د. فيصل عوض حسن
يجتهد انتهازيُّو ما يُسمَّى جبهة ثوريَّة لإقناعنا بـ(خِدْعَة) السَّلام الشامل، القائم على شراكتهم مع القَتَلة وصُنَّاع الإبادة والاغتصاب والنَّهب، ويبدو أنَّ هذه (الخِدْعَة) قد انطلَت على الكثير من السُّودانيين، الذين (تَوَهَّموا) بأنَّ المُجرم البرهان وتابعه المُرتزق حميدتي وأزلامهما، سيمنحونا السلام/الأمن (المفقود)، عبر (صفقات) طَمْس الحقوق وتمكين تُجَّار الحرب والمُجنَّسين من مَصايِر البلاد والعباد!
لم أثق يوماً في المُجتمعين بجوبا، فهم بالنسبة لي (أدوات) لا يملكون من أمرهم شيئ، ويُنفِّذون أوامر سادتهم بالعالم الخارجي، مُقابل بعض (الفِتات) حالهم كحال الكيزان، وهم الآن جُزءٌ من سيناريو يفوق في انحطاطه ما حدث بنيفاشا، التي أدَّت لفصل الجَنُوب وحده، بينما يستهدف السيناريو الحالي (تذويب/تلاشي) السُّودان بكامله، استكمالاً لـ(مُثلَّث حمدي) الإسْلَامَوي، وفق ما أوضحت في مقالاتٍ سابقة! ولعلَّ أخطر الحقائق الغائبة عن الكثيرين، أنَّ هؤلاء العُملاء جعلوا اتفاقات جوبا أعلى من الوثيقة الدستوريَّة، ولا يُمكن إلغائها أو تعديلها إلا عبر المحكمة الدستوريَّة، التي يُسيطر عليها العَسكَر المأجورين! والأدهى، أنَّ تُجَّار الجبهة الثوريَّة يرفضون تماماً أي تعديل في هذه الاتفاقات، وأن يلتزم الجميع بمُتضمَّناتها رغم اختلالاتها (الكبيرة)! وبعبارةٍ أدق: لا فِكاك من هذه الاتفاقات (المُدمِّرة) إلا بثورة شعبيَّة حقيقيَّة/كاملة، تقتلع جميع هؤلاء الانتهازيين والعُملاء، سواء عَسْكَر أو مدنيين/قحتيين أو تُجَّار جبهة ثوريَّة.
نُصُوص وبنود اتفاقات جوبا (المُعْلَنَة) دقيقة ومُحدَّدة، بالنسبة لـ(مَنافع) قادة/تُجَّار الجبهة الثوريَّة (المالِيَّة والسُلْطَوِيَّة)، ولكنها أتت عامَّة وضبابيَّة في ما يخص (أصحاب الوَجْعَة) المعنيين الحقيقيين بالسلام، كضحايا الإبادة الجماعِيَّة والتشريد والاغتصاب، وضحايا القمعِ والإفقار والتجهيل، والمفصولين (تَعَسُّفياً)، والذين نُزِعَت أملاكهم (أراضي/أموال)، سواء بمناطق النِّزاعات كدارفور والمنطقتين، أو بِبَقِيَّة مناطق السُّودان كمُتضرِّري السدود بالشرق والشمال، والرهد والجزيرة والسُّوكي والنيل الأبيض والشماليَّة وكُرْدُفان، وبُرِّي وأُم دُوْم والجِرِيْف شرق وغرب والفِتِيْحَاب وغيرهم، فهؤلاء جميعاً يحتاجون لتطييب النفوس وجَبْرِ الخواطر، بإرجاع ممتلكاتهم إليهم فوراً، وإخراج المُتواجدين فيها والمُنتفعين منها و(إلزامهم) بالتعويض، وهي مُتطلَّباتٌ حتمِيَّةٌ (تَجَاهلتها) اتفاقات جوبا، وأضاعتها بالبنود الضبابيَّة والمُضلِّلة. فالسَّلام (العادل) الذي نبتغيه يبدأ بتسليم البشير ورُفقائه فوراً للمحكمة الجِنائِيَّةِ، ومُحاسبة/مُحاكمة جميع نُوَّابه ومُساعديه والوُلاةِ والعسكريين، وكل من أَجْرَمَ في حق السُّودانيين دون استثناءٍ أو مُجاملة، و(تأمين/حِمَاية) المُواطنين العُزَّل، وإعادة النَّازحين لمناطقهم (الأصيلة) وتعويضهم، وإرجاع أملاكهم بعد إخراج الوافدين منها. وهذا يعني، أنَّ البرهان والمُرتزق حميدتي على رأس المطلوبين للمُحاكمة، تبعاً لجرائمهما السابقة/الحالِيَّة، وليس (التفاوُض/التَحالُف) معهما.
