وقيل، امام بوابات القيادة العامة
(2)لعنة الهامش
(هذا الجزء من المقال مهداه الي استاذنا د. نور الدين عبد السلام)
العلاقة بين الفشل، الهزيمة، والانتحار في التاريخ والثقافات المختلفة تعكس تعقيد الطبيعة الإنسانية والبحث عن الكرامة والشرف، وقد تامل الفلاسفة منذ العصور القديمة وحتى العصر الحديث في مسألة الانتحار من منظورات أخلاقية مختلفة فبينما الفيلسوف الروماني سينيكا، على سبيل المثال، ناقش الانتحار كوسيلة مشروعة للهروب من الألم أو الذل، نجد أن الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو اعتبر الانتحار سؤالاً جوهرياً في مواجهة العبثية الوجودية وبينهما الكثير من الآراء! والتعقيد الأخلاقي لمسألة الانتحار يكشف عن عمق الفكر الفلسفي المرتبط بالكينونة الإنسانية، الحرية، واليأس. وعلى مر العصور، اختلفت الآراء حول الانتحار بين الفلاسفة، مما أنتج نقاشًا واسعًا يعكس النطاق الأكثر اتساعا للتفكير الإنساني حول قيمة الحياة ومبررات إنهائها.
وان كان سينيكا، الفيلسوف الروماني الستوائي، نظر إلى الانتحار كخيار أخلاقي مشروع في بعض الظروف، مثل الهروب من الألم الشديد أو العار لكنه لم يُنظر إليه كفعل من اليأس بل كتأكيد على الحرية الشخصية في مواجهة ظروف لا يمكن تغييرها. ألبير كامو، من جهته، وضع الانتحار في صلب النقاش حول معنى الحياة في عالم يبدو أنه محروم من الغاية أو الهدف او العدل.
في ليالي الخرطوم، حيث يسدل الظلام ستاره الحالك على الشوارع والأزقة، تروي الألسنة حكاية تتوارثها الأجيال، حكاية تهمس بها الرياح وتعزفها الأشجار. يُحكى أن ظلالاً تائهة كانت تجوب المدينة بخطى ثقيلة، ظلال رجال عراة الأقدام، تعلو رؤوسهم طواقي وخوزات العسكر المرقعة باللونين الأخضر الغامق والاصفر الترابي، ولاتلتف حول أجسادهم خرقا، فقد كانوا عراة، يرتدون جلود أرواحهم الشاحبة.
كانوا يتحركون في خفاء، لا يختارون طريقًا إلا وقد تأكدوا بتلصص، أن الظلمة تكتم أنفاسه ولا يقطع سكونه أي مارة. يُشاع أن هؤلاء ليسوا سوى بقايا مجموعة من قيادات القوات المسلحة السودانية في زمن مظلم، القيادات التي لم تُجرِؤ على مواجهة مصيرها بالرصاص كما فعل بعضهم في تلك الحادثة الاسطورية للانتحار الجماعي حسب الرواية.
أرواحهم، المحكوم عليها بالضياع، تُهيم على وجهها في أنحاء المدينة، كأنها تبحث عن خلاص أو ربما توبة من ذنوب لم تُغفر. يُقال إن همساتهم تملأ الفراغ الذي يتركه صمت الليل الثقيل، همسات تحكي عن ندم وألم وأمل ضائع في تلافيف الزمن. وفي كل مرة يلتقي فيها ضوء القمر بظلالهم المتوارية، يعيد سكان العاصمة سرد الحكاية، تذكيرًا بأن العدالة تطال كل نفس، سواء في ضوء النهار أو في ظلمة الليل. تبقى هذه القصة، بكل ما فيها من غموض وعبرة، حية في ذاكرة السودان، شاهدًا على فصل مؤلم من تاريخه.
في “الأسطورة سيزيف”، يقول كامو إن القرار الجوهري الذي يواجه الإنسان هو ما إذا كانت الحياة تستحق العيش في ظل العبثية الوجودية أم لا. بالنسبة لكامو، الانتحار ليس الحل؛ بل الثورة ضد العبثية من خلال البحث عن المعنى في مواجهة
اللا معنى!
إيمانويل كانط، الفيلسوف الألماني، كان له رأي مختلف بشدة بناءً على نظريته الأخلاقية القائمة على الواجب. رأى كانط الانتحار كانتهاك للواجب الأخلاقي تجاه الذات. ووفقًا لكانط، الأفعال الأخلاقية هي تلك التي يمكن تعميمها كقوانين كونية، وبما أن الانتحار يتنافى مع الحفاظ على الذات، فإنه لا يمكن تبريره أخلاقيًا.
آرثر شوبنهاور، الفيلسوف الألماني المعروف بنظرته البيسيمية للحياة، ناقش الانتحار أيضًا، وعلى الرغم من نظرته القاتمة للوجود البشري، إلا أنه لم يعتبر الانتحار حلاً، معتبرًا أنه لا يتعامل مع جذر المشكلة الأساسية – الرغبة والإرادة التي تتسبب في المعاناة.
