أزمة التوثيق في السودان سببها الأول حداثة اللغة العربية التي لا تحمل إرث شعوب السودان بعد!.
اللغة العربية حديثة ولم تسد بشكل رسمي في السودان إلا في العهد التركي إذ معظم سكان سنار 1503-1821 يتحدثون لغاتهم الأم (غير عربية). وبعض وجهات النظر التاريخية تقول أن سكان وحكام سنار حتى حدود العام 1700 ظلوا وثنيين والبعض حتى وقت قريب في جبال الإنقسنا يتعبد وفق الطقوس القديمة وربما القليل من الناس حتى تاريخ اليوم.
اللغة العربية كانت محصورة في أشرطة ضيقة في الوسط/االوسط النيلي ومنه أقليم البطانة وحدود شندي ومن المحتمل أن الشايقية حتى العام 1700 يتحدثون شكل من اشكال الألسن السودانية القديمة “نوبية”. كما شمال كردفان وبعض مناطق دارفور ما عدا ذلك فاللغة العربية إنتشارها محدود في الشرق والجنوب وشمال السودان من حيث الأصالة (أي أنها ليست اللغة الأم للأفراد).
وحتى الآن نلاحظ بجلاء أن اللغة العربية ليست اللغة الأم لمعظم شعوب السودان القديم (دائماً عندهم لغة أم ومازالو يذكرون المؤنث ويأنثون المذكر في اليومي إن تحدثو العربية) وهذا قد نجده عند البجا ونوبا الشمال ونوبا الجبال والفور والزغاوة والمساليت والبرتي والفولاني والهوسا والفونج والأنقسنا والبرقد والميدوب والدينكا والشلك والنوير وكل عرقيات وقبائل جنوب السودان.
وعندما أصبحت اللغة العربية اللغة الرسمية للدولة بحكم الضرورة (لحظة ما في منتصف العهد السناري وحتى تاريخ اليوم “تقدير”) لم يكن لها مخيال في جذور المجتمعات السودانية إذ أن التراث الشفاهي (إرث الأمة الشامل) معظمه في لغات أخرى غير العربية وتلك علة كبيرة وجب الإنتباه لها وهي سارية المفعول حتى هذه اللغة!.
ولم تصبح اللغة العربية على ما هية عليه الآن من عامية الوسط النيلي إلا في نهاية العهد التركي. ولا توجد كتابات أو مؤلفات أو أشعار أو حكم أو مواعظ مكتوبة باللغة العربية قبل العام 1800 ما عدا نتف صغيرة لكن المعاملات الرسمية وسجل الأراضي ومكاتبات الدولة ليست مكتوبة بالعربية لأنها ليست لغة الغالبية ولا توجد لغة أخرى مكتوبة غيرها بل كان لكل جماعة من السكان لغتها المختلفة قليلاً أو كثيراً عن الأخرى وغير مكتوبة أي لا تصلح للتوثيق (وهذا ما يشهد به الواقع تاريخ هذه اللحظة). وذلك إضافة إلى عوامل أخرى أدى إلى سيادة اللغة العربية بشكل تدريجي في العهد التركي بداية ب 1821في معظم أرجاء البلاد (هنا لا نتحدث عن الوسط/الوسط النيلي) فالعامية العربية سادت به بشكل منظم ومفاجيء بحكم وصول جماعات ولو صغيرة وقليلة العدد لكن كانت منظمة وذات توجه ووعي حضاري طازج “المماليك والأندليسون” وذلك بين الأعوام 1500 و1550م في تقدير من إجتهادي الخاص نتيجة مباشرة للإنهيار النهائي للأندلس عام 1498م وانهيار دولة المماليك عام 1520. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المماليك في الأصل شركس وألبان لكنهم يتحدثون العامية العربية النسخة المملوكية بالأصالة (تجدها في أشعار إبراهيم الغباري وصفي الدين الحلي وإبن مقاتل) وكذا القادمين من الأندلس بهم العرب ولكن ربما جلهم بربر وأمازيغ وقبائل غرب أفريقية لكنهم أيضاً يتحدثون عامية عربية بالأصالة (تجد مثال تلك العامية في الشعر الحوزي والمألوف وكل أنواع الزجل الأصيلة في بلاد المغرب العربي).