من أخطر المهددات (السيادِيَّة) التي نُعانيها وأحد مبررات ثورتنا، هي تَمَدُّد الأجانب الذين جَلَبَهم الكيزان بمجموعاتٍ كبيرةٍ، ومنحوهم الجنسيات ومَلَّكُوهُم الأراضي، وألحقوهم بمليشياتهم المُختلفة، وبعضهم اسْتَوْزَر وتَقَلَّد مناصب حَسَّاسة، وفق ما أوضحنا بمقالنا (الغَفْلَةُ السُّودانيَّة) بتاريخ 26 مايو 2019. وبدلاً من تحجيم هؤلاء المُجنَّسين، قام تُجَّار الجبهة الثوريَّة بـ(تعظيم) سُطوتهم، وخَصَّصوا لهم (مَسارات) تفاوُض وهمِيَّة خصماً على أهل السُّودان (الأصليين)، مُتجاهلين خطورتهم وولائهم المُطلق/المُعلَن لبلادهم، وأحقادهم الكبيرة وجرائمهم البشعة ضد أهل البلد، كالنَّهبِ والقتل والاغتصاب والتعذيب، و(مَنْعِ) الصلاة على الموتى كما شاهدنا عقب مَجْزَرَة القيادة، وادِّعاءاتهم المُوثَّقة بـ(تبعيَّة) بعض أراضينا لدولهم المطرودين منها. ولم يُفكِّر تُجَّار الحرب في تهديد المُجنَّسين لسيادتنا الوطنِيَّة، وتعطيلهم التَحَوُّل الديمُقراطي وبناء دولة القانون، ومَنْعْ (عودة النَّازحين) وضحايا الحرب لمناطقهم الأصيلة.
السُّودانيُّون (الأصيلون) تربط بينهم مُصاهرات وأرحام وصداقات وزمالات وجِيرة نبيلة، لذلك فإنَّ تَصَاعُد الاصطفاف القَبَلي/الجِهَوي وخطابات الكراهِيَّة المُتزايدة، عقب إبرام اتفاقات جوبا خلفه (مُجنَّسي) الجبهة الثوريَّة وأزلام العَسْكَر، خاصَّةً المُرتزق حميدتي الذي لا يرتبط بالسُّودان (جينياً/أخلاقياً)، وهذه حال جميع الذين يتبنُّون التصعيد (الجِهَوِي/القَبَلي) الماثل، ليسوا من أرض السُّودان ولا ينتمون لأهله الطيبين! ولخدمة أهدافهم المرحلِيَّة والاستراتيجيَّة، يعتمد المُجنَّسون على (التضليل)، سواء في الثوابت التاريخيَّة أو في الحاضر، ومن ذلك تحريف بعض المُقرَّرات الدراسيَّة، وإدخال ممالك وحضارات من العدم وحَجْب/تشويه تاريخنا الأصيل، بإشراف ورعاية المُتأسلمين وأزلامهم، مع غفلة تامَّة وتراخي مفضوح لمُتخصصي التاريخ والمُؤرِّخين السُّودانيين، تجاه هذه الجريمة (العُظمى) التي تُشَرْعِنْ لوجود المُجنَّسين في حاضرنا وتهديد مُستقبل أجيالنا القادمة.
