صوت الهامش , قراءات إفريقية
لا ندري إذا كانت صفة التخلف تنطبق علينا كأفريقيين أم أنها تنطبق على الاستعماريين والمختطفين السارقين. فهم دائما ما يشيرون في بعض كتاباتهم إلى أنهم جاءوا بالحضارة إلى أفريقيا, وكأنهم عندما قدموا كان لا يوجد في القارة أي تعليم وليس فيها مثقفون وعلماء.
منذ حوالي ثلاث سنوات ماضية, تستقطب المواقع الاجتماعية بعض النشرات التي تنثر الغبار عن شخصيات إفريقية من عائلات مثقفة كانوا ضحايا تجارة العبيد التي شهدتها أفريقيا. ومن بين هؤلاء “أيوب بن سليمان” و “عبدالرحمن بن إبراهيم بن سوري”, غير أن الحديث هنا عن الأول دون الثاني.
النشأة
أيوب )أو “أيوبا” بنطق أفريقي( بن سليمان بن جالو؛ شخصية نبيلة مسلمة, اشتهر بكونه ضحية لتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي. وتعتبر مذكراته المنشورة إحدى أقدم “روايات الرقيق”، وذلك في كتاب “فرانسيس مور” : رحلات في الأجزاء الداخلية من أفريقيا.
ولد أيوب في بوندو بالسنغال في غرب أفريقيا، في مطلع القرن في عام 1701، وكان من عائلة فلانية تثبت الروايات والكتب حول أيوب أنها كانت عائلة أرستقراطية. كما أنه تلقى التعليم العربي والعلوم الإسلامية وهو ماهر فيها. وبما أنه من أسرة ثرية, فقد استقر كزوج لاثنتين وهو في 31 من عمره ومعه أربعة أطفال: عبد الله، إبراهيم، سامبو وفاطمة.
الوقوع في الرق
تحوّل مجرى حياة أيوب المسالمة إلى العكس في عام 1731, عندما كان عمره 31 سنة, سافر إلى غامبيا على الساحل الأطلسي، حيث أنشأ البرتغاليون والبريطانيون موانئهم التجارية, وقد أتى لشراء الورق ومعه مترجمه “الأمين يواس” والمعروف بالإنجليزية “Loumein Yoas” أو “Lamine Jay”, كان قومه يأتون بها تقليديا من شمال أفريقيا والشرق الأوسط لكن بإمكان أسرته الآن شراءها بسهولة من الأوروبيين. غير أن الأوروبيين الموجودين في المناطق ليسوا هناك لبيع الورقة, بل الكثير منهم يبحثون عن أسر وشراء الرقيق.
قبل وصول أيوب ومترجمه إلى وجهتهما, قبض عليهما الماندينغ, وقبل بيعهما حلقوا رأسهما كي يبدو عليهما آثار حرب وكأنهما مأسوران. وهكذا تم بيعهما في 27 فبراير عام 1731 للنخاس البريطاني االكابتن “بايك”.
بعد فترة وجيزة, سنحت الفرصة لأيوب ووجد وسيلة للتعريف بنفسه للكابتن “بايك” وأنه كان نفس الشخص الذي جاءه لبيع الورقة في بضعة أيام مضت وأنه ليس عبدا. وبهذا أعطاه “بايك” الفرصة لبحث الطرق ليعتق نفسه ومترجمه. فبعث أيوب رسالة إلى صديق والده قرب غامبيا والذي وعد بدوره أنه سيرسل رسالة إلى والده ليخبره بما حدث، وبما أن رحلة هذا الشخص للوصول إلى والد أيوب تستغرق أسبوعين, ولم يبق للإبحار بالعبيد سوى حوالي أسبوع، انطلقت السفينة وأحضروا أيوب مع بقية العبيد إلى “ماريلاند” بأمريكا، وتم تسليمه إلى السيد “فاشيل دينتون”.