إذن منطقي أن يكون ليس لنا أدب ولا شعر ولا فن ولا قصص ولا أساطير قديمة مكتوبة أو مروية باللغة العربية عن أصالة كون اللغة العربية جاءت حديثاً لذا كانت إناء خاوي من حيث الإرث المحلي لشعوب السودان. جل إرث شعوب السودان ظل بلغاته الأصيلة وبعضه مات بموت لسانه.. وإن جاز لي التوصية بشيء هنا أرى علينا الإنتباه لهذه النقطة بشدة فما زالت الفرصة أمامنا لتفتيش هذه اللغات التي ما زال يتحدثها أصحابها كما في الماضي وإستخلاص ما بها من إرث وتراث.
لك أن تتصور معي إن كان من أول وأهم كتب التراث السوداني بالعربية وعلى وجه الإطلاق هو كتاب “طبقات ود ضيف الله” وهو محاكاة للطبقات الكبرى للشيخ الشعراني كما قال صاحبه نفسه والذي إنتهى من كتابته في حدود العام 1800م إي قبل مئتي سنة فقط من الآن.
إن صح هذا فإن دلالته واضحة في حسباني وهي أبعد وأعمق من مظهرها إذ يعني ذلك ضمن ما يعني أن الإرث السوداني معظمه في لغات أخرى (ماهي!) وغير مكتوب “شفاهي” ثم واصل الناس الشفاهي حتى بعد أن سادت اللغة العربية في الوسط النيلي بشكل حاسم ونهائي فجل المراحل التاريخية غير موثقة كتابياً.
وأبعد من ذلك أيضاً ليس لنا أداب وفنون وأشعار عربية كون العربية لم تكن موجودة أصلاً كما أسلفنا.. ولنا أن نتصور عندما أنهارت الحضارة العربية الإسلامية تحت ضربات المغول في العام 1250م ربما لا يوجد شخص واحد يتحدث العربية عن أصالة في السودان وظل الحال طوال عهد الممالك المسيحية التي إنهارت على مشارف إنتهاء عهد المماليك في مصر 1520م. إي منذ نشوء الحضارة العربية في حوالي 700 ميلادية وحتى إنهيار نسختها المزدهرة ظل السودان نداً لها ولكل منهما لغته ودينه وحضارته وجغرافيته المستقلة.. وبينهم صراعات وحروب وتضارب مصالح في جل مراحل التاريخ.
ومن الخصومة والعداوة وبروبقاندا الحرب وأدبها ذم اللون الأسمر أو/و الأسود عند بعض العرب والمستعربين ليس فقط عنصرية وليدة الفطرة وإنما هو إرث بروبقاندا الحرب بين “السودانات” التاريخية والدويلات والجماعات العربية والمستعربة في التاريخ القديم وداخل السودان نفسه في عهديه الوسيط والحديث بداية ب 1500 وحتى تاريخ اليوم.
اللغة العربة متى وكيف سادت:
جاءت بعض الجمعات والعشائر إلى السودان مدفوعة بالظروف البيئية غير المواتية في شمال وغرب أفريقيا واليمن والحجاز وأخذت مكانها في البداية في “دارفور وكردفان”. سبق وتزامن ذلك مع هروب جماعات كبيرة من المماليك إلى السودان ووصول بعض الجماعات المتحدثة العربية من المغرب العربي (أصلهم في الأندلس في بعض القراءات) وصادف أن تمركزت هذه الجماعات المنظمة وذات الحضارة الحية في الوسط/الوسط النيلي كما مرة ثانية في شمال كردفان ودارفور عندها بدأت العاميات العربية السودانية دفعة واحدة في النشوء وأكتملت دورة نموها في نهاية العهد التركي أي القرن التاسع عشر فأستطاعت لأول مرة أن تكون لغة الأدب والفن والعلم كما لغة السياسة والبيزنس. إذ تبنت أعداد كبيرة من القبائل السودانية اللغة العربية والعرق العربي مما شكل الديمغرافية من جديد وحدد اللسانيات التي نراها الآن.. ولكن ظلت كل أطراف السودان والغالبة من السكان تحتفظ بلغة أم بجانب العربية كلغة تواصل.
