عَدَمْ قُدرة وَرغبَة القَضاء الوطنِي السُّوداني هُو الذي جَعَل الاخْتصَاص لِلمَحكَمة الجِنَائيّة الدولِيّة
في إطار الجدل القائم بين حكومة السودان والمحكمة الجنائية الدولية , وماصا حب ذلك من ردود أفعال دولية متباينة , منها المؤيدة , والمعارضة , وذلك في سياق الطلب الذي قدمه السيد / لويس مورينوا أوكامبوا , المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية لقضاة الدائرة التمهيدية التابعة للمحكمة الجنائية الدولية , بإصدار أمر قبض في حق رئيس جمهورية السودان الحالي ( عمر حسن احمد البشير ) , وذلك لاعتقاده , بأن له أدلة قوية وموثقة تثبت تورط الرئيس السوداني في ارتكاب جرائم الابادة الجماعية , وجرائم الحرب , وجرائم ضد الإنسانية في الإقليم , وضد قبائل معينة ذكرها المدعى العام وهذه القبائل هي على سبيل الحصر كل من ( الفور , والمسا ليت , والزغاوة ) تلك القبائل لها وجود تاريخي منذ الآلاف السنين .
هذا الطلب الذي قدمه المدعى العام أثار ردود أفعال مختلفة على المستويين المحلى السوداني , وعلى المستوى الاقليمى ( الوطن العربي الكبير , القارة الأفريقية ) , فعلى المستوى المحلى السوداني , فقد نافحت الحكومة السودانية الطلب ,واستنكرته بشدة بل وصفته بأنه سياسي , ولا يمت إلى القانون بصلة , وأنها لا تعترف بالمحكمة لأنها ليست طرفا فيها . أما على المستوى الاقليمى فقد سعت كل من الجامعة العربية , ومنظمة الاتحاد الافريقى إلى تجميد الطلب , واعتبرت المنظمتان الإقليميتان الطلب بالخطير , والسابقة الفريدة من نوعها , وربما يعجل بعملية السلام والتحول الديمقراطى في السودان برمته إلى الانهيار .
إزاء كل الجدل السابق والمتباين , فأننا نوضح , واستنادا إلى القانون الدولي , ونظام روما الاساسى 1998 م , المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية , نوضح ماهية المحكمة الجنائية الدولية وعلاقتها بأزمة إقليم دار فور , ومدى اختصاصها بالوضع في الإقليم , وخفايا الطلب الذي قدمه المدعى العام للمحكمة الجنائية في 14/ يوليو من العام 2008 م , لقضاة الدائرة التمهيدية لإصدار أمر قبض في حق رئيس السودان .
المحكمة الجنائية الدولية هي هيئة جنائية دولية مستقلة مختصة بمحاكمة الأفراد الذين يرتكبون اشد الجرائم خطورة على الإنسانية , تلك الجرائم هي موضع اهتمام المجتمع الدولي , والتي تقلق مضجعه , وهذه الجرائم هي على سبيل الحصر لا المثال , جرائم الابادة الجماعية , وجرائم الحرب , جرائم ضد الإنسانية ., كما ورد فى المواد 6, 7, 8, من النظام الاساسى للمحكمة الجنائية الدولية .
ومن الجدير بالذكر أن المحكمة الجنائية الدولية , كان حلما يراود محبي السلام فى العالم حتى تحقق هذا الحلم الكبير , وذلك عندما عقد المؤتمر الدبلوماسي الأول في روما 1998 , وكان ذلك بمشاركة أعداد كبيرة من وفود الدول ,والمنظمات الحكومية , والمنظمات الغير الحكومية , ونشير هنا أن المنظمات غير الحكومية فى الدول العربية كانت قد شاركت بفعالية , وقبل إنشاء المحكمة الجنائية كانت تقام في السابق محاكم جنائية خاصة , ومؤقتة تنتهي بأنجاز مهمتها التي من اجلها نشأت , وكان الغرض منها محاكمة المجرمين , ومن تلك المحاكم يمكن ان نذكر تلك المحاكم التي أنشأت عقب الحرب العالمية الثانية 1945 م , لمحاكمة مجرمي الحرب , فضلا عن محكمة يوغسلافيا السابقة ورواندا 1994 , والمحاكم التي أقيمت فى تيمور الشرقية , والسراليون والبوسنة والهرسك …الخ . وبدخول المحكمة الجنائية الدولية حيز النفاذ يكون قد قطعت الطريق أمام إنشاء اى محكمة خاصة ذات طابع دولي .
