سكينة عربي سودانية بيضاء تمارس سودانيتها المثقفة بلا رتوش.. و عفاف صفوت سودانية سمراء تمارس سودانيتها المثقفة بلا بحث عن تزييف.. و كثيرات غيرهن التقيتهن في حوش الاذاعة و التلفزيون في سبعينيات و أواسط ثمانينيات القرن المنصرم.. لا تبيض ألوان و لا تعطيش الجيم.. و لا ( تثاقف) أجوف.. بساطة في ثقافة في أدب.. و علاقات زمالة بلا تكلف..
و أنت في الغربة، تستطيع أن تلتقط إذاعة أم درمان من بين جميع المحطات العربية دون النظر إلى رقم الموجة.. فاللسان السوداني فيها كان لساناً سودانيا مبيناً ربما جاء من فراج الطيب أو عبد الكريم قباني.. و مع أن التلفزيون لم يكن يمثل عموم السودان إلا أن الزيف و التزييف لم يصلا مرحلة مسح ملامح البلد ببياضه و سواده و ما بينهما ليحوِّل كل الألوان إلى لون أبيض صارخ أحياناً، كما هو الحال في القنوات التلفزيونية مبتورة الثقافة و التي نسمع لها ضجيجاً دون معرفة هوية الصوت النشاز و اللهجة المتَكلفة.
كنت أتناقش مع نفر من الأصدقاء حول ضياع الهوية ( السودانوية) في التلفزيون.. و بعد أن فرغنا من النقاش، رجعت إلى مقال كتبته في جريدة ( التيار) الغراء بتاريخ 10 يونيو 2012 .. تحت عنوان ( الفوتوجينيك.. مفاهيم سودانية!) و لما كان تبييض البشرة قد أصبح أكثر من ظاهرة خطيرة، اجتماعياً و صحياً و مادياً، بين البنات في السودان، إرتأيت أن أشارك فيه قراء الصحف الاليكترونية، و التبييض ماشي ماشي، و إليكم المقال:-
الفوتوجينيك.. مفاهيم سودانية:- أشار الأخ/ معاوية السقا في عموده ( تفانين) بالتيار الغراء، قبل اسبوعين تقريباً، إلى تأثير المزاج العام لفضائية النيل الأزرق في اختيار المذيعات.. و الاشارة هنا إلى المذيعات ذوات اللون الأبيض أو الأكثر بياضا.. كما تطرق برنامج ( لا النسوةً) بفضائية أم درمان ، قبل أسابيع، إلى ( ظاهرة) تبييض اللون ضمن المظاهر السالبة في عالم المرأة و ذلك عند استضافة الفضائية الاعلاميتين / أمل هباني و وداد محمد أحمد.. و استضافت فضائية الشروق شاباً و شابة من مدينة القضارف في برنامج ( أوراق شبابية).. و تطرق البرنامج إلى ظاهرة تبييض البشرة بين الشابات..
كثرة الحديث عن تبييض البشرة تدل على أن العديد من أفراد المجتمع السوداني يستنكفونه كما يستنكفون ظاهرة ( مفاجأة الجيران) حيث تفاجئك بنت الجيران بزيادة وزنها أضعافاً في أقل من اسبوع، و تلك قضية أخرى..
و الملاحظ أن معظم القنوات التلفزيونية تتبارى في عدم عكس الوجه السوداني ( الغالب) في الشارع العام، ربما اعتقاداً من تلك القنوات أن الفتاة ذات البشرة البيضاء هي الفتاة ( المثال)ً على الشاشة.. لأن الوجه ( الفوتوجينيك) أو الوجه الملائم للتصوير الفوتوغرافي.. أو المقنع ) هو الوجه الأبيض فقط.. أما غير ذلك فمكانه البث غير المرئي!
ما كانت الآنسة/ ( أليك)، الفتاة الدينكاوية الأبنوسية، لتجد لها مكاناً تحت شمس السودان ( المحرقة)، لو لم يبعث بها القدر إلى أمريكا لتتبوأ مكانها بين ملكات عرض الأزياء على مستوى العالم.. و أمريكا دائمة البحث عن المواهب في كل الميادين.. و دائمة ( تمكين) تلك المواهب و تسليط الأضواء عليها.. لذلك برزت ( أليك) أفضل بروز بين البيضاوات و الشقراوات.. و رغم أن ( السواد يغمرها) برزت لأنها ( فوتوجينيك) حقيقية في عالم يعرف كيف يضع الشخص المناسب في المكان المناسب..