جان بول سارتر، الفيلسوف الفرنسي وأحد أبرز المفكرين في الوجودية، ركز على الحرية الفردية والمسؤولية. بالنسبة لسارتر، الوجود يسبق الجوهر، ما يعني أن الإنسان ملقى في العالم دون معنى محدد مسبقًا ويجب عليه أن يصوغ معنى حياته بنفسه. من هذا المنطلق، يُعتبر الانتحار فشلاً في تحمل مسؤولية الحرية التي يتمتع بها الإنسان في صياغة معنى لحياته. لسارتر، الانتحار هو نكران للحرية الأساسية التي تُعطى لكل كينونة إنسانية.
سيمون دي بوفوار، الفيلسوفة والكاتبة الفرنسية، والتي شاركت سارتر توجهاته الوجودية، نظرت إلى الانتحار من منظور التحرر والاختيار. ومع ذلك، في أعمالها، تستكشف دي بوفوار الظروف التي تدفع الأفراد إلى النظر في الانتحار كخيار، مؤكدة على الصراعات الأخلاقية والوجودية التي يواجهها الأفراد في سياقاتهم المعقدة.
فيكتور فرانكل، الطبيب النفسي والفيلسوف النمساوي، ومؤسس العلاج بالمعنى (اللوغوتيرابي)، واجه مسألة الانتحار من منظور فريد. بعد تجربته الشخصية في معسكرات الاعتقال النازية، أكد فرانكل على القدرة البشرية لإيجاد المعنى حتى في أقسى الظروف. لفرانكل، البحث عن المعنى هو الدافع الأساسي للحياة الإنسانية، ويمكن أن يقدم بديلاً لليأس الذي قد يؤدي إلى الانتحار.
وقد حكت الروايات المتوارثة عبر الأجيال عن فصل غامض في تاريخ السودان. يُروى أن قادة من الجيش، في لحظة يأس مطبق، اختاروا الخروج من مسرح الحياة بأيديهم، مخلفين وراءهم غموضًا يكتنف مصير أجسادهم. ورغم البحث والتنقيب، لم تُكتشف قبور بعينها تُخبر بسيرتهم بعد، في أرض عرفت يومًا فنون التحنيط، وحفظ الأجساد لتبقى شاهدًا يوثق الاحداث والوقائع.
في زيارة لاحد متاحف التاريخ في العاصمة السودانية في زمن قادم، كان أمين المتحف يقف بين مجموعة من طلاب الثانوية، مسترسلاً في حديثه عن فن التحنيط الذي برعت فيه نوبيا القديمة. وبنبرة تحمل وقار التاريخ، تحدث عن واقعة الانتحار الجماعي لقادة الجيش السوداني بمن فيهم قائدهم حينها، وكان اسمه يسمي عبد الفتاح البرهان، وكيف أن الأدب الشفهي والفلكلوري يدعمان صحة هذه الحادثة، بالرغم من الغموض الذي يكتنف مكان دفن الجثث، او علي الاقل معظمها.
أوضح أمين المتحف أن فريق الأثريين المتخصص في فن التحنيط، عندما حازوا على بعض جثث يقال انها لهؤلاء القادة لإعدادها للتحنيط والعرض وفقًا للطقوس المستحدثة بالفعل برفاة العسكر حينها، وجدوا أنفسهم أمام تحدي غير مألوف. فلدى محاولتهم إخراج الأحشاء لحفظها في وعاءات الألباستر التقليدية، اكتشفوا أن أحجامها تفوق بمراحل كل ما مر عليهم من أجساد سبق تحنيطها، مما اضطرهم لاستخدام أواني جصية ضخمة لحفظها (ازيار).
وعندما جاء الدور لاستخراج المخ عبر الأنف، كما كانت العادة، لم يجدوا سوى سائل مخاطي بني اللون، يفوح منه عبق مستحيل التجاوز. هذا السائل، الذي كان من المفترض أن يوضع في جرة (الكانوبيك) الحجرية، ترك الفريق في حيرة من أمره، وكأن أرواح هؤلاء الاشخاص ترفض حتى بعد مماتها، ترفض بعضا من سلام وسكينة. وقال امين المتحف انه لا يمكن عرض هذه الأجساد في الصالات الرئيسية رغم مرور عشرات السنين لما ينبعث منها من عبق ثقيل لم يسبق لأحد أن واجه مثله. يقال ان ثمة لعنة حلت بهذه الأجساد جراء ما قد يكون انتحارا، أوضح المؤرخ امين المتحف.
وفي ظل الألم الإنساني ومتاهات الوجود، ينبثق التعقيد الأخلاقي للانتحار، ذلك اللغز الذي يجمع بين الرغبة في الحرية الذاتية وعمق الأسى، غواية اليأس، والمسعى الشغوف نحو البحث عن المعنى. هذا الموضوع، الذي خُلد بأقلام فلاسفة مثل سينيكا وألبير كامو، يعرض الانتحار كفعل لتخليص النفس من قيود العذاب اللانهائي أو كرفض صارخ لفراغ الحياة، بينما يعده البعض فرارًا من الواجبات الأخلاقية وتجاهلًا للهبات الحياتية.