بالفعل دخلت المحكمة الجنائية الدولية حيز النفاذ بعد ان صادقت على النظام 60 دولة , وهو النصاب المطلوب لدخول المحكمة حيز النفاذ , ومنذ إنشاء المحكمة حتى تاريخ اللحظة بلغت عدد الدول التي صادقت على النظام الاساسى 108 دولة , من بينها ثلاثة دول عربية , هي كل من الأردن , وجيبوتي , وجزر القمر التى صادقت على النظام في 18 / أغسطس من العام 2006 م , أما جزر الكوك فتعتبر آخر الدول التي صادقت على النظام الاساسى للمحكمة الجنائية الدولية حيث صادقت في تاريخ 18 / يوليو من العام 2008 م .
أما عدد الدول التي وقعت على النظام الاساسى فقد بلغ عدد الدول 139 دولة من بينها السودان الذي وقع على النظام الاساسى في العام 2000 م , غير أن السودان لم يصادق بعد على النظام الاساسى , وليس هناك فائدة تذكر في ما إذا صادق السودان أو لم يصادق , بل بامكان السودان أن يسحب توقعيه , كل ذلك لن يجدي بشيء لأن حالة السودان تم إحالتها إلى المحكمة الجنائية الدولية عبر مجلس الأمن بموجب القرار 1593 للعام 2005 .
فهناك دول عديدة لم توقع , على النظام من أساسه , ومن بينها دول عربية عديدة , ومن المعلوم أن المحكمة الجنائية الدولية تنظر أربعة قضايا , هي كل من قضية الكنغو الديمقراطية , وقضية شمال أوغندا , وقضية أفريقيا الوسطي , وأخيرا قضية دار فور – السودان .
أما في ما يتعلق بالجدل الثائر حول اختصاص أو عدم اختصاص المحكمة الجنائية الدولية في أزمة إقليم دار فور , فنريد أن نؤكد من الآن فصاعدا أن المحكمة الجنائية تنعقد لها الاختصاص بالنظر في الجرائم الخطيرة التي لا توصف , والتي وقعت في الإقليم منذ العام 2003 حتى الآن , وذلك بالرغم من أن السودان لم يصادق على النظام الاساسى , لأن الحالة في إقليم دار فور تم إحالتها إلى المحكمة الجنائية الدولية عبر مجلس الأمن بموجب القرار 1593 , للعام م2005 وهذا القرار يقطع الطريق أمام السودان , من أنها لم تصادق على النظام الاساسى للمحكمة الجنائية الدولية .
إن جل أطراف النزاع في الإقليم متورطين في ارتكاب جرائم لا توصف في الإقليم ضد المدنيين العزل , وارتفعت أصوات حول العالم تزعم بوقوع جرائم الابادة الجماعية في الإقليم من العرب ضد القبائل الأفريقية, مما دعا مجلس الأمن إلى تكليف السكرتير السابق للأمم المتحدة السيد / كوفي انان إلى تشكيل لجنة دولية , لتقصى الحقائق حول مزاعم الابادة الجماعية في الإقليم , بالفعل تم تشكيل اللجنة في العام 2004 , وخلصت اللجنة , ان فى الإقليم وقعت انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان , كما وقعت جرائم تختص بها المحكمة الجنائية الدولية , كجرائم الحرب , وجرائم ضد الإنسانية , وذكرت اللجنة , انه وقعت جرائم خطيرة لاتقل خطورة عن جريمة الابادة الجماعية غير أنها تركت الأمر للمحكمة الجنائية كجهة مختصة لتحديد ماذا كانت جريمة الابادة الجماعية قد وقعت أم لا , وفى الطلب الأخير الذي قدمه المدعى العام لقضاة الدائرة التمهيدية بإصدار أمر قبض في حق رئيس جمهورية السودان , أكد المدعى وقوع جريمة الابادة الجماعية في الإقليم .
ومن الجدير بالذكر أن اللجنة الدولية 2004 م , أو صت في تقريرها الختامي بضرورة إحالة الوضع في الإقليم إلى المحكمة الجنائية الدولية وذلك كون القضاء السوداني غير قادر وفى نفس الوقت غير راغب في محاكمة المجرمين .