و لحسن حظ السيدة/ زينب بدوي المذيعة الشهيرة بالبي بي سي، الناطقة بالانجليزية، أنها لم تتقدم بطلب إلى إحدى فضائياتنا للعمل كمذيعة، و لو فعلت، لكان مصير طلبها الخيبة ، كما كانت الخيبة ستكون مصير المذيعة اللامعة بالبي بي سي الناطقة بالعربية الآنسة/ رشا كشان لأن لون كلتيهما- و ليس حضورهما- دون مواصفات فضائياتنا.. لكن حظهما الشبيه بهما ألقى في مسارهما بالبي بي سي ، أعرق هيئة إذاعة و تلفزيون في العالم.. و معايير الاختيار في البي بي سي جعلهما يضيفان إليها و هي الهيئة الرائدة و معاييرها هي القاعدة..
و زينب بدوي و رشا كشان تتمتعان بكل مواصفات ال( فوتوجينيك) بالإضافة إلى مقدرة عالية في الحوار ( المثقف) و الحضور المقنع و التمكن التام من اللغة التي تلي كلاً منهما، ما تفتقر إليه كثيرات من اللواتي يقتلن ( سيبويه) كلما أطلن على شاشات القنوات السودانية و كل مؤهلاتهن بياض البشرة ليس إلا، و نعطِّش نحن حين تضر سودانية هاربة من جلدها إصراراً متتالياً على تعطيِش الجيم !
و لأن الناس على دين ملوكهم، نرى كثيراً من مصوري القنوات التلفزيونية يمارسون التعاطي مع اللون الأبيض بالدقة التي يلتزم بها المنقبون عن الذهب.. و ذلك ب( التنقيب بعدسات الكاميرات عن الفتيات ذوات الوجوه البيضاء أثناء تصوير الحفلات و المناسبات العامة.. تعزيزاً لانتشار ما يمكن أن نسميه ( متلازمة مايكل جاكسون)..
إن الشاذ المسكوت عنه يتحول إلى قاعدة يتم اتباعها تلقائياً و يصبح ما لا يلزم لزوماً في كل بيت.. و تصدمك وجوه في الشارع العام.. و قد فقدت كل جمالها بعد أن لبست لوناً أضاع بهاءها و رونقها و أحالها إلى مسخ.. و كثيرة هي الكريمات التي تدخل البيوت دون تأشيرة من هيئة المقاييس و المواصفات.. و بعيداً عن أعين جمعية حماية المستهلك ذاك الذي ربما يكون عدو نفسه..
في بعض الدول المتقدمة تفتقر بعض الأقليات إلى الفرص في المنافسات للحصول على عمل.. و لتحقيق العدالة الاجتماعية، انتهجت تلك الدول مبدأ ( التمييز الايجابي) في مجالات محددة لتشغيل مواطنيها أو لتقديم خدمات ترتقي بهم إلى مصاف الأغلبية أو تقربهم منهم.. هذا من ناحية، و من أخرى تنتهج تلك الدول مبدأ ( الفرص المتساوية للحصول على عمل) حيث التنافس الحر بين الراغبين في عمل ما بمواصفات لا تستقيم إلا بالكفاءة المحضة و بالمقدرة المحضة..
لم تدخل المبدعتان زينب بدوي و رشا كشان استديو هات البي بي سي عبر التمييز الايجابي بل دخلتا عبر الفرص المتساوية للحصول على عمل..
حالة التمييز الايجابي تعكس شيئاً من العدالة الاجتماعية في المجتمعات ذات الأقليات العرقية أو الثقافية المعرضة حقوقها في الحياة و الرفاه إلى لظلم من قبل الأغلبية ( المتمكنة).. أما في السودان، فالأقلية هي التي جارت على ( حقوق) الأغلبية.. و أصبحت الأغلبية هي المطلوب منها أن تبحث عن التمييز الايجابي! و لاستحالة ذلك، عليها البحث عن ( الفرص المتساوية للحصول على عمل في التلفزيون الحكومي على الأقل!
إنها صورة مقلوبة.. و المقلوب كثير في بلد يمشي مستنداً على عكازة ( التمكين) المعطل للكفاءات و الخبرات.. و الخانق للمواهب الواعدة في كل ركن من أركانه و في كل سماواته.. و لا تدخل سوقه سوى العملات الرديئة بعد طرد العملات الجيدة شر طردة..
و الناس تجأر بالشكوى من الظلم حتى صارت اسماء بعض الاحزاب، المتحدثة باسم الهامش، اسماءً تعكس ما يحسه المجتمع من غبن بسبب التهميش.. و فقدان ( العدالة) و ( التنمية).. أما التهميش ففيه بعدين في الغالب: بعد مكاني و آخر اثني.. أما البعد المكاني، فهو ثابت قد يرتحل منه الانسان إلى حياة أفضل في مكان آخ.. و تبقى المصيبة في البعد الاثني الذي يتحرك مع الفرد أينما تحرك داخل السودان.. و مع ذلك يصر بعض الذين لم يتذوقوا مرارة الظلم و التهميش طوال حياتهم ألا وجود لهما إلا في أذهان الحاقدين.. و ذلك ( ظنٌّ) يحتاج إلى مراجعة!
عثمان محمد حسن
osmanabuasad@gmail.com