محمد أبكر
أن تذهب إلي “المدرسة” بداعي وفضول التعلم والوعي فتكتشف أنك مشروع تدجين العقول طويل الأمد لــ(نظامٍ أو سلطةٍ) شئ، أما أن تفعل ذلك وأنت جفيف الأوردة (عطشاً)، ويصيح بطنك (جوعاً) فالأمر هنا غير..أي أنك بين مطرقة “غسل العقول”، ومسخ الأرواح في الآوان ذاته..وهذا لشئٍ غير ثالث!!
فالذهاب إلي (الروضة..المدرسة..الجامعة..)لنسف الجهل والأمية قضية لها محدداتها وتجلياتها، بينما أن يكون ذلك الذهاب لمسح ذاكرتك ثم ملأها من جديد، وإعادة تشكيل عقلك مجدداً قضية لها إبعادها ومسوغاتها بالطبع، أما أن يكون ذلك الذهاب ﻷجل مسخ “كيانك” بالتلقين والبرمجة وإعادة صياغة جديدة، وتلويث أنسجة “بقاءك” بمزاعم (الفقر والجوع والحاجة) أنها لقضية “غير وآخرى” ولها سياقاتها المتمايزة، وخطاباتها المتغايرة، وأنساقها المتباينة، ونتائجها المذهلة بكل تأكيد..!
يقول الرئيس الماليزي مهاتير محمد أنه:” لا بد من ضرورة توجيه الجهود والطاقات إلى الملفات الحقيقية وهي: الفقر والبطالة والجوع والجهل; لأن الإنشغال بالأيديولوجيا ومحاولة الهيمنة على المجتمع، وفرض أجندات ووصايا ثقافية وفكرية عليه لن يقود إلا إلى مزيد من الإحتقان والتنازع.. فالناس مع الجوع والفقر لا يمكنك أن تطلب منهم بناء الوعي ونشر الثقافة”..
بينما في “السودان” يخرج رئيس الجمهورية بــ”الإنابة” رئيس مجلس الوزراء القومي( طبقاً لمخرجات سيرك الحوار الوطني) بكري حسن صالح إلي الملأ لدي مخاطبته (ملتقى مخرجات البحث العلمي والإبتكار الأول)بمقر الوزارة المعنية الثلاثاء بتاريخ 23/7/2018 ليقول “عن تخصيص (الدولة) نسبة (١%) من إجمالي الناتج المحلي في البحث العلمي…”!
ألاحظتم الفرق الشاسع جداً بلا مقارنةٍ وبلا منازعةٍ البتة بين خطابي قادة شعبان بعينهما; فالنسبة لماليزيا إن الفقر والبطالة والجوع والجهل قضايا “مركزية” وملفات “حقيقيقة” يجب على “الدولة” فتحها وحل إشكالياتها ووضع حدِّ لوجودها بالفم الملأن، بينما بالنسبة للسودان يظل “الإنشغال بالأيديولوجيا ومحاولة الهيمنة على المجتمع وفرض أجندات ووصايا ثقافية وفكرية عليه بغية المزيد من الإحتقان والتنازع” الهموم الكبرى والقضايا الأولى على دفتر جدولة أعمال “الدولة” وأكثر ما يقلقها (على الإطلاق)..هذا ناهيك عن مسائل مناقشتها أو دراستها ﻹكتشاف حلولها ووضع خطوط نهائية لها..وهنا تكمن المفارقة القاسية!!
ويتابع محمد:”…فالتنمية في المجتمعات لا تتم إلا إذا حل الأمن والسلام”..، أما في السودان فإن (70%) من الميزانية تذهب إلي العسكر ومليشيات “النظام”..، ويضيف الصحفي القدير عثمان ميرغني صادقاً – بسخريةٍ – في احدى مقالاته بزاويته “حديث المدينة” بالأخيرة التيار:”وأنا بقول لو أدينا القوات المسلحة الميزانية كلها عشان تأّمن البلد دي بتبقى شوية عليها، واليومين دي حتى الصحفيين المعانا وافقين ضدنا”..
رأيتم حقاً..هناك(عند العقول المتمدنة والواعية ) أساس التنمية وأولى لبناتها الضرورية هي “الأمن والسلام”..بينما في السودان تُنفق “مجموع” ثروات البلد على الجيش ومليشيات الحكومة ﻷجل ماذا؟..فقط لو تعلم ﻷجل زعزعة أمن واستقرار البلد ذاته، وتنزيح شعبه وتقتيله إرباً إرباً، وتدمير موارده، وتخريب بنيانه، وتشريد أهاليه إلي غير البلدان عن موطنه الأصل!!