وبالفعل اجتمع مجلس الأمن على عجل , وبعد مناقشات مستفيضة تم إصدار القرار 1593 , في العام 2005 م , والذي يلزم حكومة السودان بضرورة التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية , ومن المعلوم أن القرار صدر بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة , وهذا يؤكد أن السودان ربما يتعرض لعقوبات متدرجة إذا ما رفض التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية , وبعدها باشر المدعى العام فتح التحقيق حول مزاعم الابادة الجماعية في الإقليم , وبعد يوم واحد فقط من إعلان المدعى العام , وفى تاريخ 7/ يونيو 2007 أنشأت السلطات السودانية المحاكم الخاصة التي كرست وبصورة خطيرة قضية الإفلات من العقاب . ولكن المجتمع الدولي بما فيها المحكمة الجنائية الدولية لم تعترف بالمحكمة السودانية الخاصة , حيث اعتبرت المحكمة الجنائية أن تلك المحاكم هي بمثابة الهروب من مخلب المحكمة الجنائية الدولية . واستمر الجدل قائم بين الحكومة السودانية والمحكمة الجنائية الدولية حيث لم تعترف الحكومة السودانية بالمحكمة ورفضت التعاون مع لجان التحقيق التابعة للمحكمة , وحينها أكملت المحكمة تحقيقاتها خارج السودان , ومضت المحكمة في طريقها إلى أن أصدرت الدائرة التمهيدية التابعة للمحكمة أمر قبض ضد كل من السيد /احمد محمد هارون , والسيد / على محمد على عبد الرحمن , وطالبت الحكومة السودانية بتسليمها الا أن الحكومة السودانية ظلت متمترسة في موقفها الأول الرافض التعاون مع المحكمة الجنائية بصورة مطلقة .
وفى 14 يوليو من العام 2008 م طلب المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية من قضاة الدائرة التمهيدية إصدار آمر قبض فى حق رئيس جمهورية السودان السيد / عمر حسن احمد البشير , وذلك لاعتقاده بأنه يمتلك أدلة قوية وموثقة تثبت تورط البشير في ارتكاب جرائم الابادة الجماعية , وجرائم الحرب , وجرائم ضد الإنسانية في الإقليم , وضد قبائل معينة ذكرها المدعى على سبيل الحصر هي كل من قبائل الزغاوة , والمسا ليت , والفور . حيث انه من المتوقع أن يستغرق طلب المدعى العام نحو ثلاثة شهور حتى يبت فيها قضاة الدائرة التمهيدية , وذلك إما بالرفض أو القبول , ولكن من الراجح أن القضاة سوف يصدرون أمر قبض في حق الرئيس / البشير .
والآن ليس هناك سوى خياران أمام الحكومة السودانية , أحلاهما علقم , فالخيار الأول : إما أن تتمترس الحكومة في موقفها الرافض التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية , ومن ثم تواجه المجتمع بأثره , وغالبا ما يجتمع مجلس الأمن لتفعيل الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة , ويجب على الحكومة السودانية أن لا تعو ول كثيرا على الفيتو الروسي , او الصيني , لأن مصالح تلك الدول مع الغرب أكثر بكثير من مصالحها مع السودان , كما يجب على الحكومة السودانية ان لا تراهن على العالم العربي , فنظام الرئيس العراقي السابق كان يسقط سريعا مريعا , والأمة العربية والإسلامية كانت تغض الطرف , بل أن البعض كان يساهم بفاعلية في سقوطه , حيث انطلقت الصواريخ من الدول العربية نفسها .
وفى نفس السياق يجب على الحكومة السودانية ان لا تراهن على سراب الدول الأفريقية , لأن الحكومات الأفريقية هي أولى الدول التي سوف تبادر بتسليم البشير الى المحكمة الجنائية الدولية .
اما الخيار الثاني فهو الخيار العقلاني , وهو ضرورة التعاون مع قرارات الشرعية الدولية (1593) , ويجب على الحكومة السودانية أن تتخذ قرارا شجاعا قرار تاريخيا يكتب لها بأحرف من نور , نعم يجب على الحكومة السودانية ان تشق طريقها بقوة وبخطى ثابتة نحو المحكمة الجنائية الدولية وتدافع عن نفسها , هذا هو الحل الأنجع , وبهذا القرار الشجاع سوف تقطع الحكومة السودانية الطريق أمام المتربصين , والذين يتربصون بهذا الوطن , نعم يجب ان تقطع الحكومة السودانية الطريق أمام أولئك الذين أصبحوا خناجر مسمومة في خاصرة الوطن العزيز .
نعم يجب على الحكومة السودانية أن تدافع عن نفسها دفاعا مستميتا فى قاعات الدائرة التمهيدية التابعة للمحكمة الجنائية الدولية بلاهاي , نعم يجب على الحكومة السودانية ان لا تتشدق بالسيادة الوطنية , لأن المحكمة الجنائية الدولية لا تعترف بالسيادة الوطنية فى ظل الابادة الجماعية , وجرائم الحرب , وجرائم ضد الإنسانية , كما ان المحكمة لا تعترف بالحصانات . نعم يجب ان يحاكم اى شخص ارتكب جرائم فى حق المدنيين العزل فى إقليم دار فور اى كان .
ان العدالة والمسالة القانونية هما الطريقان الوحيدان لنشر السلام والعدل فى السودان بصورة عامة , وإقليم دار فور بصورة خاصة .
حماد وادى سند الكرتى
محامى وباحث قانونى