• محمد أبكر موسى
• عتبة أولى:
رغم أن العالم متمّرحل، بدلائل مُشاهدة، ومؤشرات ملموسة، يوماً بعد آخر، نحو تحقيق أبعد مما يُعرف بمجتمع المعرفة، ومجتمع ما بعد الحضارة، وعالم ما بعد الايديولوجيا، وعالم ما بعد الإنترنت 3.0، بل وعالم ما بعد الإنسان ذاته. أي أن الإنسان ذاهب نحو تمكين قوة الشرط العقلانيّ، والمنطقيّ والعلميّ في كافة تفاصيل عالمه؛ متجاوزاً سرديات السلوك البدائيّ، والتفكير التقليديّ تدريجياً حتى لحظة الانعتلاق منهما بصورة نهائية؛ أي بشكل كبير، وموضوعيّ، ذات لحظة. وهذا التجاوز يُعد تطوراً ايجابياً عظيم في سيرورته اللانهائيّة في صراعاته، وجوانب صيروراته مع الطبيعة، والظروف، والهو، وقوى الميتافيزيقيا نحو تحقيق عالم وحياة أكثر عقلانيّة، وأكثر منطقيّة، واكثر قيميّة، وأكثر رفاهيّة، له على الدوام، وعلى ذائقة علاقاته ذات الاتصال والتفاهم والتكامل في الاجتماع، الثقافة، السياسة، الاقتصاد، الدِّين، والفكر.
إلا أنه، وفي الوقت نفسه، نلاحظ بالتتبع الدقيق واليوميّ، ثمة زيادة مطردة في عالم الإنتاج الحربيّ لآليات العنف، وأدوات هتك الأرواح، وانتهاك الحقوق بالقوة القاهرة غير القانونيّة، على العالم بأسره. بل إن تجارة السلاح وملحقاته، أصبحت واحدة من ثالوث الاقتصاد الأسود المهدد للسلام، والأمن، والأمان، والتنمية في الكون بكليته، بعد أن ظهرت بوادر حروب في الفضاء للسيطرة على موارد كواكب أخرى، فضلاً عن محاولة فرض هيمنة ما على فضاءات كوكب الأرض، من قِبل قوى الطغيان العالميّ؛ قوى شمال الكوكب بالتحديد.
وهكذا يبدو الأمر، كأننا أمام صراع حقيقيّ، فعليّ واضح، وجدليّة آخرى تتمحور حول ما/من/كيف يتم معالجة وحل قضايا الإنسان وتفاعلاته المختلفة، في الراهن المعاصر، والمستقبل؛ هل بواسطة العنف وأدواته، أم بمعدلات نمو وازدهار اقتصاد المعلومة؟، هل عبر سوق القهر والاستبداد والاستعباد أم بأسواق البيانات، وجودة المعرفة، ونوعيّة الأفكار، ومدى فعاليتها.
والسودان؛ كدولة، ومجتمعات، وبلد يحتضن هويات متمايزة، وذوات فرديّة أولاً، لا ينفصل من هذه الوضعيّة العالميّة. بل هذا السودان، هو جزء من العالم، وهذا الأخير جزء منه جملةً وتفصيلا، إن من بعيد أو قريب، عن وقائع ملموسة، أو حتى بالمجاز. وبالتالي فإن أي ما يحدث في العالم يؤثر ويتأثر بها البلاد، سطحياً أو عميقاً، كلياً أو بشكل محدود، حالياً أو بعد حين. لذا، ولكي يحدث ما هو أكثر منطقيّة في طبيعة العلاقات، ويُرى لخصيصة التوازن واقع ومشاهد حقيقيّة ماديّة للجميع، لابد إذن من حياكة حساسيّة رفيعة الفعاليّة، وعالية الاتصال، حيال هذه “العالميّة” في الفكر والفعل والعلاقة؛ حساسيّة محليّة مواكبة ومتصلة بكل ما يحدث في العالم.
وهذا السودان ما بعد استقلاله منذ أكثر من ستة عقود، عانى كثيراً ومايزال، من صراع وجدّل أصبح واضحاً للجميع. صراعٌ كم أدخله في متاهات معقدة، وظروف لا يُحسد عليها، وأوضاع سيئة جداً. إنّه جدليّة الشرط العسكريّ وسرديّة السياسيّ حول السُلطة والحُكم، وفرص الهيمنة، وممارسة النفوذ على الكل. صراعٌ جدّليٌ سياقيّ علائقيّ ذو دوائر غير تقليديّة، ومسارات متناقضة، وتعقيدات تصادميّة، ومستويات متصلة مترابطة فيما بينها، أقل وصف يمكن نعته بها؛ أنها “وضعيّة إشكاليّة” بين عنف العسكريّ وخطابيّة السياسيّ بامتياز. إشكاليّة تعانيّ من مستويين من الصراع والجدل؛ ذاتيّ داخليّ عميق، وآخر موضوعيّ خارجي سطحي. بيد أن لكل مستوى تدرجات من الجدل والصراع، تأخذ شكل السلب والايجاب، التجلي والغموض، التكامل والالغاء، التعزيز والنفي.
