كغيرهم من دول العالم، يحتفي السُّودانيون في مطلع يناير من كل عام بعيد الاستقلال، وهي عادةٌ دَرَجْنَا عليها منذ خروج المُستعمر أوَّل يناير عام 1956، وفيها يتم عرض وتوضيح نضالات الأجداد لنيل الحرية والانعتاق، وغرس وترسيخ قيم ومبادئ الوطنية والسيادة وحب الوطن في الأجيال الناشئة، عبر التسجيلات الوثائقية والأناشيد والقصائد الحماسية، وسرد وتفسير المواقف الوطنية وغيرها من مظاهر الاحتفاء.
وقبل الدخول في التفاصيل، ولكي ما يكون حديثنا موضوعياً، قد يكون مُفيداً توضيح مفهوم (الاستقلال). وفي هذا الإطار، ووفقاً للمعاجم، فإنَّ مُفردة استقلال تعني (التحرُّر)، فيُقال استَقَلَّ البلد أي استكمل سيادَتَه وانفرد بإدارة شئونه الداخليَّة والخارجيَّة. وبمعنىً آخر، امتلاكُ الدولة لسُلطاتٍ داخليةٍ مُطلقة على جميع الأفراد والجماعات، استناداً لتشريعات وقوانين يلتزم بها الجميع، تدعم إدارة شؤون البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتشريعية. وعلى الصعيد الخارجي، يعني الاستقلال تمتُّع الدولة بحرية قرارها بعيداً عن سيطرة أي جهات أُخرى (دول أو تكتُّلات)، وفق الأعراف والمواثيق الدولية المُعتمدة. وعلى هذا يمكن القول، بأنَّ الاستقلال الوطني هو تسيير البلد (ذاتياً) دون خضوعٍ لإرادة الغير والحفاظ على الموارد وإدارتها بأمثل طريقة، كما يعني الاستقلال أمن وكرامة المُواطنين وحفظ أرواحهم ومُمتلكاتهم، واحترام آدميتهم وعدم إذلالهم وقهرهم واستنزاف مواردهم.
هذه المعاني (مفقودة) تماماً في حالة السُّودان، سواء على صعيد الشعب أو الدولة (ككيان/أرض)، فبالنسبة للشعب السُّوداني، نجده يحيا في أسوأ ظروف يُمكن أن يحيا فيها الإنسان، إذ نالَ نصيباً وافراً من الإجرام الإسلاموي الذي طالَ كل مناطق السُّودان، بدءاً بالقتل بالأسلحة الكيماوية والبراميل المُتفجِّرة كما يحدث بدارفور والمنطقتين، وانتهاءً بالتشريد والتجويع والقمع والضرب بالرُصَّاص والهراوات، على نحو أحداث بورتسودان وكجبار وسبتمبر وجامعة الخرطوم والحماداب وشمبات وأم دوم وغيرها. وهناك المُحاولات الإسلاموية الحثيثة لتغيير التركيبة السُّكانية وضغوطهم المُتواصلة على السُّودانيين للهجرة خارج البلاد أو تَرْك أراضيهم (الأصيلة)، مُستخدمين وسائل عديدة كإنهاء خدماتهم بـ(الصالح) العام، وفَرْضْ الضرائب والرسوم التعجيزية، أو جَلْب المُرتزقة والتجاوُز عن إجرامهم في حق المُواطنين (حالة الجنجويد بدارفور)، مع استقبال آخرين (غُرباء) كالروهينقا وغيرهم ومَنْحِهِم مزايا تفضيلية لم يجدوها في بلادهم، بدءاً بالجنسية السُّودانية (الفورية) وانتهاءً بمجَّانية السكن والعلاج والتعليم، وتسهيلات العمل والدخول والخروج دون ضوابط وغيرها من المزايا المحجوبة عن أهل البلاد! ومن جهةٍ ثانية، أوْقَعَ المُتأسلمون العداوة والبغضاء بين أبناء الوطن الواحد وأشعلوا فتيل الجهوية والعُنصرية، مع مُلاحظة أنَّ المُتأسلمين يتشكَّلون من كل مناطق السُّودان بما فيها المناطق المأزومة، بما يُؤكِّد أنَّ الجهوية السائدة صنيعة إسلاموية خالصة لضمان سيطرتهم وديمومتها، ساعدهم في ذلك مُتاجَرَة البعض بقضايا أهلهم. والأخطر من ذلك، وجود أعداد هائلة من القوات الدولية المُسيطرة على مساحات واسعة من البلاد، بجانب (المُرتزقة) الذين جلبهم المُتأسلمون من الخارج، ومنحوهم الأسلحة والسُلطات (غير المحدودة) دون مُساءلةٍ أو حساب. وسواء كانوا هؤلاء أو أولئك، القوات الدولية أو المُرتزقة، فقد دَفَع السُّودانيون أثماناً غالية نتيجة وجودهم بالبلاد، قتلاً واغتصاباً وتشريداً وأمراضاً خطيرة وسلباً ونهباً (للمُمتلكات الشخصية أو سيادتنا الوطنية) وغيرها من الجرائم المُوثَّقة على أكثر من صعيد.