سمع أيوب من السفن القادمة من غامبيا أن والده أرسل عدة عبيد ليعتق ابنه بهم بُعَيد إبحار الكابتن بايك بالسفينة. وأنّ “سامبو” ملك “فوتا” قد أعلن الحرب على الماندينغ وأصيب أعداد كبيرة منهم بسبب ما فعلوه بأحد أفراد قومه وزملائه.
حياته في أمريكا
لقد باع الكابتن بايك أيوب لمزارع يدعى ” تولستوي” الذي كان يعمل “فاشيل دينتون” لصالحه، وهو الرجل نفسه الذي سوف يلقاه أيوب مرة أخرى في المستقبل.
وكخطوة أولية في محاولة لمحو هوية الرقيق الأصلية, غيّر “تولستوي” اسم أيوب وأعاد تسميته إلى “سيمون”, غير أن أيوب مع كونه في أغلال العبودية – أراد الاحتفاظ بهويته دون تنازل ولو عن قطرة منها، فاختار لنفسه اسما آخر غير الذي أعطاه سيده, حيث اختار لنفسه “Job ben Solomon”، وهو الترجمة الحرفية لاسمه الأصلي “أيوب بن سليمان”.
كان أول مهمة وُكّل إلى أيوب كعبد هو العمل في حقول التبغ، الأمر الذي أدى إلى مرضه الشديد لأنه لا يطيق مثل هذا العمل، وليس لسيده خيار آخر سوى أن يجعله مسئولا عن الماشية ورعيها بدلا من التبغ. وهكذا وجد أيوب راحة نسبية لكونه ذا خبرة ولو يسيرة عن الرعي وخاصة لأنه من قبيلة الفلاته ومثل هذا العمل تقليدي لديهم.
ولعل الراحة التي يتمتع بها أيوب تكمن في الفسحة التي يحصل عليها أثناء عمله الجديد لأداء الصلاة، والتي لم تكن متاحة له في حقول التبغ، حيث يوجد فيها من يشرف عليه دائما. فما له سوى ترك الماشية والذهاب إلى غابة قريبة لأداء الفرائض الصلاة.
ومع ذلك، اكتشف صبي أبيض أمر أيوب وما يقوم به في الغابة, فيستهزئ به ويرميه بالأوساخ وهو يصلي.
فراره
ربما كان بسبب هذه الحادثة وغيرها من الحوادث المؤلمة والمتكررة أدت بأيوب إلى أن يقرر الفرار من سيده بعد أن خدمه لبضعة أشهر فقط, فوُجد أيوب بعد هروبه في “بنسلفانيا”, وألقي القبض عليه مسجونا منتظرين من سيده الإتيان لاسترداده.
وأثناء سجنه كانوا يعرضون عليه شرب النبيذ لكنه يرفضه – ربما ليثبت أنه كان حقا مسلما. وقد شاعت صيته محليا في فترة وجوده في السجن لقدرته على الكتابة باللغة العربية ولنسبه النبيل الذي أتى منه. فأثارت قدرته على القراءة والكتابة انتباه المحامي والقس “توماس بلويت” والذي كان بدوره يعمل لنشر الإنجيل والتبشير. وبعد أن أمضى بعض الوقت مع أيوب، انتهى “بلويت” إلى القول بأن هذا الشاب بكل التأكيد ليس كالعبيد الباقين من الأفارقة-الأميركيين.
حياته بعد السجن
ساهمت سمعة أيوب الجديدة في إلهام “تولستوي” بعد قيامه باسترداده من السجن، وصار يعامله بأقل قسوة والتخفيف من عبء عمله وأعطاه مكانا خاصا للصلاة. وقد اكتشف “تولستوي” بعد ذلك أن أيوب كان من عائلة ثرية ومثقفة عندما كشف عبد آخر يتحدث ويفهم لغتي قبيلة أيوب والإنجليزية معا. وللحقائق التي كشف عنها هذا العبد دورها في تخفيف العناء والازدراء عن أيوب.