في السطور التاليّة، نحاول، في مقاربة استقرائيّة، فلسفيّة، مفاهيميّة على الاقل، وعن استفهامات؛ ماذا ولماذا، وكيف، حياكة مناقشة لجدّليّة الشرط العسكريّ وسرديّة السياسيّ المدنيّ، وصراعهما حول شرعيّة من/ما، وأحقيّته، وامتيازه، وضرورته، واستحقاقه، ومشروعيّته في الاستعلاء على السلطة، والحُكم بالبلاد. ونسعى من خلال ذلك إلى محاولة استجلاء وتوضيح كيفيّة فك الاشتباك هذا، بعد فهم أبعاد هذه الإشكاليّة وتعقيداتها، استناداً على مؤشرات نظريتهما، وسلوكهما تجاه الآخر، وفي السياق، وتجربتهما في الفعل وطريقة التفكير، والممارسة في البلاد، منذ سودان ما بعد الاستقلال.
• رباط الإشكاليّة والاشتباك:
تبدو علاقة “المؤسسة العسكريّة” وقوى السياسيّة حيال جدليّة السلطة والنفوذ والهيمنة على مستوى عمومية الشؤون، علاقةً “إشكاليةً معقدة” ذات بنيّة داخليّة وخارجيّة متكاملة (فهي ظاهرة شبيهة بكل الظواهر في حقول الاجتماعية والإنسانيات). علاقة تبدو، كأنها تدور داخل “نظام” ليس بسيطاً، ودون التعقيد النهائي الذي يستحيل تفكيكه، أو إعادة إنتاجه. علاقة أبسط تجسيد لها، أنها تتجلى كهيكليّة جهاز الحاسوب: مدخلات، عمليات تتم، فمخرجات أو نتائج.
أعنى، أنها أكثر من مجرد علاقة اعتباطيّة، هكذا تحدث دون أن يكون لها قصديّة مسبقة، وفهم متعمد، وقراءات معلومة، ووعيّ ناظم. فهي إشكالية لأن كلاهما كطرفين يرتهن مدى وحاجة أي منهما في دائرة السلطة، والوجود في الفضاء العموميّ بحضور الآخر بمستويات متدرجة من عمليات اتصال وانقطاع، حوار وحرب، وتفاهات أيضاً.
فإذا كان انخراط المؤسسة العسكريّة وتوّرطها في دهاليز السياسة، مسألةً مرفوضةً، ومشكلةً يجب حلها، وأمراً يجب النظر فيه بجديّة، وحزم، ومسؤولية صارمة، وفي عجالة، ولكن بتريث وحكمة ودبلوماسيّة أيضاً، فإن سرديّة الفعل السياسيّ المدنيّ في السودان كذلك مسألةً تحتاج إلى مراجعة جادة حاسمة، ونقد مسؤول رزين، ومقاربات جديدة بآفاق وقراءات مبدعة عقلانيّة رصينة.
وفي تقديرنا، إن النظريّة والممارسة في حقل السياسيّة في البلاد، قد أصبحت إشكاليّة في حدّ ذاتها، دعك من علاقتها بالشرط العسكريّ أو أي سياقات وحقول وسرديات أخرى. بل تُعد تجربة ذات مآخذ معيبة، وملاحظات خجولة. والأكثر خطورةً، قد تبدو أن استمراريتها بهذه الشاكلة، مهددٌ وخطرٌ محدّق لفرصة وإمكانيّة تطبيق نظريّة؛ السياسة؛ فن بناء الدول والمجتمعات في السودان كدولة، ومجتمعات، وأفراد، وسياق تاريخيّ.
فكل الدلائل تؤكد أن الأخيرة في أمسّ الحاجة، وبالضرورة، إلى معالجة ناجحة فارقة، وعلاج مسؤول قويّ، ينشلانها من وهدة التخبط، والتيه، والمغالطات، وخلط التناقضات، ويأخذانها من مهد الصبيانية، وعدم تمييز الأمور بحزم، وموضوعيّة، ومهنيّة، ويرفعانها من وحل نظريّة التسويات المجانيّة، ونظريّة “الانتهازية” الفجة، والحرث في بوار الظروف، وهلكتها. تحتاج لمعالجة وعلاج يصحح لها معتقداتها الوهمية، وتقديراتها بشأن الاعتماد على فكرة أخرى متناقضة أو على الأقل غير متسقة معها حُكماً واعتبارا: الظاهرة العسكريّة.