ماليزيا الآن أصبحت من أكبر الدول الصناعية والحضارية – بالطبع – بفضل الإهتمام بالتعليم والإنفاق “الكبير” عليه، بل الرعاية اللامحدودة للحث العلمي، فضلاً عن تحاور جميع مكوناتها الإثنية والدينية والثقافية(المعدودة قطعاً ) بغية ماليزيا الآمنة والمستقرة والمسالمة..
بينما ماذا عن السودان!؟; بلد الأكثر من (550) إثنية وسلالة بلغاتها الخاصة, وتقاليدها وثقافاتها المتميزة..بلد المليون ميل مربع مساحةً إلا (200) وتزيد..بلد الثروات المائية “العظيمة” والموارد الجوفية غير الناضبة..بينما الآن من الأكبر الدول الراعية “للإرهاب” ومعبر رئيس “للإتجار بالبشر” وتصدير الإسلحة الممنوعة وتهريب المخدرات.. وهلمجرا..، هذا فضلاً عن أنه بلد الفقر والجوع”شبه الدائمان”.. وبلد الجهل المتصاعد يومياً..بلد البطالة “المتوارثة”..بلد الأمراض غير “المألوفة” عنها..بلد.. وهكذا دواليك!!
هناك – في ماليزيا – إرادة وطموح شعبي لتنمية البلد والإرتقاء به إلي مصاف بلدان الحضارة والمدنيّة والرّقي المعرفي..وهنا – في السودان – ثمة إرادة مقرونة برغبةٍ جامحة في تخريب البلد وتشريد شعبه، ونهب ثرواته، وسلب كرامته، ونحر قوته، وإفناء عقوله..ﻷجل ماذا؟ أنا لا أعرف البتة!
ولو قلنا أنه لا ضير في أن نتائج عقلية النخب السودانية المتوارثة على سدة السلطة كانت وهكذا تظهر علناً وكما أرادت وتريد ولطالما إبتغاها وخططت لها – بكل خبثٍ ومنهجيةٍ ودهاء – وعملت جاهدةً على رؤيتها كذلك..فما يحدث الآن كان هو ما يُراد تحقيقه في الأمس، وما هو بالغدِ نتاجاً لرؤية ورغبة اليوم، وما اليوم سوى لحظة الإرادة والتخطيط لما حدث وسيحدث ليس إلا..ففي “حدوثية العالم” والصيرورة ليس هناك شبرُ مساحةٍ للمصادفة والعشوائية والأفعال العجال والعابرة عن سكونية الزمن سهواً..!
وﻷن بناء دولةً صناعيةً تنافس الأخريات لا تأتي بلا إتفاقٍ حُر للجميع، وتعاونهم معاً..ولا بالأحلام نوماً أو يقظةً، أو تأتي بين ليلةٍ وضحاها، أو بفعل قوى خارقةً تأتي عن قسر الأعين، وذهول العقول، بل بالتحاور البنّاء، والتفكير النقدي، والرؤيا الديمقراطية وفي ذلك فإن محمد يؤكد حسب تجربته :” فكان لزاماً علينا الدخول في حوار مفتوح مع كل المكونات الوطنية، دون استثناء لأحدٍ والإتفاق على تقديم تنازلات متبادلة من قبل الجميع لكي نتمكن من توطيد الاستقرار والتنمية في البلد..وقد نجحنا في ذلك من خلال تبني خطة (2020) لبناء ماليزيا الجديدة..وتحركنا قُدماً في تحويل ماليزيا إلى بلد صناعي كبير، قادر على المنافسة في السوق العالمية، بفضل (التعايش والتسامح)…”
أجل هكذا تُبنى صروح الدول الحضارية “العظيمة” عبر تبني آمال وطموحات “كبرى” تُنضج بالتخطيط الجيد(حسب المدى المُراد للبناء ) والتنيطيم الدقيق، والعمل الجهيد، وبناء العلاقات الدبلوماسية والسياسية البناءة، فضلاً عن تعزيز سبل الإستقرار والتسامح والتعايش بين جميع مكونات الوطن، وتدعيم ممارسة ديمقراطية الحوار، وسيادة العدالة وروح المواطنة..
وهكذا …فماليزيا ليس ببعيدٍ عن الوصف والتعبير، وهو البلد الذي قُدر له خوض تجربة حرب أهلية ضروسة نهمت على أمنه وآمانه..، إلا أن “ماليزيا” بوصفها “دولةً صغيرةً جغرافياً – نسبياً – مقارنةً بالسودان” قد أفاقت سريعاً عن معايشة ذكريات الحرب الأليمة; فأسندت نفسها على ثقة أبنائها فصاغت ذاتها دولةً حضاريةً بأسلوبٍ مدني جديدٍ، ورؤيةٍ جديدةٍ لمستقبلٍ جديدٍ أخضر قيد إنتظار قطف حلو الثمار، ولذيذ نمط الحياة..!