وهنا لنا أن نقر بجلاء أن السودان كان بعيداً عن الحراك الحضاري العربي أيام إزدهاره بل كان السودان عدواً مؤكداً لذاك النسق الحضاري.. والتاريخ يحدثنا عن حروبات وصد لغزوات كما يحدثنا عن تداخلات وعلائق سياسية وإقتصادية مادية وعملية ملموسة لكن ليس أدبية أو فنية (شعر وغناء مثلا) هذا لم يحدث إلا مؤخراً ليس قبل نشوء الدولة السنارية وليس مباشرة بل بعد قرنين من زمان نشأتها في تقدير خاصتي يعتمد على المراجع والحسابات التي حسبتها!. والأمر طبعاً يحتاج المزيد من التمعن والدراسة.
ولهذا فإن مخيال الإنسان السوداني وسلوكه العملي في الحياة الواقعية مختلف ومنماز عن المجتمعات الأخرى المتحدثة العربية بالأصالة (نتحدث عن المتوسط).
ولهذا نحن حتى الآن لا نعرف أنماط شعرنا وتقنياته وأوزانه وبنياته الداخلية .. هذه النقطة مجهولة بجدارة!.. لكن هناك أسباب.. فعندما أخترع الخليل بحور الشعر 770م كان زمانه وقبله تسود في السودان حضارة نوبية/مسيحية في قمة القوة والمنعة ذات لغة ومخيال إجتماعي وحضاري مختلف .. ولم يستطع أحد هزيمتها عسكرياً وعاشت رسمياً حتى العام 1503م وربما بعد ذلك. أي ان الحضارة العربية نشأت وصعدت وماتت في نسختها المزدهرة عام 1250م وظل السودان قبلها وبعدها مسيحياً “رسميا” وحتى العام 1500 وعنده لغاته الخاصة ونسقه الحضاري المختلف جذرياً.
وعلى سبيل المثال العملي عندما ألف صفي الدين الحلي كتابه “العاطل الحالي” في فن الزجل حصرياً عام 1330م.. لم يكن بالسودان أي نوع من الشعر باللغة العربية لأنها ببساطة لم تكن بعد.. أحاول هنا أن أشرح حيرتنا في ضئالة التوثيق بالعربية في السودان أو على وجه الإطلاق أمر عنده مبرراته الموضوعية.. هناك أسباب جوهرية وعملية. وإن صح هذا تكون أمامنا مهمة شاقة جداً “الكتابة والتوثيق” لكن لا بد منها في حسباني بل هي عملية جوهرية وحتمية لتخلق أمة تشعر بذاتها وعندها كينونتها الخاصة المتفردة.. أن نستعيد كل الممكن من تراث شعوب السودان من جديد ونكتبه ونحققه ونجعله متاحاً للناس.. هذا لم يحدث بعد!.
ملاحظة أخيرة: هذه التصورات توصلت لها عبر الحاجة العملية إذ عندما بدأت البحث في موضوع حقيبة الفن السودانية وعبر الصدفة وحدها فتشت بالضرورة عن كتابات أو دراسات في البناء التقني لشعر الحقيبة والأشعار السودانية الأخرى بغرض مقارنة فن الحقيبة بما قبله وبعده من الأشعار لكني فوجئت أن لا شيء من ذلك.. لم يحدث!.. ليس لنا أي إرث خاص يؤطر شعرنا من حيث الأوزان والتفعيلة والبناء التقني للقصيدة كيف تبدأ وكيف يكون متنها ومتى تنتهي.. ببساطة لا يوجد شيء من هذا على بساطته الفنية ولكن وظيفته جوهرية لفرز الأنواع الشعرية وقراءتها تقنياً من الداخل وغيره تستحيل هذه العملية الأولية الحتمية لمعرفة النمط الشعري والغنائي من الداخل كما بدونها تستحيل عملية تقييم الجيد من القبيح والغث من السمين إلا عبر تحكيم الذائقة الخاصة وحدها وهذا شيء غير علمي وهو ما يحدث كل الوقت لأننا لا نملك بعد المعايير العلمية.. إذ تسود حالة عتمة هذه اللحظة كما كل الوقت الماضي.. وقيل قديماً أمة لا تدرك شعرها لا تدرك نفسها وهي أيضاً قناعتي!.