والانقلابات العسكريّة؛ باتت، لكثرة تكرارها في كل الحقب، والحكومات وفترات الانتقال، لازمة زمانيّة، ومتلازمة سياسيّة فجة، لكل صفحات التاريخ السياسيّ للبلاد، ومنذ أكثر من ستة عقود عجاف. فحصيلة حدوث الانقلابات العسكريّة والاضطرابات السياسيّة ذات الطابع الجدليّ، والمنافسة غير النزيهة، والصراع(بالمعنى السلبيّ) غير المنطقيّ، بل غير المعقول والضروريّ حتى، بين قوى السياسة والأيديولوجيات يسارية كانت أم يمينية أو غيرهما، تزيد عن أكثر من عدديّة عقدين من الزمان. أي أكثر من عشرين حالة انقلاب عسكريّ، أو اضطراب سياسيّ لوّثت كل صفحات سودان ما بعد الاستقلال. وآخرها انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021، وما أعقبه من أكثر من حالة عمليّة سياسية سعت وما تزال، لاستجلاء وضعيّة الانتقال المتعثرة حتى هذه اللحظة، نحو بناء سودان حُر ديمقراطيّ ينعم بمواطنَة راشدة، وعدالة راسخة، وسلام عادل، شامل، ومستدام.
إن حضور الشرط العسكريّ في دائرة صناعة القرار السياسيّ العموميّ، بات حضوراً غير مرغوب فيه في العصر الحالي، والحقب الأخيرة، أكثر مما سبق، ولو ثمة دلائلٌ تشير إلى العكس. حضوراً مشؤوماً، وغير ذو مقبوليّة لدى مكونات المجتمع المدني بالمعنى الجرامشي. انما يراه الأخير، حضوراً بدون دعوة، وغير ذا جدوى، بل حشريّة مجانيّة فيما لا يعنيها، وتوّرط فيما لا ينبغي الانغماس فيه. أنه باختصار بالنسبة للمواطن الحديث، حضوراً يستفز سرديّة العقلانيّة، ونظريات المابعديّة، والمواطنيّة الجديدة، ونظريّة مجتمع المعرفة بشكل أوضح، بل مهددٌ لفرص نمو اقتصاد المعرفة، واخضرار مستقبله.
وبالتالي، الصراخ الأساسيّ لا ينبغي أن ينصب في لعن، وشتم جانب واحد فقط، لطالما أصبح الأمر إشكاليّاً. فلابد أن يأخذ الجانب الآخر نصيبه من العويل، والصياح في وجهه أيضاً. لأن الأمر لا ينتهي فقط في محاولة خلق صدّ وتوقيف وشلّ وتجريم محاولات تقويض “الشرعيّة الدستوريّة” بالعنف العسكريّ فحسب، إنما النداء والمناقشة الأساسية يجب أن تتمحوّر أيضاً حول كيفية تأسيس وضعيات ومقاربات لا تدعم مجرد التفكير حتى في محاولة عمل أي تقويض لإرادة المواطنين في اختيار نُوابهم، وانتقاء حُكامهم، وتحديد قاداتهم بوعي وحريّة ونزاهة، لبناء دولتهم، وتنمية مجتمعاتهم، وتطوير أنفسهم بالطبع.
لأن الأمر، في تقديريّ، ليس مجرد سعيّ حثيث للشرط العسكريّ للاستعلاء على السلطة سواء كانت شرعيّة أو غير شرعيّة وانتهت الحكايّة وحسب، هناك أيضاً عنفٌ ايديولوجيّ يغتصب صوت الشعوب. وهو عنفٌ الأكثر خطورةً، والأشد نكايةً، والأسوأ فعلاً وسلوكا على وجوديّة صوت الجماهير، وإرادة المواطنين، وحضورية شرطهم السياسيّ في إطار ما يُعرف بالدولة. فالانقلابيون ليسوا بالضرورة أن يكونوا عسكريون فقط، هناك مدنيون انقلابيون أيضاً. بل الملاحظ أن الانقلاب مفردة وصفة وممارسة تتميز بها الفئة الأخيرة أكثر من الأولى. ففي الغالب ينتظر الانقلابيّ العسكريّ الضوء الأخضر لتنفيذ جريمته النكراء، من غمضة عين الانقلابي السياسي المدنيّ. وهنا الطامة الكبرى.
• صفحات صادمة في التاريخ:
في التاريخ السياسيّ الحديث، وحين نراجع سرديات الانقلابات العسكريّة، والاضطرابات السياسيّة في البلاد، والتي ما تزال آثارها باقية، وتتناسل أزماتٍ ومشكلات وظروف قاهرة، حتى اليوم، لتحالف عقليّة السياسيّ المدنيّ مع عنف الشرط العسكريّ، كم تأخذنا الصدمة كثيراً، عندما نقرأ أن أكثر ما مهّد الظروف، ورتّب الأوضاع لتكون مواتية لحياكة تجربتيّ الاستعمار الأولى والثانيّة “الأجنبيتان” في البلاد، كان “الشرط السياسيّ، والمدنيّ، والأهليّ الداخليّ” بامتياز، ودون منازعة جدليّة ساذجة.
