صلاح شعيب
السودان الثقافي مدهش، ولكن قليلين يدركونه بحق. وبدلا أن يفهم من خلال مواريثه الفنية الغنية، والمتعددة، نستعين قسرا بالعرب، والأفارقة تارة، والأصولية الأممية بجانب السلفية المسلمة، تارة أخرى، لفهمه. وأحيانا نصب قوالب المناهج الأوروبية صبا تجريديا لنخطط لشعوب البلاد التي حافظت على وجودها آلاف السنين. وإيقاعات السودان الموسيقية جزء من المدخل لفهم تاريخ شعوبه القديمة، والوافدة، التي انصهرت، وخلقت هذا المكون الاجتماعي في الريف ثم المدن.
وإيقاعات السودان الموسيقية مقبولة في إيما بيئة وجدت تجمعا سكانيا. فحين وظف عمر الشاعر إيقاع قبيلة الفور الأساسي – الفرنقبيا – في أغنية “أسير حسنك يا غالي” خلق اختراقا في إيقاعات زيدان إبراهيم، والذي أصلا يتحدر من غرب السودان، ولكن نسبة لنشأته في أمدرمان نحا منحى المجددين للأغنية القومية.
وفرنقبية الفور الثرية التي أجادتها الفنانة مريم أمو همشت في عرض الإعلام المركزي، وظلت ترن فقط في شعاب الجبل، وسهول زالنجي. وإن كان قد تسنى لتومات كوستي اختراق نغم الستينات بما سمي إيقاع التمتم الذي هو أساسا إيقاع قبيلة الداجو واسمه “الجكتك”، كما اكتشف الباحث إبراهيم سوناتا، فإن الفرنقبيا ما تزال بحاجة إلى كونها مجالا للاستعارة الفنية في النغم.
وكذا الأمر ينطبق على إيقاعات الجراري، والهسيس، والتويا، وجمل رقد، والكمبلا، والبالمبو، وغيرها. وذلك المسعى أفيد في تجديد الاغنية السودانية لاستيعاب أنغام وإيقاعات الأطراف، والتي بسبب هيمنة إيقاعات بعينها في مخيال المؤلفين الموسيقيين لم تجد حظها من التجريب.
كل هذه التوظيفات النغمية، والإيقاعية، المتفردة في البيئة السودانية تدلنا على مزاج السوداني، وحيوية، وثراء قدرته على التأقلم مع البيئة بقدر كبير من التسامح الإنساني. ولذلك يصعب تكييف هذا المزاج وفق مناهج لا تتناسب مع بيئة للتساكن فريدة.
ولأن الإيقاع في حد ذاته نغم – من خلال ضرباته المتعددة التي تخلق موازير فنية – بدا يؤدي في ريف السودان دورا أساسيا لتنويع الرقص. ولو تميزت قبائل السودان باستخدام كل الجسد في الرقص فإن ما ميز قبيلة الحمر التي تملأ فراغ كردفان الشمالية استخدام الرقبة، والصدر، في طقوس الأعراس التعبيرية. ومن هنا تبدو أهمية فهم جميع النخب لهذا الموروثات الفنية السودانية، كونها تتصل بجذور هوية السودانيين وتاريخهم، وأحاسيسهم، وأمزجتهم، وغيرها من لوازم شخصياتهم المتنوعة.
-٢-
المفرح أن هناك التفاتة ملحوظة في العقد الأخير لإيقاعات، وأنغام، دار حمر. وربما ساعد في هذا انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي صورت لنا أعراس المنطقة، وهي تنضح برزيم نفس الجراري في ذلك الفضاء الممتد على أفق السديم. وتعد هذه الاعمال إضافة للجهد الكبير الذي بذله فنانو كردفان. بل إنها تمثل سدا لفجوة غنائية في كردفان الكبرى. إذ إن الأستاذين عبد القادر سالم، وموسى ابا، ركزا على تراث البقّارة بإيقاع المردوم الحار، وغطوا نطاق الحوازمة في جنوب كردفان مع توظيفهم لبعض أغاني الحمر، لا بد كما هو شأن عبد الرحمن عبدالله، وصديق عباس، اللذين يتحدران من شمال غرب كردفان المعروفة بأنها أرض الأبالة، والتي تمتد حتى شرق دارفور، ومعظم شمالها، وصولا إلى شرق تشاد.
ولعل هذا الحيّز يجمع الحمر مع الكبابيش، والجوامعة، والدواليب، والمجانين، والبديرية، والذين تأخذ إيقاعاتهم طابعا بطيئا، بالنظر إلى مردوم جنوب كردفان الصاخب.
على أن هذه الالتفاتة الفنية الإيجابية للجيل الجديد من المغنين لا تقتصر على دار حمر وحدها. ففي أعمال المميزين منه جرأة نحو تكثيف التجريب مع إيقاعات البرتا، والوطاويط، وأنغام الميدوب، وعرضة الشكرية، وجابودي الوسط، وعشرة بلدي متعدد الضربات لنوبيي الشمال، وحتى بالمبو الشلك، وجالوا الزاندي.
