وكأَّن إقليم دارفور قد جُبل عليه أن يكون جرحه نازفا وداميا في كل الأوقات والأزمنة واللحظات ؛في زمن الحرب والسلام ،في أزمنة الشمولية والثورة ،في اللحظات التي تُعانق فيها شعارات الحرية والسلام والعدالة عنان السماء ،في ذلك الإقليم لا تتوقف نحيب وصراخ اليتامى والأرامل والحيارى والمحرومين الذين ليس لديهم حلم في وجه هذه البسيطة سوي أن يكونوا في عالم تسوده الأمن والاستقرار، يحلمون ألا يعيشوا في عالم تحاصرهم كوابيس القتل والاغتصابات وحرق المساكن ،هذه القلوب المحبة للخير والجمال لم تهنا أبدا…الأطفال الذين ينتظرون منا أن نمنحهم عالما اجمل ينشئونه بالألوان والنور وليس بالبارود والدم …أمهاتنا اللاتي ما زلن يحلمن باخضرار الزرع والحرث والنسل وعودة الحياة الي طبيعتها ،حيث يعود الناس من مزارعهم بالمساء يلقون التحايا مع بعضهم البعض مالئين الديار نورا وسلاما ،وحيث ثغاء الماعز ومأمأة الضأن،ونهيق الحمير ،وحنين النوق وصهيل الخيول ،وخوار البقر ترسل نغمات موغلة في السحر والجمال تزين الكون ألقا وحبا مع كل غروب الشمس ،هذه المناظر الجميلة اُنتزعت عُنوة من أهل دافور واصبح كالسراب يركض من وراءه الدافوري من اجل السلام والاستقرار …ما ذنب العشرات من الأبرياء الذين قُتلوا وأصيبوابأيادي غادرة في شمال دافور، في زمن أسموه بزمن الثورة والسلام … لجميع الشهداء لهم الرحمة والمغفرة ،وللجرحى عاجل الشفاء .
أن السلام كالحرب، معركة لها جيوش وحشود، وخطط، وأهداف، وثقة بالنفس ،معركة ضد كل مضاعفات الهزيمة، ولا يمكن تحقيق السلام وإشاعة الطمأنينة بين الناس في غياب إرادة قوة حب السلام وليس قوة السلام الذي يتأتى عبر المساومات والمصالح السياسية، ولا يمكن تحقيق سلام دونما أن يكون هناك عدل أو علىالأقل أن يكون هناك مقاومة وإرادة جادة لتحقيق العدل وإنصاف المظلومين، وان السلام الحقيقي والمطلوب في دافور ليس غياب حالة الحرب فحسب بل إزالة ومخاطبة كل أسباب ومسببات التي تولد الحروب ،فكيف يكون من المستساغ عقلا ومنطقا أن يؤسس فكرة سلام جوبا علي فرضية الإفلات من العقاب ويتوقع منها تحقيق الاستقرار ! فكيف تؤسس فكرة السلام على التصالح مع الانتهاكات والفظاعات المرتكبة والتي ما زالت تنتج آثارها على جميع المستويات المختلفة بما فيها الحقوق الاقتصادية وحقوق ملكية الأراضي! لتاريخ اللحظة لم تكن هنالك أي آلية لجبر الضرر وإنصاف الضحايا على الرغم من أن تم التنصيص عليها في هذه الاتفاقيات! هذه التجاوزات الجسيمة لفكرة السلام علاوة على نفسية التهافت واللهفة والعجلة للاستوزار واللهث وراء المناصب قد جعلهم يرمونبمشاريعهم الثورية الي مزبلة التاريخ ويديرون ظهورهم لجراحاتإنسان دافور على أيدي ذات المليشيات التي ارتكبت جرائم الإبادة وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، وبذات الآلة الحربية والقيادة التي تتدثر الآن بثوب السلطة في الخرطوم.
قد أتت اتفاقية جوبا ببدعة لم تكن متناقضة شكلا ومضمونا، بل امر يثير لكثير من السخرية والشفقة، على أي أساس تقوم فكرة تكوين قوة حفظ السلام بدافور، وما هي مقوماتها ومكنوناتها؟ فكيف يتم الجمع بين من يؤمن على قتل وسفك دماء المواطنين وبين من يسعي على عكس ذلك؟!!! هل طرأ أي تغيير على مستوي البنية المفاهيمية والعقيدة القتالية لقوات الدعم السريع (الجنجويد) ومليشيات جيش برهان التي ارتكبت الفظائع والانتهاكات في الأقليم؟!!! الم تكن ذات القوات والميلشيات بطبيعتها العدوانية ولذتها في القتل وامتصاص دماء الأبرياء؟!!! وما الغدر والهلاك التي نُصبت لبعض أفراد قوى السلام هي نتيجة حتمية لقرار خاطئ الذي قضي بتشكيل قوة عسكرية مشتركة زُعم أنها تسعي لحماية المواطنين لاتجمع بينهم هدف واحد، بل كل يغني لليلاه! فكيف لجماعة صغيرة أن تقضي على قوة مسلحة وتستولي على مركبات الدفع الرباعي بكامل عتادها العسكري كما ظهرت في مقاطع الفيديو المعروضة!الم تكن ذات قوات الدعم السريع تدير لُعبة الأدوار المختلفة؟!
ذكرنا في مقالاتنا السابقة وبشكل مستفيض ،أن أُس الأزمة كلها تكمن في إعادة هيكلة الجيش وجميع الأجهزة الأمنية والعسكرية بما فيها قوات الدعم السريع، في جيش واحد بعقيدة قتالية وتدريبية جديدة تقوم علي فكرة حماية الشعوب السودانية ومكتسباتهم بدلا عن العقيدة القائمة علي شن الحروب وقتل واغتصاب المواطنين ،وذكرنا أن هذا هو الصمام الأساسي لاي تحول ديمقراطي ونظام حكم مستدام في السودان ،لذلك أن ما يُسمي بقوة حفظ السلام في دافور أن تم تشكيلها علي هذا الأساس لا معني لها وتكون النتيجة في أي مكان في الإقليم كما حدث في شمال دافور ومزيد من مضاعفة الألم والمعاناة للمواطن المغلوب علي أمره الذي تُرك هو وشانه والعذاب بعد خروج بعثة اليوناميد التي كانت في أسوأ الفروض تلعب دور الرقيب للانتهاكات …يجب علي المجتمع الدولي الإسراع فورا في حماية المدنيين من الانتهاكات المتكررة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي ،لان الحكومة السودانية الانتقالية بجميع مكوناتها قد فشل فشلا مريعا في حماية المدنيين من الانتهاكات المتكررة .
عبد العزيز التوم