بقلم عثمان نواى
من شر البلية الذي لا يُضحك، أن الصادق المهدي في ظل أزمة السودان السياسية والاقتصادية الخانقة وقرب سقوط البلاد في هاوية سحيقة، أن الزعيم المنتظر لإنقاذ وهداية السودانين وجد وقتا ليكتب عن قضية ” الآنسة وئام شوقي”، ويا ليته ما كتب. ولكن يبدو أن الرجل مُصر تماما على أن لا يخلو الإعلام من اسمه في أي قضية لها صدى، فالرجل معروف بحب الكلام والظهور. وقد وثق البعض للصادق المهدي إبان فترة حكمه بين مايو 1986 ويونيو 1989 أكثر من 140 خطابا جمعت في أكثر من ألف صفحة.” معاوية يس، الحياة، 1995″ ويبدو أن إدمان الرجل للحديث والتعليق على الحوادث جره الي كتابة نقاط لا تسهم سوي في مزيد من كشفه عقلية الرجل المتعالية والاحادية الفكر ذات التوجه الديني المتحجر في مفاهيم قد تجاوزها الواقع. حيث أن الرجل يصر على اقتحام قضايا أجيال تبعد عنه ثلاثة أرباع القرن ولكنه لازال مصرا علي تنصيب نفسه إماما حتي علي من لايعرفونه ولا يعترفون له بسيادة ولا إمامة.
لقد كتب الصادق من منطلق لا يمكن تفسيره سوى في نطاق الدفاع عن معسكره الذي يصر على أن يطبع السودان كمجتمع ودولة بطابع ديني إسلامي احادي. حيث أن الرجل الذي حاول الهجوم على نظام الإخوان المسلمين الحاكم في المقال ، من الواضح أنه لا يزال غارقا كما يبدو في إمكانية أن يكون السودان دولة إسلامية. حيث أن هذا هو حلمه المشترك مع الترابي صهره ورفيق دربه وشريكه في صناعة كافة كوارث السودان. ورغم محالاوت المهدي الاستفادة من أخطاء الترابي وارتداء ثوب الاعتدال، لكن الرجل لازال متفقا مع فكر الأخوان المسلمين قلبا وقالبا. فهو لم ينكر علاقته الوطيدة بالحركة الإسلامية وتنظيم الإخوان المسلمين منذ دراسته القصيرة في جامعة الخرطوم في مطلع الخمسينات. حيث ذكر موقع الأمام حول سيرته الذاتية ونشاطه السياسي ان الصادق “بحكم التوجه الإسلامي قامت صداقات بينهم – وزملاء له-وبين بعض الطلبة الحركيين أمثال مدثر عبد الرحيم وحسن الترابي. وبينما كان في جامعة الخرطوم انشق من الإخوان المسلمين جماعة سميت الجماعة الإسلامية بقيادة بابكر كرار رحمه الله. وكان اتجاه هؤلاء قريبا جدا منهم لأنهم إسلاميون فكريا واستقلاليون سياسيا، ورغم التعاطف لم تقم بينهم علاقة تنظيمية بل قامت صداقة فكرية سياسية مع قادة التنظيم الجديد”. هذه الصداقة الفكرية السياسية لا يبدو أنها كانت قاصرة علي الأفكار بل هي كما شهدت أحداث التاريخ التالية كانت جزءا من مخطط مكتمل اجتهد فيه الصادق المهدي مع صديقه الترابي وصهره في صناعة دولة إسلامية في السودان مع من اتفقوا أو اختلفوا معهم من الإسلاميين . ذلك الحلم الذي ادي الي صناعة الحروب الأهلية المدمرة التي حصدت حياة الملايين ودمرت حلم صناعة الدولة الوطنية في السودان.