آخر أكاذيب/تضليلات المُجَنَّسين، أطلقتها إحدى (مُجنَّسات) مَسَار الشرق، يوم 18 نوفمبر 2020، حينما ادَّعت بأنَّ مجلس السيادة مسئولٌ عن (تأمين/حِماية) جولة قادتهم بالشرق، بينما اكتفى مجلس السيادة بنَفيِ (خجولٍ) لهذه (الفتنة)! وكان الأجدى مُحاسبة رادعة ومُحاكمة هذه (المُجنَّسة/المُفَتِّنة) ومن معها بأقصى العقوبات، لخطورة ما قامت به من (جُرْمٍ) كبير، ولتكون عِظَةً وعِبرَةً لغيرها، لكن حُكَّامنا تَرَاخوا معهم كالعادة، مما يُثير الريبة ويعضد القناعة، بتَوَرُّط العَسْكَر مع هذه (المُفتِّنة)، خاصَّة وأنَّ هذه لم تكن فتنتها الأولى، ولن تكون الأخيرة! حيث أثارت قبل أيَّام (فِتْنَةً) ولَغَطاً إعلامياً كبيراً، حينما (تَلَبَّست) ثوب الصحافة، وهي في الحقيقة عُضوٌ في كيانٍ (للمُجنَّسين) المُتغوِّلين على بلادنا، ثُمَّ أصرَّت على حضور مُؤتمر المجلس الأعلى للبجا المحصور في أهل المصلحة دون غيرهم، وحينما طلبوا منها المُغادرة بهدوء (اِدَّعت) بأنَّها صُحفِيَّة مُنِعَت من حضور المُؤتمر، ساعدها في ذلك آكلي الفتات وبعض (الغافلين)، وقائمة تجاوُزاتها/فِتَنِها تطول ولا يسع المجال لتفصيلها.
من القنابل المُتوقَّعة لاتفاقات جوبا، تَعاظُم الفراغ الأمني الحالي، تبعاً لتقاطُع الميليشيات الإسْلَامَوِيَّة المُختلفة (الجيش، الشرطة، الأمن والمُخابرات، الجنجويد، الأمن الشعبي/الطُلَّابي … إلخ)، وصعوبة تَقَبُّلها للقادمين الجُدد وفقاً للترتيبات الأمنيَّة، واستحالة إعادة تهيئتهم جميعاً كقُوَّاتٍ وطنِيَّةٍ وشرعِيَّةٍ (مُحترمة). إضافةً لعدم وجود (آليات) واضحة لتنفيذ مضامين اتفاقيات جوبا، أو ضمانات قانونِيَّة (موثَّقة) لمُتابعة التنفيذ وتقييمه وتقويمه، مُقابل إقصاء نَّوعي وسيطرة مناطِقِيَّة/جُغرافِيَّة و(إثنِيَّة) وعائِليَّة/أُسريَّة واضحة، والانتهازِيَّة الطَّاغِية على جميع الأطراف، سواء العَسْكَر (أزلام المُتأسلمين) أو القحتيين، أو تُجَّار الجبهة الثوريَّة، فجميعهم (خُدَّام) للخارج مُقابل الفتات!وبجانب عجز السُّودان عن (الإيفاء) بالالتزامات المالِيَّة (الخُرافِيَّة) التي حَوَتها اتفاقيات جوبا، هناك (قُنبلة) نُظُم/أشكال الحُكم المُتقاطعة مع (ثوابت) الإدارة العلميَّة الرَّصينة، لأنَّ نظام/شكل الحُكم السليم، أياً كان نوعه (فيدرالي/مركزي/لامركزي وغيره)، لا يتحدَّد بـ(الرغبات/الأماني) وإنَّما بمدى تَوفُّر مُقومات أو مُتطلَّبات النجاح، سواء كانت (إداريَّة، اقتصاديَّة/ماليَّة، ثقافيَّة/معرفيَّة، اجتماعيَّة وسياسيَّة)، بعيداً عن الارتجال و(دَغْدَغَة) المشاعر.
وكمثالٍ، اعتمدت اتفاقات جوبا نظام الحكم الذَّاتي للمنطقتين، دون تَوَفُّر مُقوِّماته الأساسيَّة، كوجود فوائض نقديَّة كبيرة، وأمن سياسي وسِلْم اجتماعي واضح، وموارد بشريَّة بمُستويات ثقافيَّة ومعرفيَّة مُتنوِّعة، لتدعم القدرة على الإدارة والتسيير، وهذه مُتطلَّبات لا تتوفَّر حالياً في السُّودان بكامله، دعكم المنطقتين وحدهما. فنحن لا نملك مُجرَّد إحصائِيَّة (موثوقة) بأعداد السُّودانيين، ناهيك القادرين على العمل، والمُصنَّفين حسب النَّوع (إناث/ذكور)، والمجالات المِهَنِيَّة والدرجات العلميَّة! وغالِبِيَّة الدول التي طَبَّقت الحكم الذَّاتي تمتلك إمكانات مهولة، وعَانَت كثيراً ولا تزال نتيجة لاختيار هذا النَمَط الإداري (المُكلِّف)، فهو يعني تقسيم المناطق المَعنِيَّة لأقاليم/وحدات إدارِيَّة، تتكَفَّل بتهيئة خِدْمَات التعليم ومُرافقه (مدارس، معاهد، جامعات، معامل …إلخ)، وبالخدمات الصِحِّيَّة والاجتماعيَّة، والتنمية الحَضَرِيَّة والرِّيفيَّة، والمسئوليات الأمنِيَّة وغيرها، مما يجعلني أقول وبالفم المليان، أنَّ خِيار الحكم الذَّاتي المُتَّفق عليه بجوبا (مُدمِّر) وفاشل، لأنَّه بعيدٌ عن العلمِيَّة والواقعيَّة.