بل نُصاب بالذهول أكثر، حالما نكتشف عميقاً أن هناك فعلاً من (بنيّ جلدتنا، أقوامنا، دماءنا) من قام بتقديم الدعوة، وعجّل بالنداء، وتضرع توّسلاً لهذا المستعمر أو ذاك، للدخول والمجيء لاغتصاب سيادة البلاد، وقمع واستعباد مجتمعاتها، ونهب وسرقة مواردها، ومحاولة طمث هوياتها؛ إذ قهر الإنسان السودانيّ (بوصفه كيان، وصفة، وهُوية، وجنسيّة)، دون أي كرامة أو ضمير. كانوا فقط خرساء(بالمعنى السلبيّ الموضوعيّ للكلمة) خبث صراعاتهم حول السلطة، وتكتيكات الهيمنة، ونزعة الحصول على الامتياز التاريخي، والنفوذ في نفوس الجميع، ولو بالعنف والإكراه. وذاك هو ما حدث بالفعل مع الأسف.
وهناك الكثير المثير من الكتابات التاريخيّة التي تؤكد، أنهما قامتا، تجربتيّ الاستعمار، بفعل “دعوة ونداء” كاملان التخطيط، والتصميم، والتسليم، وإظهار تمام الدعم والولاء. وهنا، وفي هذا السياق، وفي هذه السرديّة، تذهب كل الاتهامات إلى حزبيّ الامة، والاتحادي الأصل، وطائفيتهما؛ الأنصار، والختمية. أنهما سبب معظم بلاوي، وإشكالات، وتعقيدات، وأزمات البلاد التي لا تزال تعاني منها، بل ما تزال تتكاثر في تواتر صادم جيلاً عن جيل، حقبة عن أخرى.
• ممارسات وعقليّة أهليّة معطوبة:
على مستوى الممارسة المحليّة، ثمة مثالٌ حيّ الآن نلاحظه بوضوح الشمس، السعيّ واللهث اللامحدود “للإدارات الاهليّة” على طول وعرض البلاد، للالتفاف ومنح الولاء لقائد قوات الدعم السريع، حميدتي للمضيّ في خطوات مشروعه السلطويّ الحالم به، بعد أن شعرت بأن رياح حراك ديسمبر ستطيح بحضورهم السلطويّ السابق في سُلم السلطة، ويفقدهم مكانتهم، ونفوذهم، وكل بقية امتيازاتهم التي توارثوها جيلاً عن جيل، نظاماً عن آخر، حكومةً وراء أخرى، وضعيّة عقب ثانية.
فتقدميّة وفكريّة حراك ديسمبر كمشروع تغيير جذريّ حقيقيّ شامل ومستدام، والروح الديمقراطيّة النسبيّة للعمليات السياسيّة التي ما تزال تجري لتأسيس وضعيّة سياسية جديدة، سيذهبان بها، أي الادارة الأهلية، إلى سلة التغيير، وسيرميانها في مزبلة التاريخ؛ حيث قافية الزوال، وصفحة النسيان. وهذا الأول، أي حميدتيّ، وجد في غليلتهم تجاه الحراك ضالته الحاسمة، بل وجد فيهم، وفي عدواتهم ومعارضتهم للحراك، لقمةً سهلة، ومرنة، وقابلة للتشكيل كيفما أتفق، وبالتالي قام بسحبها نحو أمانيه السلطويّة الذي ينشد ويحلم، كما تفصح كل تحركاته المقلقة، وسكناته المريبة عن ذلك.
وجود الإدارة الأهليّة؛ لهو لشرطٌ أهليّ تقليديّ أصبح يتمتع، مع سيرورة الزمن، بقوة الحضور والترجيح، ولو إكراهاً، والاعتماد عليه، والسعي لإرضائه أولاً، وبيع زمته في اتمام أي عمل أو حركة أو خطة نحو الوصول إلى السلطة بالتزكية كانت أم بمسرحيّة انتخابات مزيفة، أو بالسطو عليها بالقوة غير القانونيّة، وعنف السلاح، وعنف الأيديولوجيا غير ذا مقبوليّة، واعتراف.
ومن نافلة القول، أن غالبيّة، إن لم يكن كلهم، من استولى على كرسي الحُكم في البلاد، على مر التاريخ السياسيّ الحديث، فعل ذلك باستغلال واستخدم وجهاء وشيوخ وزعماء القبائل سواء بالطاعة والولاء أو بالتهديد والوعيد. أنهم، أي رؤوس الإدارة الأهليّة، مجرد أبواقاً تصدع لمن تغلق لها أفواهها بالمال والوعد بهامش سلطة، وصلاحيات إداريّة وهمية زائلة. إنها وضعيّة الإدارة الأهليّة، وجدليّة حضورها من عدمها في دوائر السلطة والسياسيّة في البلاد.
