انقسام الوجدان السوداني ما بين الانتماء العروبي و الواقع الافريقي , ارهق المثقفين و المفكرين السودانيين زماناً , منذ معركة محمد احمد المحجوب ورفاقه المتشبثين باللحاق بقطار العروبة في ذلك الزمان , تلك المعركة التي استُهلكت فيها الطاقات الذهنية والزمنية في سبيل الانتصار لصالح قبول السودان في الحضن العربي , فاصبحت بلادنا منقادة لجامعة الدول العربية و راضية بدور التابع , او كما يقولون (تمومة الجرتق) , لم نر أميناً عاماً لهذه الجامعة الانتقائية من السودانيين منذ تأسيسها , و في ظني ان السبب يرجع الى المنطلق الذي دخل منه السودان الى هذه المنظمة , وهو منطلق الاستجداء , لذلك ظل السودان طيلة تواجده داخل هذا الوعاء العرقي راضٍ بالدرجة الدنيا فيه , غير طامح لدور قيادي في هذا التجمع العروبي , فالمستجدي كالمتسول تلحظه يسأل الناس الحافاً , فاما ان يمنحوه واما ان يمنعوه , تماماً مثل تأطير دور المسلم الافريقي في انموذج سيدنا بلال بن رباح , فجامعة الدول العربية تعتمد منهاجية صفوية في التمييز بين عضويتها , فلا يجب ان يطمح في تولي مقعد الامين العام شخص صومالي او جيبوتي او سوداني , بل ان هؤلاء الثلاثة يكبلهم احساس عميق بالدونية تجاه الاعضاء الاخرين القادمين من السعودية ومصر ولبنان , فلا مجال للافريقي الاسود في هذا الفضاء الابيض , واي محاولة للتطلع للعب دور ريادي في هذا التجمع العربي من هؤلاء الافارقة , تواجه بالسخرية و بالاستحقار , تطابقاً مع الحادثة الشهيرة التي تداولها الكثير من الكتاب السودانيين , عن سخرية مندوب احدى بلدان الشام من المحجوب عندما قدم له مشطاً صغيراً كهدية ليصفف به شعر رأسه الافريقي الاجعد , موجهاً رسالة للمحجوب معبراً فيها عن رفضه لان يكون مع زنجي قح الملامح في بهوٍ واحد.
هذه الايام اثيرت ضجة كبرى حول اعتراف الرئيس الامريكي بالقدس عاصمة للدولة العبرية , وكالعادة التهب حماس شعوب الدول الافريقية التابعة للمنظمة العربية , السودان والصومال وتونس و الجزائر و المغرب , انها شعوب امازيقية وافريقية تتعصب لقضية آسيوية سامية (نسبة لسام) , فهذا الاستلاب العروبي ادى الى شرخ كبير , في وجدان هذه الشعوب ذات التراث الحضاري الاقدم على وجه البسيطة , في هذه اللحظة التاريخية التي تخلت فيها هذه الامم الزنجية عن جذرها العريق , و تماهت مع قضية ليست بقضيتها , انها قضية عربية , فما دخل الامازيغي و البربري و الاكسومي فيها , ودونكم حديث الرئيس الفلسطيني محمود عباس ابو مازن في القمة الاسلامية بتركيا قبل ايام , فقد قالها صراحة في معرض خطابه واشادته بالدول الاسلامية غير العربية , التي وقفت مع قضية فلسطين ذاكراً اسمي السودان وايران , فكان تصريحه ذلك بمثابة الصعقة الكهربائية ذات الفولتية العالية , التي ضربت إخواننا السودانيين من امثال الطيب مصطفى صاحب صحيفة الصيحة , واخرون سلكوا ذات مسلكه الملكي الذي تحدى به ملوك العرب انفسهم , وذلك بتعريفهم للدولة السودنية بانها دولة عربية , في اصرار اهوج وهروب فاضح من واقع السودان الافريقي المحسوس , انّ طرح القضية الفلسطينية كقضية عربية في المقام الاول ثم اسلامية في المقام الثاني , يجعلنا كسودانيين نقف على بعد مسافة كبيرة فاصلة بيننا و بين هذه القضية العرقية.