هناك أيضاً غياب كلٍ من الحلو وعبد الواحد، رغم تمثيليَّة حمدوك بشأن اتفاقه مع الحلو، الذي كان ولا يزال واضحاً وثابتاً في أطروحاته، وأهمَّها رفضه القاطع لوجود (المُرتزق) حميدتي في هرم السُلطة، باعتباره قائد مليشيات القتل والتخريب (وهذا صحيح)، بخلاف (تسفيه) الجنرال كباشي لحمدوك واتفاقه مع الحلو، وهذه مُعطياتٌ (يستحيل) معها تحقيق (التَوازُن) بين مواقف/أطروحات الحلو وعبد الواحد من جهة، وبين اتفاقات جوبا من جهةٍ ثانية! أمَّا بَقِيَّة المَسَارات فهي (تُمَامَة جِرْتِق)، ولا يقلُّ أصحابها انتهازِيَّةً عن غيرهم، ويكفي أنَّ أحد الموصوفين بـ(قادة) مَسارات قال في التليفزيون، وببجاحة استثنائِيَّة: “أنَّا مشيت جوبا (بَرَاي كِدَة)، بدون تفويض من أي زول”! وأترك التقييم للقارئ الكريم!!
نحن أمام مسرحِيَّة من مسرحيات العَبَث، أبطالها جماعة (الهبوط النَّاعِم) أو القحتيين أو نداء السُّودان أو الجبهة الثوريَّة، فهذه جميعها أسماء لحاضنةٍ واحدة، تحتوي (شُلَّة) الانتهازيين وتُجَّار الحرب، وعلينا مُواجهتهم بحسمٍ وسرعةٍ دون تَرَدُّد. والمُبشِّر، أنَّ غالِبِيَّة السُّودانيين، تجاهلوا هذا (العَبَث) المُسمَّى اتفاقات، وأثبتوا بأنَّ ثورتنا ثورة وعي بالحقوق، وترفض التَحَالُفات الانتهازِيَّة/الطُفَيليَّة المُتدثِّرة بقضايا الوطن والجماهير، ومن ضمنها السَّلام الذي حصروه في المنافع المالِيَّة والسُلطَوِيَّة (الجِهَوِيَّة/الطَّائفِيَّة)، وتكرار الإخفاقات والتجارُب الفاشلة، والأخطر من ذلك (تعزيز/ترسيخ) التَدَخُّلات الخارجِيَّة في شئوننا، وتحجيم انطلاقنا نحو إعادة تأهيل السُّودان، وبناءه على أُسُسٍ علميَّة وأخلاقِيَّة وإنسانِيَّة وقانونِيَّة سليمة.
إنَّ إيقاف الحرب/الصِّراعات وتحقيق السَّلام المُستدام، غاياتٌ نبيلةٌ لا تتحقَّق عبر المُجرم البُرهان والمُرتزق حِمِيْدْتِي وأزلامهم (المُجنَّسين)، ولا عبر (العُملاء) حمدوك والقحتيين وتُجَّار الحرب، ولا بالمَطالِب (الانتحارِيَّة) كتقرير المصير والحكم الذاتي وغيرها، وإنَّما تتحقَّق بالإدارة العِلميَّة الرصينة، وتقويم المفاهيم المُشَوَّهة، وتجاوُز الفتن المصنوعة وإزالة المظالم والمَرارَات/الغبائن لأصحاب (الوَجْعَة)، وإشباع رغباتهم (المشروعة) في القصاص من الظَلَمَة، وعدم الاستكانة والرُضوخ لإملاءات وأكاذيب العالم الخارجي.. وللحديث بَقِيَّة.