وتتجلى هشاشة، وليونة، وبوقيّة بل وخطورة هذا الشرط الأهليّ التقليديّ أكثر فأكثر، عندما نلاحظ ونتأمل أنه كم يُستخدم، في غير الوصول أو الاستلاء على السلطة، كذلك في ضرب بعضهم البعض، وبالتالي ضرب جماعات اثنية أو سياسية بأخرى، مجموعات ثقافيّة بسواها، بل ضرب مجتمعات بغيرها؛ في صراعات وانتهاكات التطهير والاقصاء والتهميش والابادات الجماعيّة. وكم تُستغل في خلق الحروب، وتأجيج النزاعات، وكذلك في إخماد نيرانها. وبالتالي يتضح كم أنه شرطٌ خطير، وسلاحاً فتّاكاً ومسالماً في ذات الوقت، وسيفاً ذو حدّين، يمكن استخدامه في السلم، كما في الحرب. أنهم كم رضعوا من ثدي الدولة، وبالتالي فإن الفطام عنها يعتبر موقف فناء وموت لا أكثر ولا أقل.
أنهم، أي زعماء الإدارات الأهلية، يتمتعون بقابليّة التفاوض وبيع ولاءهم لأيّ كان في مقابل المحافظة على مكانتهم، وضمان وجودهم في دائرة السلطة، وحفظ ماء وجههم في وجه تقلبات الحكومات. يسعون دوماً الحفاظ على امتيازاتهم أو استعادتها إن فقدت أو ذاهبة نحو الفقدان، وإن يتحالفوا مع الشيطان إن استدعى الأمر. وأنه في الغالب، وفق زخر التاريخ بحضورهم، تأتي أفعالهم ضد صوت الشعب، ضد رغبات أهاليهم، وضد احتياجات قواعدهم البسطاء، وأقوامهم الأشقياء، وأهلهم الفقراء المساكين، ومجتمعاتهم الفقيرة المهمشة والمظلومة.
ويبدون، كما يؤكد لنا صفحات الحقب، لا يهمهم شيء سوى المحافظة على أنهم في دوائر المال والانتهازية السالبة، والمكانة والوجاهة، والتبجيل. وأوضح نموذج على ذلك، مسرحية اعتصام القصر(اعتصام الموز كما يُعرف وسط الشرط العموميّ) لقوى الثورة المضادة، أو بالأحرى لقوى الحُكم الانقلابيّ العسكريّ المشؤوم.
إن الانقلاب العسكريّ؛ وممارسة تكررت في التاريخ السياسي في سودان ما بعد الاستقلال، فأصبحت تبدو “سلوكاً وتصرفاً طبيعياً” لدى المؤسسة العسكريّة في البلاد، لدرجة أن أمست الأخيرة ترى أن وجودها في موضع السلطة وصناعة القرار السياسيّ العموميّ بالدولة، وسعيها الدؤوب لتأكيد وتحقيق ذلك، أصبح من مسلمات وجودها الطبيعيّ كمؤسسة لها سياديتها الخاصة بالبلاد، بل تراه “امتيازاً تاريخيّاً” كم يحق لها أن تحظى به، وتحافظ عليه، وتفعل كل شيء في سبيل الاستماع به. سلوك أقل ما فعله بالبلاد كدولة ومجتمعات وأفراد، أنه أدخلها في متاهة دائريّة سلوكيّة كم يُصعب الخروج منها عاجلاً على الأقل.
أنه سلوك خالط امتزج بسلوكيات وممارسات أخرى “فاسدة”، فالنتيجة ولادة “سلوكاً إشكالياً”، وعقليّة معقدة ذات تبعات ونتائج سالبة فاسدة على المستوى الفرديّ، والمؤسسيّ، والثقافيّ. انها إشكاليّة حشريّة الشرط العسكريّ في دائرة السلطة بدعوة مدنيّة، والعكس، وإشكاليّة استغلال شرط أهليّ كسلوك “طبيعي” للوصول إلى السُلطة أيضاً وغالباً بطرائق وممارسات “فاسدة” وأعمال “قذرة” وآليات عنف “مكرهة”. إنها وضعيّة “إشكال وجدّل مؤسسيّ” ايديولوجيّ مركّب ومعقد وفاسد.