“الليمونة” كان عملا بديعا لحرم النور، وهو الذي أظهرها. أما نانسي عجاج فيحمد لها أنها ساقتنا مع “أندرية” إلى عالم من إبداع الحمرية التي تموج صدرها للأمام فيما يكافئها الحمري بصدره لأعلى، وهكذا تحسمها يعومان في بركة الفضاء.
وجارت الفنانة الصاعدة بقوة إنصاف فتحي أندرية نانسي، اذ قدمت “بلقى مرادي مع المريودي”. وأخيرا وليس آخراً جلبت لنا هدى عربي سموقا في الشفافية الغنائية:
سواقها قام النيسان من النهود للحمرة
يباري فج القيزان شال السميحة القمرة
وقد يكون هناك آخرون بخلاف المميزة جدا شادن محمد حسين، والتي قدمت “السكر حبيبة” وجملة من الغناء الكردفاني هناك. وبالتالي ساقنا شعر الحمر، وأنغامهم، وإيقاعاتهم، إلى ترويح للروح، وعزز ثقتنا في أن المستقبل سيفجر العديد من الإيقاعات، والأنغام، التي ستكون رافدا مميزا لقالبنا الغنائي المحدث.
-٣-
المجتهدون في عالم الغناء محتاجون للتميز، وامتلاك حساسية في جرأة التجريب. ولا يكفي اعتمادهم على قوالب نغمية سائدة لتسجيل أحرف أسمائهم من نور في لوحة النهر الغنائي الخالد. وفِي هذا المقام لا بد لهم من مذاكرة جرأة الملحن إسماعيل عبد المعين الذي يرجع إليه الفضل في التنقيب، أو الحفريات الموسيقية، التي ما تزال تحتاج إليها الأغنيات. وقد كان منذ الأربعينات حريصا على ألا يجاري السائد الغنائي، وعمل على منهجة الغناء عبر “الزنجران”، ولذلك أضاف أنغاما، وايقاعات، وريفة من الريف السوداني. وتقف مليوديات “جابو ليا سرو” و”يوم نبيع الكمبا” و”قابتلو مع البياح” كجواهر لتميز عبد المعين الإبداعي وسط الزحمة الغنائية لمرحلة الخمسينات، والستينات تحديدا، رغم تعدد أصواتها، وأشعارها، وميلوديتها.
وثمار النشوق الفني الجديد نحو دار حمر ربما يحفز آخرين لإجراء المزيد من الحفريات الغنائية، وصوغها في قالب محدث، وإكسابها نبرات رخيمة لكل مغني جهات السودان الخمسة. والملاحظ أن ميزة الاعمال التي قدمت من المنطقة قد صيغت بمعالجات موسيقية حذرة حافظت على هذا التراث. وكنا قد شهدنا في فترة من الفترات تجارب موسيقية بالغت في التجريب الغنائي، والتوزيع الاوركسترالي، لدرجة كادت تشوه الموتيفات الأصلية.
وربما من هنا تنبع أهمية الحذر من مغالاة التجريب حتى لا يفتقد تراثنا الغنائي مليوديته، وبالتالي يهدر كثير من موسيقيينا جهدهم في أعمال لا بد أن تخفق في حيازة القبول.
لقد كانت المشكلة الأساسية التي تعوق تطوير تراث الريف الغنائي في السابق هو ضعف التواصل بين المكونات السودانية. وبرغم أن أجهزة الإعلام كان ينبغي أن تكون حلقة الوصل إلا أنها ركزت على لونية غنائية محددة. وقد يفهم أنها كانت عنصرا مرادفا للبناء القومي، ولكن انظلم الريف أمام المخططين الإعلاميين. ولكن توفر الميديا الحديثة الآن خلق انفتاحا لدى هذا الجيل الذي وجد أن جانبا من خلوده الفني يكمن في تبني تراث الحمر، والذي لا بد أنه أعطى دفعة قوية للمغنيات اللائي ظهرنا بتلك الاغنيات، والتي وجدت قبولا كبيرا. وما دام الأمر كذلك فلماذا الإصرار على قصر الغناء على نمط واحد، بينما أنماطه متعددة مثل تعدد الزِّي السوداني.؟
إن هذه الأوبة المكثفة لتراث الريف السوداني لا بد أن تجد التشجيع من كل الممسكين بالمفاتيح الإعلامية في الخرطوم. يجب عليهم أن يتحلوا بقدر من الوعي بأهمية الانفتاح الثقافي على المساقات الفنية، بدلا عن الانغلاق، وحتى يعيدوا الاعتبار لمن لا صوت لهم. ذلك أن ضرورات البناء الوطني تتوجب عليهم أن يعدلوا في فرص البث، وذلك ما يساعد على تعريف أقوام السودان بعضا بعضا بكنوز تراثهم الهائل، بدلا من فرض أنساق فنية محددة، تلك التي تحجب التعدد الإبداعي في بلادنا.