جنيف _ صوت الهامش
نشرت وكالة ذا نيوهيومانيتاريان الإخبارية تقريرا مطولا تحت عنوان: “العدالة يجب أن تتحقق أولاً: لماذا يرفض الدارفوريون اتفاقيات الصُلح بين القبائل؟”
واستهل التقرير، الذي اطلعت عليه صوت الهامش، بالإشارة إلى أن سلسلة من اتفاقيات الصُلح أُبرمت الصيف الماضي بين قبائل في إقليم دارفور ذات التاريخ الطويل من المعاناة؛ حيث شرّدت موجات نزوح جماعية أكثر من 700 ألف نسمة في السنوات الأخيرة.
لكن تلك الاتفاقيات واجهت رفضا من كثير من الدرافوريين لأنها أُبرمت بين يدَي قائد قوات الدعم السريع – المتورّطة في أعمال عنف دامية في الإقليم.
وقال دارفوري، كان قد نجا من هجمات في 2019 و أخرى في 2021 منسوبة لعناصر من قوات الدعم السريع ومسلحين محليين: “لا يمكن لقوات الجنجويد أن تقتلنا ثم تدعونا إلى السلام وكأن شيئا لم يكن”.
وخرجت قوات الدعم السريع من رَحِم عدد من الميليشيات العربية في دارفور، وهي مشهورة باسم الجنجويد. وقد شكّلها الرئيس السابق عمر البشير لقمع الجماعات المسلحة غير العربية في الإقليم. وكانت تلك الجماعات قد ثارت في مطلع الألفية الجديدة متهمة الحكومة بإهمال دارفور.
ورغم الاتهامات التي تلاحق الجنجويد بارتكاب مجازر ضد غير العرب من أبناء دارفور، أصبحت قوات الدعم السريع جزءا من القوات الأمنية الرسمية في عموم السودان. كما أصبح قائد تلك القوات -محمد حمدان دقلو الشهير بـ حميدتي- شخصية سياسية بارزة.
ونالت اتفاقيات الصُلح التي أبرمها حميدتي بين قادة قبائل عربية وغير عربية في دارفور استحسانا من كبير مسؤولي الأمم المتحدة في السودان، والذي دعا بدوره -في أثناء زيارة العام الماضي إلى دارفور- إلى وضْع تلك الاتفاقيات موضع التنفيذ.
لكن دارفوريين يقولون إن هذه الاتفاقيات أسهمت في إفلات جُناة من أيدي العدالة، كما ساعدت في توطيد أركان قوات الدعم السريع، فضلاً عن أن هذه الاتفاقيات لم تقدّم شيئا على صعيد معالجة جذور الصراع.
كما أن الدارفوريين الذين أعلنوا رفضهم لتلك الاتفاقيات قد أُلقي القبض عليهم بأيدي قوات الدعم السريع.
أمير حرب أم صانع سلام؟
أسهمت عوامل عديدة في اشتعال العنف بإقليم دارفور، والذي كان ذات يوم يمثل قضية رأي عام عالمي، لكنه لم يعد كذلك – فلم تعد أخباره تتصدر الصحف العالمية، بل إن الإقليم يعاني من أجل مزيد من تمويل عمليات مساعداته إنسانيا.
وتجعل النزاعات على الأرض الصراع في دارفور شائكا. وقد استولت قوات الجنجويد على قرى من قبائل غير عربية في مطلع الألفية الجديدة، ونتيجة لذلك يعيش ملايين الدارفوريين في مخيمات لجوء ونزوح حتى الآن.
ومؤخرا، وقعت حوادث عديدة بسبب صراعات على الأرض وكذلك نزاعات فردية. وفي 2019، أدى مقتل شخص عربي في مخيم كريندق للنازحين -والذي أقامته قبيلة المساليت غير العربية- في ولاية غرب دارفور إلى هجوم على المخيم شنّه مسلحون عرب بدعم من قوات الدعم السريع، على ما زعم كثيرون.
واستمرت حلقات العنف بين المساليت والعرب حتى عام 2022، فيما اشتعلت صراعات في ولايات دارفورية أخرى. وفي ديسمبر، قتل رعاة إبل من عرب الرزيقات 15 شخصا في جنوب دارفور. وأفادت تقارير بأن عناصر من قوات الدعم السريع انخرطت في تلك العمليات الدموية.
وقد دفعت هذه الحال من انعدام الأمن في إقليم دارفور الكثيرين إلى الترحيب بمساعى السلام.
لكن معظم الضحايا والعديد من منظمات المجتمع المدني والمحامين والناشطين يصفون مساعي حميدتي وجهوده المزعومة للسلام بأنها إنما تخدم مصلحته الشخصية.