وبالنسبة للأرض، فقد (فَقَدْنَا) كثيراً من أراضينا إمَّا بفعل الاحتلال، كالتهام مصر لمُثلَّث حلايب وجميع العُمُوديات الواقعة شمال وادي حلفا، بجانب التهام إثيوبيا للفشقة وما حولها وتعدياتها اليومية (المُوثَّقة) على السُّودانيين بالقتل والنهب في المناطق الحدودية بما فيها القضارف، وإقامتها لسد النهضة ببني شنقول، وهي أرضٌ سودانية آلت لإثيوبيا بمُوجب اتفاقية عام 1902، المشروطة بعدم إقامة أي مشروعات مائية على النيل الأزرق! هذا بخلاف استحواذ المصريين على مليون فدان (مشروع الكنانة) بالشمالية، ووعود بالمزيد من أراضينا بالدمازين وسِنَّار، واستباحة جرَّافاتهم لمياهنا الإقليمية بالبحر الأحمر، وسيطرتهم الكاملة على بُحيرة النوبة (السودانية)! وهناك الأراضي التي باعها المُتأسلمون أو رهنوها لكلٍ من الصين والإمارات والسعودية وقطر، وأحالوا أموالها لمصالحهم الخاصَّة وغيرها الكثير، مما يعني ضياع سيادة السُّودان الوطنية وحقوق أجياله القادمة.
نحنُ بحاجة لتصحيح وتعديل صورتنا الذهنية للاستقلالِ والاحتفاء به، والتي تنحصر الآن في الأناشيد والقصائد، وتبادُل قصص وسِيَرْ الأجداد، الذين قَدَّموا أرواحهم فداءً للبلاد، وتركوا إرثاً حضارياً وثقافياً أهْدَرَه وأضاعه ثُلَّة من المُغامرين والسَّاقطين. فاستقلالنا الحقيقية، ينبغي أن يبدأ باقتلاع العصابة الاسلاموية وإيقاف عبثها بكل ما هو سُّوداني، ومُحاكمتهم على ما اقترفوه من جرائمٍ بحق البلد وأهلها. والظروف الآن مُواتية تماماً للتغيير، فلتكن مُناسبة الاستقلال، ومشاعر الاحتقان التي تعتري كل شرفاء السُّودان، انطلاقة لشرارة الثورة على الظلم. ويبقى دور الشباب محورياً في هذا الخصوص، ليس فقط عبر الفيس بوك والواتساب، ولكن بتوحيد طاقاتهم على اختلاف مُعتقداتهم وانتماءاتهم الحزبية والجهوية، مُتجاوزين الموصوفين بقادة ورموز مُتكلسة ومُنتفعة، فالقادم هو للشباب، وهم من سيكتوي بنيران المُستقبل المجهول الذي جعله المُتأسلمين مُظلماً، وبالتالي عليهم تحرير ذواتهم وزرع طريقهم أخضراً بكل ما أوتوا من قوة!
جميلٌ جداً الاحتفاء باستقلالنا الوطني والفَخْرُ بسيرة كلَّ من ساهم في صناعته، ولكن الأجمل استرجاع ما تركوه لنا من إرثٍ حضاريٍ وأخلاقيٍ وأرض وسيادة، وبإمكاننا جَعْلْ احتفالنا بالاستقلال احتفالين (إذا أردنا)، علينا تطوير إحساسنا بهذه المُناسبة العظيمة واستشعار معاني ومضامين الحرية والانعتاق الـ(حقيقية)، وهي أماني وأهدداف تبدأ باقتلاع المُتأسلمين الذين باعوا السُّودان بأبخس الأثمان، وآن الأوان لإيقاف عبثهم وفسادهم وإفسادهم وتدميرهم لبلادنا الحبيبة، نحتاج فقط لإرادة حقيقية وقليل من التخطيط والتنظيم والقيادة (الأخلاقية)، وحينها فقط يمكننا الفرح والاحتفاء بالاستقلال المفقود.