من منا لا يذكر مؤتمر اللاءات الثلاث ؟ , المؤتمر الذي حلّ ازمة القطيعة بين عبد الناصر و الملك فيصل , بجهد سوداني خالص تبناه المحجوب , هذا المؤتمر لن تسمع ولن تقرأ عنه الا في منتديات الكتاب و الناشطين السودانيين , فلم تتعرض له القنوات الفضائية العربية الا قناة الجزيرة وعلى استحياء , حزنتُ اشد الحزن عندما علمت ان المحجوب كان يهاتف الملك فيصل لاكثر من ساعة , و كان الحديث كله يدور حول مصر , ولم يتعرض المحجوب خلال مكالمته الهاتفية تلك لذكر مصلحة واحدة يستنفع منها السودان في علاقاته مع المملكة العربية السعودية , ماذا نقول عن هذا التماهي الاعمى مع التيار العروبي ؟ , إنه الاستلاب و لا شيء غيره , فاليعيد المنظرون والساسة من ابناء بلادي النظر في مجمل علاقات السودان مع محيطه العربي , ويقوموا بعمليات جرد للحسابات العالقة مع هذا المحيط , و عليهم كذلك القيام بعمليات (فلترة) لهذا الزخم الهائل من مستهلكات الطاقات المادية و المعنوية , التي قدمتها الحكومات السودانية المتعاقبة ارضاءً لغرور رموز هذه القضية الخاسرة , فالعلاقات بين الدول تحكمها المصالح الاقتصادية , ولا مكان للعاطفة الدينية والعرقية الجيّاشة في مثل هذه العلائق , فالنلتفت الى ادارة مشاريع تجارية مع محيطنا الاقليمي و العالمي تعود بالنفع للوطن الحبيب , بعيداً عن الانزواء خلف الشعارت الهتافية , تلك المستنجدة بعقدة الصراعات الدينية والعقائدية الغابرة.
عندما نشاهد مدينة رام الله الفلسطينية الجميلة العمران , ونقارنها بالخرطوم عاصمة اللاءات الثلاث , تتملكنا الحسرة في المسلك العشوائي والساذج لقادة الانقاذ تجاه دعم ومساندة هؤلاء التجار , نعم انهم تجار ورجال اعمال , اذا علمتم ان شركات المقاولات التي تحصل على عطاءات لمشاريع انشاءات عقارية في دولة اسرائيل , يملكها قيادات في السلطة الفلسطينية , وحتى الجدار الفاصل بين الدولة الاسرائيلية و قطاع غزّة , تقوم بتنفيذه مثل هذه الشركات المملوكة لفلسطينيين , فاندماج وتلاحم ابناء العمومة مع بعضهم البعض ذهب الى ابعد من مجرد تبادل المصالح الاقتصادية , فالشباب الفلسطينيون العرب دخلوا الجيش الاسرائيلي بكامل وعيهم ورغبتهم , و وجهوا بندقيتهم تجاه من يستعدي الدولة الاسرائيلية , والمضحك المبكي أن ابراهيم السنوسي مازال يهزي باهزوجته الناشزة في سعيه المحموم والمخزول لتحرير القدس , فيا شيخنا الجليل ان الخرطوم اولى بان تحرر من المتاجرين بقيم السماء , واحلالهم وابدالهم بتجار واقعيين و وطنيين يرفعون اسم السودان الى اعالي مؤشرات و قوائم النمو الاقتصادي , في الزراعة والصناعة و التجارة و التعدين .
إنّ القدس ليست بأعز من الخرطوم , فاذا كان هنالك من خير نقدمه لاحد فالاولى ان نجود به على شعبنا , فليس من العقلانية ان نناصر قضية ليست قضيتنا , والتحدي الذي يواجهنا يزداد ويكبر يومياً , و بلادنا يتهددها الفقر والتصحر والفساد و الحرب وسوء الادارة , وحتى لا يكون حالنا كحال ذلك الرجل العاري من كل شيء الا (الصديري) , وبرغم بؤس حاله يكابر ويفاخر بانه يرتدي افضل الثياب واحسنها ستراً للعورة , واجب علينا ان نزيح عن كاهلنا هذا العبء الثقيل الذي نائت بحمله قلوبنا , واخذ من زمن واجهاتنا الاعلامية الكثير , فعلاقة الحب من طرف واحد ضحيتها دائماً وابداً هذا الطرف الاوحد , فكفى هدراً للطاقات , ولنتوجه نحو بناء اوطاننا فهي الاكثر حاجة لذلك , و لنشمر عن سواعد الجد للدفاع عن ترابنا والزود عن حياضه , و لنترك الاخرين مع شئونهم الداخلية التي لا حاجة لنا بها , فلقد آن الأوان الذي فيه يجب ان يقف هذا العبث الذي ما زال يقوده ويمارسه بعض هؤلاء الانقاذيون .
اسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com