فمن المعروف أن تحالف الترابي أو جبهة الميثاق الإسلامي في ما بعد ثورة أكتوبر مع الصادق المهدي و المطالبات بالدستور الإسلامي، إنما كانت ذروة سنام التوجه المدمر للإسلام السياسي في السودان والذي دفع بشعوب السودان غير المسلمة وغير العربية الي اتخاذ جانب الدفاع عن النفس والشعور بالخطر وبالتالي أدي الي اشتعال حرب أهلية في الجنوب استمرت حتى الانفصال علي يد ربائب الترابي علي عثمان وغازى صلاح الدين عبر اتفاق نيفاشا الذي كان هو الحل الأمثل لتحقيق حلم الإسلاميين في صناعة الدولة الإسلامية في السودان بعد التخلص من كابوس اكثرية غير المسلمين . ودولة السودان الإسلامية في اذهان الترابي والمهدي يبدو أنها شبيهة كثيرا بدولة الملالي والأئمة في إيران. حيث لا حقوق لغير المسلمين وضغط وتركيز كبير على المرأة وحبسها في داخل ملائات وعباءات تكبل حريتها وحركتها.
حيث أن المهدي من خلال ما كتب عن قضية وئام لا يتسق ابدا مع بعض آرائه التي يدعي فيها التقدمية ومناصرة المرأة . بل إنه يعكس بشكل واضح حالة الرعب و الهوس التي هي مرض مزمن لدي كل الإسلاميين بولعهم وخوفهم من النساء ومن أجسادهن. حيث في الفيديو ادناه تحدث الصادق حول رعبه وصدمته من رؤية النساء علي شاطئ الإسكندرية وهن يرتدين المايو لأول مرة في حياته في اربعينات القرن الماضي . وعبر عن مدي صدمته بل وبرر التشدد الديني في عقله وفي مصر بشكل عام نسبه لرؤية نساء في رجاء البحر أو السباحة “المايو” أو يرقصن مع الرجال. هذا التفكير لا ينفصل ابدا عن عقلية الكيزان التي صنعت النظام العام الذي همه الأول هو حماية من أن يشعر ضعاف النفوس من الاسلاميين بهذه الصدمات النفسية وان لا يضطروا لمواجهة كبتهم وخوفهم من النساء واجسادهن. ويجب النظر بعمق لأزمة المرأة والجسد والجنس الآخر لدي الإسلاميين من منظور أعمق في جانبها السياسي في السودان. فإن جزء كبير جدا من رعب الإسلاميين من التنوع الثقافي والاثني في السودان ينبع من حقيقة أن الشعوب الأفريقية السودانية المسلمة والغير مسلمة تعيش حالة تصالح مع الذات في مسألة العلاقة بالجسد والنساء، ولا يعش الرجال من هذه المناطق حالة الكبت والرعب من الجنس الآخر التي يعيشها هؤلاء المشتغلين بخوفهم المرتبط أيضا بولعهم المرضي بالجنس الآخر والجنس عموما حتي انهم لا يرون في النساء سوى أدوات للمتعة، حتي أصبح السودان في عهد الإسلاميين على رأس قوائم الدول الأكثر إساءة للنساء ابتداءا من الاغتصاب الجماعي في دارفور الذي يستخدم كسلاح حرب، مرورا بالتحرش الجنسي في الشوارع وأماكن العمل وانتهاءا بالكارثة الافظع وهي اغتصاب الطفلات الي درجة الموت في إعمار لا يمكن أن يتخيل انسان عاقل أن هناك شهوة تتحرك ضد طفلة عمرها عامين أو ثلاثة .