انها وضعيّة فساد التقديرات الأيديولوجية، وسوء اتخاذ قرارات مؤسسيّة ذات “مصالح عموميّة جماهيريّة معبرة، وذات مسؤولية. وهنا يمكن القول أن الخطورة في هذه الإشكالية أكثر حضوراً، وأشد سوءاً عندما نستنتج ونكتشف، أن الطرف الانقلابي السياسيّ المدنيّ أشد خطورة من الطرف الانقلابي العسكريّ أو الأهليّ؛ وهذه الخطورة تتجلى في جانبين: أحدهما أنه يتحالف مع عدوه الأيديولوجيّ حول السُلطة وجدليّة الدولة والمجتمع. ثانياً، وفوق أنه يزين النظام الانقلابيّ العسكريّ بصفة “المدنيّة” الزائفة، قد يقوم باغتيال شرعيّة إرادة الشعب حيال اختياراته في كيف ومن ينوب عنه في إدارة البلاد، عندما يقوم بمشاركة العسكريّ في انقلابه، سواء قبله أو أثناءه أو بعد استلام كرسي الحُكم، أي مشاركته في تقاسم كعكة السلطة، والثروة، والنفوذ الأيديولوجيّ.
• تساؤلات حارقة، وأسئلة محرجة:
اذا كان العسكريّ يقوم بعمل انقلاب على سلطة ما(حكومة، أو نظام حاكم)، وبالخصوص، إن كانت “ديمقراطية”، ولو إجرائياً، ركضاً وراء تحقيق أحلام سلطويّة، ومصالح واحتياجات ذاتيّة ضيقة(منبوذة اجتماعياً واخلاقياً) أو تحالفيّة لأطراف واضحة أو مخفيّة، وهو يدرك تماماً أنه اذا فشل وقُبض عليه، فمصيره الإعدام القاتل، فوق معرفته أن ما يقوم به مرفوض قانونياً وعُرفياً وشعبياً، كل ذلك، منطقيّ نوعاً ما، او ذات مبررات مدركة، ولكن الواقعة الغير معقولة، والغير منطقيّة، ولا فيها حكمة، ولا مسؤولية، هو كل إجابات ومبررات تساؤلات، وأسئلة على صورة:
ماذا الذي يجبر السياسيّ المدنيّ(البداية كانت مع السياسي المدني، ورئيس الوزراء دهرئذ، عبدالله خليل، الذي سلّم السلطة بكل برود وسذاجة وبساطة، لقائد الجيش انذاك، الفريق ابراهيم عبود الذي بدأ به “سلوك وعقليّة” اغتصاب إرادة الشعب، والاستلاء على سلطته في التشكيل والاختمار)، الذي يخطب في الجميع بالديمقراطيّة وينادي بضروريتها، ويطالب الجماهير بالسعي نحو بناء الدولة المدنيّة، ودولة المواطنة الراشدة، ودولة القانون والمؤسسات، أن يتحالف مع عدو أو خصم أو متحفظ على أقل تقدير(عسكرياً كان في حالة التحالف مع العسكريين، أو أهلياً في حالة التحالف والاعتماد على الإدارات الأهليّة) على المحاور الأخيرة، ويعتمد عليه للوصول إلى السُلطة، بل ويتكرر الواقعة كثير المرات لدرجة أن تصبح “سلوكاً طبيعيّاً” أو “عقليّة فاسدة” ترسخت، أو ذاهبة نحو الرسوخ لخلق حضور أيديولوجيّ ما؟.
بل يبدو أننا اذا اردنا الغوص عميقاً لتحديد الأمور، والتفاصيل بدقة أكثر، وأكثر وضوحاً من منطق التفكير الاستراتيجيّ، فحتماً نكون أمام أسئلة أكثر بدائيةً، وأكثر تقليديّة عاديّة، وأكثر أوليّة وبديهيّة، من قبيل: ما الدولة؟، وماذا نعني بالمجتمع تحديداً، وهل نحن في السودان، من حيث الهوية الاجتماعيّة، مجتمعات متمايزة الهويات مختلفة، أم مجتمعاً سودانياً واحداً؟، كيف نقرأ تاريخ البلاد قديماً وحديثا؟.
وأكثر من ذلك: ما هي الأساطير الأوليّة، والمتفق عليها على أنها ما شكّلت تاريخنا الحاضر، وما خلقت لحظتنا المعاصرة، وطريقة تفكيرنا في الراهنيّة، تجاه العمل الذاتيّ والمؤسسيّ، وإدارة الشؤون العموميّة؟، على أية طريقة متفق عليها نقرأ المهديّة وما التي يمكن اختلافنا حولها، وكذا نقرأ الاستعمار التركي المصريّ، وبعده الاستعمار الانجليزي المصري ونحلله، ونستقي منهما لحظاتنا، وفكرنا، وطرائق تفكيرنا في الوقت المعاصر؟، كيف نفكّر حيال العالم الخارجيّ وطبيعتها حوله؟، وهل نظرتنا تجاه الآخر الأجنبي، موضوعيّ، متوازن، ومنطقيّ، وعقلاني، أم عاطفيّ انفعالي، وعدائي أم غير كل ذلك؟.