ويقول هؤلاء إن الجنرال حميدتي يستخدم هذه المساعي من أجل تحسين صورة قوات الدعم السريع وتصدير نفسه كـ بطل في مناطق الهامش وكـ شريك للقوى المؤيدة للديمقراطية.
لكن هذه المهمة لن تكون سهلة أمام الجنرال حميدتي، لا سيما بعد أن دعم انقلاب أكتوبر 2021 على حكومة كان يُفترض أن تقود السودان خلال فترة انتقالية تنتهي بانتخابات ديمقراطية.
مراوغة العدالة
يرى كثير من الدارفوريين أن اتفاقيات الصُلح هذه إنما ترسّخ للإفلات من العدالة. ويقول هؤلاء إن الجنرال موسى حامد امبيلو قياديّ بقوات الدعم السريع المسؤول عن لجنة تنفيذ هذه الاتفاقيات هو نفسه متهم بالوقوف وراء هجوم 2019 على مخيم كريندق للنازحين أودى بحياة 72 شخصا.
وتقدّم شهود ببلاغات إلى الشرطة يتهمون فيها الجنرال امبيلو وآخرين من عناصر قوات الدعم السريع بالضلوع في هجوم 2019 على مخيم كريندق للنازحين.
وقد تلقى العديد من هؤلاء تهديدات بالقتل وواجهوا ضغوطا لسْحب تلك البلاغات، فيما لقي أكثر من عشرة أشخاص مصرعهم في هجوم لاحق على مخيم كريندق في عام 2021، بحسب محامين كانوا موكلين بالدفاع عنهم.
وينصّ قانون العقوبات السوداني على أن عناصر قوات الأمن يتمتعون بحصانة كاملة من القانون، لا يمكن أن يرفعها عنهم إلا قائدهم. ويقول المحامون إن قائد قوات الدعم السريع الجنرال حميدتي لم يحاسب أياً من رجاله، وإن الجنرال امبيلو إنما تمّ نقله إلى الخرطوم.
ولم يردّ المتحدث الرسمي باسم قوات الدعم السريع على تساؤلات حول السبب وراء عدم رفع الحصانة عن الجنرال امبيلو، وعن السبب عن تعيينه رئيسا للجنة تنفيذ اتفاقيات الصُلح.
وقال أحد الشهود الناجين من مخيم كريندق للنازحين إن “حميدتي يحاول غسل أدمغة الناس وإقناعهم بأن امبيلو صانع سلام”، لكن العدالة لم تتحقق حتى الآن فيما ارتكب امبيلو من جرائم.
أسباب أخرى
ثمة أسباب أخرى وراء انتقاد كثير من الدرافوريين لاتفاقيات الصُلح. ويشعر كثيرون بأن تلك الاتفاقيات حصرت أسباب صراع دارفور في النزاعات بين القبائل فحسب وتجاهلت عوامل سياسية أخرى وراء العنف في الإقليم، فضلا عن تعتيم تلك الاتفاقيات على انخراط قوات الدعم السريع في أعمال قتل.
ولم تنشأ صراعات دارفور الأخيرة من فراغ؛ وإنما اشتعلت هذه الصراعات وسط انسحاب مهمة حفظ السلام في الإقليم، وتوقيع اتفاق سلام وطني مثير للجدل، وفي ظل عملية انتقالية مضطربة ما بعد نظام البشير.
وفي ذلك يقول ناشط من قبيلة المساليت -طلب عدم الإفصاح عن اسمه لدواعي تتعلق بالأمان- إن “العنف ليس قَبليا فقط؛ إنه مُمنهج ويستهدف خصوم قوات الدعم السريع”.
ويشكّ كثير من الدارفوريين في أن قوات الدعم السريع استخدمت اتفاقيات الصُلح هذه كغطاء لحملة قمعية ضد خصومها في الإقليم.
ويستدل هؤلاء بإلقاء القبض على عشرات الدارفوريين في نفس الوقت الذي جرى فيه توقيع اتفاقيات الصُلح.
وقال أحد قيادات قبيلة القمر في غرب دارفور إن قوات الدعم السريع اعتقلت أشخاصا من قريتهم في شهر يونيو، وإن ذلك قد حدث في نفس يوم توقيع اتفاق صُلح مع قادة من قبيلة الرزيقات – التي ينتمي إليها حميدتي وكل القادة الكبار في قوات الدعم السريع.
وقد رأى زعماء قبيلة القمر، في ظل هذه الاعتقالات، أنه ليس أمامهم خيار آخر سوى قبول اتفاقيات الصُلح.