحاكمته دولياً وإقليمياً ومحلياً.
ولعلَّ حالة الجنائية، تُعدُّ من أكثر الحالات التي مَارَسَ فيها المُتأسلمون الإلهاء، واستفادوا منها كثيراً في استطالة بقائهم في السُلطة، ومَرَّروا عبرها – ولا يزالون – مجموعة من كوارثهم ضد البلد وأهلها. فبخلاف القتل والإجرام المُتزايد بدارفور، أشَغَلَ المُتأسلمون الشعب بأكذوبة الجنائية، وصَرَفوا الأنظار عن قضايا مُلحَّة جداً على نحو الاحتلالين الإثيوبي والمصري، وعدم تناوُلهما في القمَّتين العربية (بأنواكشوط) والأفريقية بكيجالي، وبدلاً من طَرح كارثة الاحتلالين في القمَّتين المذكورتين، رَكَّزَ البشير وإعلامه على مسألة الجنائية! كما استغلَّ المُتأسلمون موضوع الجنائية، لامتصاص غضب الشعب وكسب وُدَّه وتضامُنه، استناداً لاستراتيجية مُخاطبة العواطف بعيداً عن العقل، وفي غَمْرَة خِدَاعِ الشعب ببطولاتِ البشيرِ الزائفة وتحدِّيه الأجوف للجنائية، كانت مليشياته تُمارِس القتل ضد أهلنا العُزَّل بدارفور ولا يزالون.
ومن مظاهر الخِزي الإسلاموي، ارتباط موضوع المحكمة الجنائية بعمليات سمسرة دولية، وأصبحت البلاد رهينة بتحرُّكات وإجراءات المحكمة إزاء البشير، وأنفق المُتأسلمون ملايين الدولارات، وقَدَّموا تنازلاتٍ سريةٍ ضخمة على حساب الوطن، لدعم ومُساعدة البشير الذي لا يهُمَّه سوى الإفلات من هذا المأزق، بعدما أدخلنا في صراعاتٍ دموية غير مسبوقة، أُزْهِقَتْ فيها أرواح مئاتُ الآلاف من المدنين العُزَّل بدارفور، بخلاف إجرامه المُتزايد في المنطقتين وشرق السُّودان وأقصى شماله، بل وحتَّى الخرطوم حينما سَحَقَت مليشياته احتجاجات سبتمبر 2013. فالبشير لا يهمَّه ملايين السُّودانيين بمُعسكرات اللجوء والنزوح، ولا الذين اتَّخذوا من الكهوف مساكناً خوفاً من براميله المُتفجرة المُنهالة عليهم كالمطر! كما لا يهم البشير المُكتوين بنيران الفقر والجوع والمرض، ولا يجنح للحلول الحقيقية والاستراتيجية لأزماتنا، وإنَّما يصنعها (مع عصابته) ويُعيدون إنتاجها باحترافيةٍ عالية. والثابت أنَّ البشير رَكَّز كلَّ السُلطات بيده، وهذا وضعٌ لا يعكس قوته بقدرما يُؤكِّد فشله، لأنَّه اختزل البلاد وأهلها بمصيره الشخصي وذاته المرعوبة والمُضطربة! فهو لا يستطيع السفر بحريةٍ وكرامة كرصفائه الرُؤساء والحُكَّام، بعدما أصبح مُتَّهماً بجرائم يندي لها جبين الأحرار وهارباً من العدالة الدولية، وفي سبيل حماية ذاته وبقائه في السُلطة، قام بتوريط السُّودان في حرب اليمن والمُتاجرة بجيشه في نزاعٍ لا ناقة له فيه ولا جمل، كما باع ورَهَنَ أراضينا للصين طمعاً في دفاعها عنه بالمحافل الدولية وغيرها من المُمارسات.
المُحصِّلة، أنَّ المحكمة الجنائية الدولية (أكذوبة)، استغلَّها البشير وعصابته بتواطؤٍ دولي خاصةً مجلس الأمن، الذي تَخَاذَلَ ولم يُبْدِ أي جدية لتنفيذ قرارات المُحكمة التي أحَالَ لها القضية، بما يُؤكِّد غياب العدالة الدولية وعدم الحيادية، رغم ظاهر التصريحات والقرارات والجلسات وغيرها من مظاهر التضليل. فالهدف كان تلميع البشير وإطالة بقائه بالسُلطة، لاستكمال مُخطَّط تفتيت البلاد، وارتكاب المزيد من الإجرام بدارفور. ومن الصعوبة تصديق أنَّ مجلس الأمن يَعجَز عن تنفيذ قرارات المحكمة التي كَلَّفها بالقضية، ولا يستطيع حماية آلاف البشر من القتل والتشريد والإبادة الجماعية، ليس فقط بدارفور وإنَّما بكل السُّودان. كما يصعُب تصديق أنَّ ما يُسمَّى مُجتمع دولي، بعدما أطَاح بالعديد من المُجرمين الدوليين، يَعْجَزْ عن حَسْم البشير وعصابته وإيقاف إجرامهم، بما يُؤكِّد أنَّ المُتأسلمين يُمارسون إجرامهم بضوءٍ أخضر ودعمٍ دوليٍ وإقليميٍ كبير.
إنَّنا أمام خيارٍ واحد، هو اقتلاع البشير وعصابته وكل من تعامل معهم، وهو أمرٌ مُمكن لو توفَّرت الإرادة والصدق ووحدة المصير، وإبعاد كل المُتاجرين والمُغامرين والمُتخاذلين المُتدثِّرين بثوب الوطنية، وإسقاط الطامعين في مقدراتنا من المُجتمع الدولي، فالخلاص يبدأ باقتلاع المُتأسلمين اعتماداً على ذواتنا فقط.