ان ارتباط الترابي والمهدي الوثيق وصناعة كارثة الإسلاميين وحلم الدولة الإسلامية في السودان هو ربما المرض السرطاني الأكثر فتكا الذي يواجهه السودان دولة وشعبا. فالرجلان تربطهما علاقة ترابط وثيق تبدو للوهلة الأولى معقدة لكنها في الحقيقة علاقة بسيطة جدا هي علاقة الحلم والهدف المشترك. وهو صناعة دولة إسلامية في السودان. وكلا الرجلين أحفاد رجال ادعوا المهدوية فالترابي أيضا هو حفيد الشيخ حمد النحلان ود الترابي المتوفي عام 1705 والذي ادعي المهدوية أيضا. أما المهدي فهو يعتقد أنه مخلّص الأمة حيث انه ولد في تاريخ ميلاد السيد المسيح في 25 ديسمبر إضافة ابي انه حفيد المهدي طبعا . لذلك فإن جينات الوهم المتوارثة لدى الرجلين صنعت كل كوارث السودان في العصر الحديث. فكما ذكرنا سابقا كان مشروع الدستور الإسلامي هو السبب في فشل الديمقراطية بعد ثورة أكتوبر وسبب إشتعال حرب الجنوب الأولى، وكان هذا مشروع مشترك للرجلين، ثم كانت قوانين سبتمبر سببا في اشتعال حرب الجنوب الثانية، ثم سلح المهدي المراحيل بشعارات عربية قومية ودينية ضد الجنوبيين وجبال النوبة فاستمرت الحرب في زمن الديمقراطية الثالثة . ثم جاءت الانقاذ وبدأ الترابي حروب جديدة في دارفور وعلى يد نظامه تم فصل الجنوب. كل هذه المخططات لحرق الهامش الغير عربي وغير مسلم أو الذي لا ينتمي لهذه الثقافة الإسلامية التي يتبناها الإسلاميين والإخوان المسلمين كانت من تحت رأس هذين الرجلين. حيث استمرت محرقة السودان الي اليوم. والسبب أوهام الرجلين في السلطة وقيام الإمامة والخلافة.
وهاهو الصادق المهدي وبكل جرأة يسخر في أول نقطة له في مقاله الذي يفترض أنه حول الآنسة وئام، يسخر من معاناة اهل دارفور والهامش والنازحين، ويتهم تلك المناطق بوجود ما سماه “حركة تنصير وردة عن العقيدة”. وماذا يفرق مثل هذا الاتهام عن ما كان الترابي يكيله للمجاهدين من أجل تعبئتهم لحرب أهل الهامش في الجنوب وجبال النوبة في التسعينات ويصف أهل تلك المناطق بالنصارى والكفار . إنها ذات العقلية. فالرجل حتي لم يجد متسعا في صدره لايراد العذر لأهل هذه المناطق الذين، كما ذكر هو نفسه يقتلون ويقصفون من قبل الإسلاميين. و ان كان الذين يأمرون وينفذون القتل من الإسلاميين أو الإخوان أو الكيزان، فإن للأسف أن الصادق وان حاول أن يبرئ نفسه لكنه لا يزال من زمرة الصامتين على الظلم والقتل. فأي مجهود قام به سوى الكلام والبيانات لوقف الحرب في دارفور التي الأنصار فيها كان لهم شان تاريخي وكان يمكن ان يكون هناك حلول شعبية تقلل من وطأة الإبادة والعنف وتوقف تهتك النسيج الاجتماعي الذي جرى هناك. لكن الأمام غارق في أحلامه انه المهدي المنتظر متشدقا بأنه حكيم السودان كما يغذيه المتوهمين من المطبلاتية الذين هم بقيه البلاء الذي يحرق السودان. هؤلاء الرجال صغار النفوس من ماسحي الأحذية أصحاب المصالح الذاتية الضيقة حملة حقائب الأئمة والشيوخ المتمسحين في جلابيبهم طلبا للبركات. تلك البركات التي لا تأتي في شكل دعاء ولا تضرع لله، بل بركات متاع الدنيا من المناصب والمال والسفريات والنثريات وبعض الألقاب التي لا تفيد سوى أوهام أصحابها وحلمهم الشخصي.
للاسف ان الامر الوحيد الذي صدق فيه الصادق المهدي في مقاله عن وئام هو أن القضية هي أكبر من مجرد الجدل الذي يدور . وكِبَر القضية لا ينبع مما قالته وئام فهو مجرد تعبير شابة عن رأيها في حدود رغبتها وحريتها واحلامها للمستقبل لها ولبنات جيلها، وهم الوحيدين اي هذا الجيل الذين لهم الحق في الحكم عليها كشركاء مستقبل لن يكون الصادق مهما امتد عمره جزء منه. ان قضية الآنسة وئام وكتابة الصادق عنها ليست سوي تجلي ذو بعد لامس قطاعات واسعة لأنه أيضا لمس نقطة حساسية عالية ونقطة رعب وخوف وضعف الإسلاميين وهي المرأة والجنس. وبالتالي لم يستطيع المهدي كأسلامي وصاحب حلم دولة إسلامية في السودان من الصمت في الدفاع عن حلمه ومعسكره والتعبير عن خوفه من أن حلمه هذا لن يكون له مكان في سودان المستقبل. والرسالة التي كان يحملها حديث وئام شوقي وكذلك تمرد الشباب الذي تحدث عنه الصادق المهدي هو الحكم بالإعدام على حلم المهدي ورفيق عمره الترابي في قيام دولة إسلامية في السودان، وهذا التدمير لن يكون على يد الكفار ولا النصارى بل علي يدا أبناء المسلمين بل وعلى يد أبناء بعض الإسلاميين أنفسهم .