قاوم أيوب وضعه المحزن باستسلامه لربه والتزامه بإيمانه، فكان صواما قواما متمسكا بشريعة دينه حتى في الغذاء. فمما يروى عنه أنه لا يتاح له الأسماك، ولكنه مع ذلك لن يتذوق ولو قليلا من لحم الخنزير، لكونه حراما في قوانين دينه الإسلام.
وروي عنه أيضا أنه يرفض أكل أي لحم إلا إذا كان هو من ذبحه بيديه أو قام بذلك مسلم آخر، ولذلك يسمح له المحيطون به في كثير من الأحيان أن يقوم بذبح اللحوم ليتسنى له ولهم الأكل منها.
فقد يكون ما جعل وضع أيوب في سوء متزايد عدم فهمه للغة الإنجليزية, لكن هذا أيضا لم يغير فيه شيئا. فقد كان عالما ومتبحرا في تعاليم الإسلام حتى وإن لم يجيد لغة الذين اختطفوه، وكان شعوره بهويته الأصلية متجذرة. وبما أنه لم يجد أي وسيلة للتعبير عن نفسه فقد لجأ إلى دينه وعقيدته وهويته.
وكما تقول المؤرخة “سيلفيان ديوف” : “لقد وضع سليمان جالو إيمانه في الله. فعندما واجه وضعا غير معروف يحتمل أن يكون خطرا وليس له سيطرة عليه، أثبت ببساطة عقيدته الاسلامية. وقدم الشهادة ]إعلان الإيمان[ التعريف لوجوده الخاص، [..] وقد فعل ذلك بحق، لأنه في نهاية المطاف، أنقذه إيمانه وتربيته الإسلامية، محررا إياه من العبودية”. )ديوف، ص.72(
بعد الخروج من السجن والحصول على الحرية لممارسة دينه، فما زال يبحث عن مخرج. وقرر كتابة رسالة إلى والده في السنغال، موضحا له كل ما حدث، طالبا عائلته إيجاد وسيلة لتحريره. ولأنه لاحظ بذكاء شبكات تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي التي أُحضِر عبرها، بعث الرسالة إلى “قاشيل دينتون” ليرتب هو كيف ستصل إلى الكابتين “بايك” ليتم إرسالها إلى أفريقيا. وهذه خطوة محفوفة بالمخاطر لأنه كان يستعين بالذين لعبوا دورا مباشرا في استرقاقه, فكيف بهم أن يتعاونوا معه الآن لكي يحصل على حريته؟
إن الحقيقة أن هؤلاء الأشخاص تجار العبيد ليسوا مهتمين في الحقيقة بالعبودية نفسها, وإنما ما يهمهم أكثر هو المال الذي يحصلون عليه منها. فإذا كانوا متيقنين أنهم سيحصلون على شيء من الأموال, فسيقومون بكل ما لديهم لمساعدته.
أدى دينتون مطالب أيوب بأمانة, وأرسلها إلى بريطانيا بإعطائها للكابتين “هونت” وذلك ليسلمها للكابتين “بايك” والذي بدوره يقوم بإيصالها إلى أفريقيا. ولكن الرسالة قبل أن تصل بريطانيا، غادر الكابتن “بايك” متجها إلى أفريقيا.
تفاقم الأمر على “هونت” لأنه لا يعرف ما غليه القيام به، فغرض الرسالة على ـ”جيمس أوغليثورب”، محسن وسياسي، ونائب محافظ شركة رويال أفريقيا. أثير اهتمام “أوغليثوربي” ، وأرسلت الرسالة الى رئيس اللغة العربية في جامعة أكسفورد،” جون غاغبير” ليترجمها. وعندما قرأ الترجمة، قرر “أوغليثورب” شراء أيوب ليمنحه حريته.
رحلته إلى لندن
تم شراؤه من قبل “جون أوغليثورب” بعد أن كان مستعبَدا لمدة 18 شهرا، وغادر أيوب أمريكا مسافرا إلى بريطانيا في صحبة القس “توماس بلويت”. وفي طريقه إلى هناك، تعلم شيئا من اللغة الإنجليزية من “بلويت”، كي يتمكن برواية قصته لأولئك الذين يهتمون بها. وخلال فترة إقامته في لندن التي استمرت لعدة أشهر، استغل أيوب وقته لأشياء مفيدة.