وأكثر عميقاً؛ كيف نقرأ الصراع السياسيّ بين أبناء بلد واحد شاسع كالسودان؟، وما هي المنطلقات التي تقوم عليها مناهجنا العلميّة، ومنهجياتنا الفكريّة، ومقرراتنا التعليميّة والتربويّة على كل مستويات السُلم التعليميّ الرسميّ بالبلاد والذاتيّ أيضاً؟، كيف نقرأ ونخطط، ونتصوّر صورة مستقبل البلاد، ومستقبل أجيالنا القادمة؟، هل نتمتع بطريقة تفكير استراتيجيّ نخطط به، ونعمل وفقه، ونعيش حسبه، ونحيا عليه، وعليه تقوم كل سردياتنا حول التنمية المستدامة في كافة الصُعد، والأنساق؟.
بل أكثر عمقاً؛ كيف نرى انفسنا، والآخرون؟، وما هي نظرتنا تجاه المجتمع الدوليّ وصراعاته المختلفة؟، وما هي طبيعة علاقاتنا مع أنفسنا، ومع دول الجوار والبلدان الصديقة والحليفة؟. وهكذا، دواليك، تساؤلات ذات صيغة استكشافيّة ذاتية فلسفيّة، رفقة أسئلة موضوعيّة معرفيّة، تحيلنا إلى الخطوط الأولى في سبيل بناء الدولة، وتنمية مجتمعاتنا وإدارتها، والسعي لتطويرها، والارتقاء بها/بنا نحو ما أفضل دوماً.
• آفاق فك الاشتباك نحو الحل:
في تقديريّ، أن المدخل المبدئيّ، والمسبق، نحو معالجة هذه “الإشكاليّة”، هو المحاولة بحساسيّة عالية لإيجاد سرديّة حلول بعضها عاجلة وأخرى آجلة، ومعالجات ناجعة، عقلانيّة منطقيّة مقنعة، بل عصريّة عمليّة، حداثيّة مبدعة لتساؤلات، وأسئلة حيّة من شاكلة:
• هل الخلل في النظريّة والممارسة السياسيّة السودانيّة من صعيد، أم في عقليات وذهنيات، وطرائق تفكير الساسة والمسؤولين في الشؤون العموميّة من صعيد آخر؟
• هل المشكلة تكمن في تناقض الأيديولوجيات وتعارض المصالح والأهداف والرؤى تالياً من جانب، أم في اختلاف طرائق وآليات وأدوات تحقيق تلك المصالح، وممارسة تلك الأيديولوجيات؟.
• هل المسألة أنها اختلاف طريقة التفكير تجاه ماضيّ وحاضر ومستقبل البلاد، والمجتمعات التي تقطنها، أم في طريقة إدارة ونظريات إدارة الدولة ومؤسساتها المطبقة منذ الاستقلال، وما تختزن من سياسات مختلفة مختلة، وممارسات متباينة فاسدة، وعقليات معطوبة؟.
• ما نقطة الانطلاق تُرى نحو الحل ومتى، وكيف، ولماذا، وما هي المرتكزات المنطقيّة، والقيم الفعليّة، والاستراتيجيات العمليّة التي يمكن الاستناد عليها، والعمل بها، والسعي وفقها؟، وما هي البدائل المبتكرة لها؟.
إن الشعب السوداني يرغب، ويريد ويسعى فعلاً إلى ثورة تغيير حقيقيّ كبير وجذريّ يحقق له أحلامه، وتطلعاته، ومصالحه واحتياجاته في الحرية، والكرامة، والمساواة، والعيش الكريم، والعدالة، وفوائد الديمقراطية بالطبع وأكثر. إنها، أي المجتمعات في السودان، كم تواقة وطموحة ومشدودة حقيقةً نحو العيش، والحياة تحت ظلال تلك القيم والأفكار الوارفة بحساسيّة فكرية، واستراتيجيّة، وعمليّة عاليّة، بجانب ملؤها بحماسة وشغف كبير، ورغبة أكيدة، وسعي غير محدود نحو ذلك.
وما روحها المبادرة في إحداث انتفاضات وثورانها الغاضب كل حقبة إثر أخرى ضد الطغاة، وضد الدكتاتوريين، والحُكم العسكري، والأنظمة القامعة والباطشة، خير دلائل وصادق شواهد، وكبرى المبررات الحيّة والمألوفة على ذلك، وعلى سعيها الدؤوب، ورغبتها المشتعلة، وارادتها الفعليّة، منذ حصول البلاد على استقلالها من المستعمر، والحُكم الأجنبي. إنه، المواطن السودانيّ، ينشد الأفضل بالفعل والسلوك والقول، على المستويات كافة: فردياً، علائقياً، ثقافياً، ومجتمعياً، وبالطبع على المستوى الهيكليّ، والذي يتعلق بمستوى الدولة ومؤسساتها، وهو المستوى الأهم، والأكثر أهمية في اللحظة الراهنة، على الأقل.