والرعب الذي أصاب الإسلاميين إنما هو ناتج فقط عن احساسهم الامني ألعالي الذي مكنهم من السيطرة على الحكم لن أقول منذ الإنقاذ ولكن منذ إقامة قوانين سبتمبر التي لم يتشجع المهدي إبان حكمه على إلغائها رغم أنها كانت مطلب اساسي لثورة أبريل وتذرع بأنه يريد صناعة البديل لها اولا قبل إلغائها، ويبدو أنه كان يعلم جيدا أن صديقه سوف يصنع البديل عبر انقلاب الإنقاذ ليس فقط لقوانين سبتمبر لكن لإقامة دولة إسلامية أحادية عنصرية طاردة وقمعية هي التي نعيشها الان. ولكن الأهم هو أن الصادق المهدي ظل يكشف مؤخرا أقنعته ويفضح مواقفه الحقيقية. بدءا من موقفه من الجنائية وحتي حديثه عن إنكار لجرائم الحرب أثناء فترة حكمه، وحتي ردته في مقاله الأخير الي معسكر التشدد الاسلامي. الرجل يبدو أنه قد تعب وارهق من لبس الأقنعة ويجب الان ان يتم نبش دقيق لتاريخه حتي لا يتمكن من ارتداء اي قناع جديد يخفي خلفه وجهه الإخواني الذي لا يحلم للسودان بخير بل فقط يحلم لنفسه بالامامة على دولة إسلامية ولو علي جماجم السودانيين. ويجب أن يكشف وجه هذا الرجل الذي لم يكن ابدا أقل كارثية على السودان من صديقه الهالك الترابي. حيث أن حلم دولتهما الإسلامية على الجماجم والجثث سوف يتحول إلى أسوأ كوابيسهم. وإذا عاش المهدي فإنه سيرى الكابوس وحيدا دون رفيق دربه .
وما وئام وغيرها من أصوات شابة، سوي لمحات مما هو قادم من رفض كامل لأي مشروع لدولة إسلامية أو شعارات اسلام سياسي تحكم السودان مرة أخرى باسم القداسة والدين. فلقد اكتفي السودانيين من هذه الاوهام والأحلام منذ المهدية. وحان الوقت للعودة للواقع والمصالحة مع العصر ومع تنوع السودان الثقافي والإثني الذي لن يكون ممكنا ابدا في ظل استمرار احلام الدولة الإسلامية في السودان. فالصادق يعلم أنه برحيله والتحاقه برفيقه الترابي، لن تكون هناك قائمة لحلمه في الدولة الإسلامية وان بيوتات القداسة والوهم هذه لن يرثها أبناءه وبناته، لأنها ستدفن معه.
. ولذلك فإن أصوات الحيرة والحسرة والكشف عن الأقنعة هي آخر أسلحة اليأس والبؤس من فشل مشروعه ومشروع صديقه الهالك. والدرس الذي يعلمه المهدي والكيزان أيضا والعنف الذي قابلوا به حلقة شباب توك إنما هي تعبير عن الرعب من الرفض الذي سيعصف بهم وبمشارعيهم واوهامهم التي لن يكون لها أي مكان في سودان المستقل ولن تقبل بها ابدا الاجيال الجديدة فسودان العمائم والعباءات والأئمة والشيوخ والمهدويين والمتوهمين وتجار الدين في طريقه إلى الزوال قريبا وإلى الأبد .
Email :[email protected]