في الأرض السودانية، حيث تلتحم ذرات التاريخ بنسيج الواقع المعاصر، تدور رحى حرب لا تنتهي، محاكة بخيوط من الصراعات السياسية والاثنية والدينية. في هذا الزمن الراهن، يظهر البرهان كشخصية مركزية في هذه الملحمة، حيث تُثار أسئلة حول مسؤوليات القادة العسكريين في إطفاء نيران الفتن وزرع بذور الأمل والسلام. في ظل هذه العواصف، تبرز معضلات فلسفية عميقة حول فكرة الانتحار. هل سيُقدم هؤلاء القادة على الانتحار الجماعي الطقوسي فعلا كإقرار بالهزيمة والفشل، في محاولة لغسل العار واستعادة الشرف الغير اهلين له؟
تاريخيًا، يُعد الانتحار في سياقات معينة طقسًا لاستعادة الشرف أو كفعل بطولي في مواجهة العار. في اليابان، يُمارس
السيبوكو، المعروف أيضًا بالهاراكيري، هو طقس الانتحار الذي ينبع من أعماق التقاليد اليابانية القديمة، طقس يحمل في طياته كل من الألم والشرف، وكان مقتصرًا بشكل أساسي على طبقة الساموراي المحاربين. هذا الفعل لم يكن مجرد وسيلة للهروب من العار أو الهزيمة، بل كان بمثابة إعلان عميق للتمسك بالكرامة في وجه الضعف والفشل أو الفضيحة.
يُمارس السيبوكو بطريقة شديدة التنظيم والطقوسية، حيث يرتدي الساموراي الكيمونو الأبيض النقي، رمز النقاء والتحرر من الحياة الدنيوية، ويجلس في وضعية السيزا، وهي وضعية الجلوس التقليدية على الكعبين. أمامه، توضع لوحة بيضاء صغيرة تحمل سكينًا حادًا، والتي قد تكون تانتو (خنجر قصير) أو واكيزاشي (سيف قصير). السلاح المستخدم هو أداة لتحقيق الفعل النهائي، لكن قبل ذلك، يُمكن للساموراي كتابة قصيدة الموت (جيسي)، التي تُعبر عن أفكاره الأخيرة وتأملاته في الحياة والموت. بعد الانتهاء من هذه الاستعدادات، يُمسك الساموراي بالخنجر بكلتا يديه، ويوجهه نحو بطنه، ثم يغرسه بحركة حازمة. يُعتبر الجرح الأولي، الذي يُمثل بداية الطقس، بمثابة تحدٍ للألم وإثبات للجرأة. بعدها، يُسحب الخنجر من اليسار إلى اليمين، مُشكلًا جرحًا واسعًا. في بعض الحالات، قد يتضمن الطقس “الضربة القاضية” (كايشاكونين)، حيث يقوم مساعد مختار بقطع رأس الساموراي بسرعة لتخفيف الألم والحفاظ على كرامته.
السيبوكو، بمثابته فعل الانتحار الطقوسي، يُظهر كيف يُمكن أن يكون الشرف في بعض الثقافات أعظم قيمة حتى من الحياة نفسها، حيث يختار الساموراي الموت بشرف على أن يعيش في عار.
في روما القديمة، يُرى الانتحار كخروج نبيل في مواجهة الهزيمة؛ فقد اختار كاتو الأصغر الموت على الحياة تحت رحمة قيصر، محافظًا على شرفه بسيفه.
أمام الأزمات الراهنة في السودان، قد يتساءل المرء إن كان البرهان وأركان حربه سيسلكون مسلك الساموراي الشجعان، مفضلين الموت الطقوسي بالسيف على مواجهة خيبة الأمل والهزيمة التي تعكسها عيون ملايين السودانيين.
من أعماق السودان، حيث تعزف أصداء الحروب لحنًا موجعًا يتردد عبر السهول والجبال والوديان، يقف البرهان ورفاقه على مشارف معترك تاريخي محفوف بالأسئلة المعقدة. هنا، في بوتقة النزاعات، يتشابك مصير الوطن مع فكرة الشرف والكرامة، مما يطرح السؤال: هل يُمكن للتضحيات البشرية الفادحة أن تُطهر عار القوات المسلحة السودانية والميليشيات المرتبطة بها، وتعيد للوطن شرفه الذي طالما عانى من القهر والعنف الجبان والعنصرية المقززة؟ أم أن مفتاح الحل يكمن في استيقاظ ضمائرهم الإنسانية، والبحث عن الهام في طبيعة الحيوانات وحتى الحشرات التي تُظهر سلوكيات قد تفوق البشر في التضحية والفداء؟!
يتواصل في الجزء الثاني.
خالد كودي،
28/3/2024بوسطن،