وبالتالي، أعتقد، أن حراك ديسمبر الاحتجاجيّ، سيخلق فرقاً هائلاً في صيرورة التاريخيّ السياسيّ والاجتماعي والاقتصادي البلاد عاجلاً أم آجلاً. لأنه حدثٌ وقعَ في ظرفيّة تاريخيّة وسردية ثقافاتيّة فارقة، وحاسمة، ومتزامنة حاسمة على مستوى العالم بعد المحليّ والاقليميّ، فضلاً عن حدوثه في لحظة توافر خلالها محددات ذاتيّة وأخرى موضوعيّة داعمة، ومساندة، ومحركة لسيرورته نحو الأمام، والمضيّ قّدماً.
إنه الحراك الثوريّ الجماهيريّ الأكثر شبابيّة، وهذه وحدها ميزة ونقطة داعمة وفارقة له، فضلاً عن امتيازه بأنه الحراك الأكثر صموداً، والأكثر مسؤوليّة لكل الأجيال تجاه نجاحه، واستمرار مكتسباته في الإنتاج المثمر. لذا ليس غريباً أن نرجو ونعمل ونأمل أن تتحوّل هذه الانتفاضة الشعبيّة، والحراك الثوريّ الأكثر جماهيريّة إلى مشروع ثورة تغيير حقيقيّ وشامل ومستدام تطال فوائده أجيال وراء أخرى تعقبها أجيال. لأنه أيضاً “حراكاً” وليد ونتاج تراكمات نضالات شعبية، ومهنيّة طويلة، وتضحيات متنوعة جسام لأجيال متعاقبة سالفة، وأجيال معاصرة ثانياً، وثالثاً أجيال أخرى مستقبليّة قادمة، وحتماً ستواصل في حركة التقدم، وسيرورة النضال السلميّ نحو تأسيس مجتمعات عادلة مسالمة متنوعة متمايزة، تعيش في سلامٍ عادلٍ شاملٍ مستدام.
• العتبة الأخيرة:
في الخلاصة، أعتقد، أن المدخل الأساسي لمعالجة هذه الإشكاليّة ذات البُعد الذاتيّ والموضوعيّ والبنيويّ، لمسألة صراع وجدليّة الشرط العسكريّ وسرديّة السياسيّة حيال السلطة وشؤون الدولة العموميّة، ليست في عدميّة أو ضعف المحاولة الجادة لوقف، وإغلاق باب الانقلابات العسكريّة والاضطرابات السياسيّة بكل الآليات، والأدوات، والاستراتيجيات، والطرق الممكنة مسنودةً بتنظير حاذق فحسب، ولا في سوء ممارسة نظريّة “الانتهازيّة” بالمعنى السياسيّ، وحتى إن استطعنا فعل ذلك “بقرارات صديقة، وقوانين صارمة” فلا أعتقد أن المشكلة قد تذهب بلا عودة، إنما يكمن المدخل المنطقيّ، والأكثر عقلانية للحل الجذريّ، والبنيويّ والناجع لهذه السرديّة، فوق تحييد وعزل وضبط عقليّة المدنيةّ السياسيّة عن التحالف مع العسكري الانقلابيّ أو الاهلي الانتهازيّ، والاعتماد عليه للوصول إلى السُلطة، في العمل النشط، والتخطيط الاستراتيجيّ المحكم والجاد والمسؤول، على تفكيك، وتفتيت، وإزالة “عقليّة العسكرة” عن التدّخل، والتوّرط، والانخراط في الشأن الذي لا يخصها، وليس من صميم وجودها، وشروط تكوينها، والعكس أيضاً بالنسبة لشرط السياسيّة.
أنه السعيّ الدؤوب، والضرورة العاجلة، نحو نفيّ وإلغاء “ذهنيّة العنف العسكري” حيال ممارسة أي عمل، ونشاط سياسيّ من اختصاص مؤسسات أخرى حاضرة وموجودة في وعاء الدولة، وفي الوقت ذاته على الشرط السياسيّ المدني. ولأجل فعل ذلك نحتاج إلى آليات مدنيّة ثقافيّة تعمل برؤية عقلانيّة مبدعة، ناضجة، واستراتيجية، ومنظور ثاقب، وانشطة محكمة مثمرة، تدرك أنها من صميم أهداف التنميّة المستدامة الشاملة لذوات، وأفراد، ومجتمعات، ودولة السودان.
محمد أبكر موسى،
صحافيّ، باحثّ، قاصّ، وناشط اجتماعي.
الاثنين، 30 يناير، 2023