بعد اكتساب أيوب القدرة لترجمة اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية، قام بمساعدة الطبيب البريطاني السير “هانز سلون”, مؤسس المتحف البريطاني, بتنظيم مجموعة من المخطوطات العربية في المتحف.
صورة لمصحف تنسب كتابته بخط يد أيوب بن سليمان بن جالو خلال وجوده في الرق
وبالإضافة إلى ذلك, قام بكتابة ثلاث نسخ كاملة من القرآن من ذاكرته، مما يشير إلى أنه حفظه في سن مبكر. وهكذا أصبح ضمن المشاهير في لندن، والذي أعطاه فرصة لقاء العائلة المالكة في بريطانيا، وإقامة علاقات الصداقة مع حضور التجمعات في صالونات حقبة التنوير.
العودة إلى إفريقيا
في عام 1734 عندما قرر في النهاية العودة إلى أفريقيا، كان معه رسالة من شركة رويال أفريقيا )RAC( التي تورطت قبل بضع السنوات في استعباد أيوب. وفي الرسالة, أمرت الشركة موظفيها في غامبيا بمعاملة “أيوب” بفائق الاحترام والتكريم, ووطئت قدماه أفريقيا في 8 أغسطس عام 1734 في “فورت جيمس” بغامبيا ، ومن هناك بدأت رحلته للعودة إلى مسقط رأسه في بوندو في السنغال, بمرافقة وكيل بريطاني “فرانسيس مور”.
لقد ذهب جلّ المحلّلين إلى أن أيوب من بين آلاف الأفارقة الذين كانوا عبيدا في العالم الجديد، لكن أيوب قد يكون هو الأول أو الثاني الذي تمكن من العودة إلى وطنه كرجل حر. فقد تلقى والد أيوب رسائله من بريطانيا يبلغه فيها بحريته واستعداده للعودة إلى الديار، غير أن الوالد لم يعش طويلا بما يكفي لرؤية ابنه مرة أخرى، حيث توفي قبل عودته. لكن أطفاله الأربعة بخير وسعداء لرؤيته أبيهم. كما أن إحدى زوجتيه تزوجت لأنه ليس هناك احتمال أنه سيعود في وقت قريب. وقد ساعده ثراء عائلة ليستقرّ مرة أخرى، حتى وإن كانت منطقته اجتاحتها موجة من القتال القبلي.
لم ينس أيوب أمر صديقه ومترجمه, فبدأ ببحث وسيلة لإطلاق “الأمين يواس” بعد حصوله هو على حريته. وجد القس “بلويت” “الأمين” واشتراه ليمنحه حريته بالمال الذي قدمته العائلة المالكة البريطانية. وأطلق سراح الأمين في عام 1737، فسافر من أمريكا إلى لندن ومنها إلى غامبيا، حيث وصل في فبراير عام 1738، ليصبح فقط ثالث المستعبدين المعروفين بعودتهم إلى وطنهم بأفريقيا.
عاش أيوب بن سليمان بن جالو حوالي 40 سنوات أخرى بعد عودته إلى أفريقيا، وتوفي في أرض أجداده في عام 1773 )في سن 72 عاما(.
وتجدر الإشارة, إلى أن صورة أيوب الوحيدة – والمرفقة مع هذه المقالة – كانت مرسومة من قبل “وليام هاو” في لندن. وكما هو واضح في الصورة، يرتدي أيوب زيّا أفرو – إسلاميا. وبالرغم من أنه ليس الملبس التي كان يرتديه في ذلك الوقت, إلا أنه – حسب الرواية – أصر على أن يكون هو في الصورة في ملبسه التقليدي الخاص إذا كانوا في الحقيقة يريدون الحفاظ عليها.