فالدولة عندما لا تتوافق كافة مكوناتها بالكلية، وترضى ببعضها البعض في بوتقة “المواطنة”، وتحت سقف “وطن واحد..شعب واحد”، فإنها بكل تأكيد قد تتحول إلي بقعةً لعصابات سياسية محسوبية ظلومةً جداً، وتغدو مجرد ميدانــاً تتبارع عليه “نخاثة” الأيديولوجيات والمذاهب، وتتصارع الفُرق اللاهوتية، وتتصادم القبائل بلا هوادةٍ وبلا رحمةٍ قط..وحينها تذهب تسمية “دولة” عن تلك الأرض المحددة الجغرافيا والتاريخ ونوع الهُوية والثقافة نمط العيش..!
فالدول “الجيدة” تبنيها التفكر الديقراطي..التفكير والوعي السياسي الكافي..وسيادة النقد الذاتي الإجتماعي البنّاء..وشيوع أفكار الشفافية والنزاهة والضمير الحي بين أفراد المجتمع، علاوةً على سيادة القانون على الجميع، وتعزيز صور “المواطنة” وقبول الآخر وإحترامه، وحماية الحقوق وتدعيم سبل معايشتها، ورعاية حريات الإنسان عن الإنتهاك، فضلاً عن سيادة مشاعر المحبة والتقدير والتسامح، وتشجيع العمل والإيثار والإخلاص فيه، والوفاء بالعهود، وأولها وآخرها إشاعة الثقة والصدق بين جوارج الجميع..
وبسبب حشر الكثير من القضايا البشرية المستقلة – والمختلفة بالتاريخ والموضوع والغاية والفهم – عن الشعائر والأحكام الدينية، وبشكلٍ دوغمائي وأيديولوجي جداً فإن الإنوجاد البشري، والتدبير العقلاني الإنساني الآن يعانيان الكثير كذلك من الإشكاليات السياسية والحضارية والثقافية التي بعضها قد تعقدت جداً وتتاشبك أبعادها، ويعايشان العديد من الأزمات الإقتصادية والهموم الإجتماعية العالقة المتخمة..
وفي هذه المعضلة العصية – خلط العقلاني بالإسطوري وحشر اللاهوت في الناسوت- يؤكد الرئيس الماليزي بلسانٍ إسلامي :” نحن المسلمون; صرفنا أوقاتاً وجهوداً كبيرة في مصارعة طواحين الهواء عبر الدخول في معارك تاريخية، مثل الصراع بين السنة والشيعة وغيرها من المعارك القديمة”..
وﻷن تلك المعضلة هي الأساس في عدم مسايرة المجتمعات المسلمة لعجلة التقدم والحضارة، فضلاً عن سيادة الجهل والفقر والتخلف شبه الدائم فيها، يترأى محمد عنها ويُرجعها إلي أن” المجتمعات المسلمة، عندما رضخت لبعض الفتاوى والتصورات الفقهية التي لا تتناسب مع حركة تقدم التاريخ، أصيبت بالتخلف والجهل..;فالعديد من الفقهاء حرموا على الناس استخدام التليفزيون والمذياع، وركوب الدراجات، وشرب القهوة، بل وجرموا تجارب عباس بن فرناس للطيران”!
ولما لم ولن يقدم “النص”، أي نصٍ تفسيراً وخلاصاتٍ سحريةٍ لتقدم وتحضر ورُقي الإنسان عن غير تأويلٍ وقراءةٍ وتبيانٍ ذو صبغة عقلانية منطقية بشرية خالصة، فإن سبب ذلك يعود إلي – وهنا الحديث عن النص القرآني ومقولات الأنبياء والرسل.. وطبقاً لمهاتير محمد – ” إن كلام العديد من الفقهاء “أن قراءة القرآن كافية لتحقيق النهوض والتقدم” قد أثر سلبًا على المجتمع..; فقد انخفضت لدينا نسب العلماء في الفيزياء والكيمياء والهندسة والطب، بل بلغ الأمر، في بعض الكتابات الدينية، إلى تحريم الانشغال بهذه العلوم”!!
أما عن سبيل وكيفية خروج “العالم المتأسلم” من دوامة التخلف ورعاية الإرهاب، وتربية الإنحطاط الأخلاقي يقول محمد:” أن حركة المجتمع لا بد أن تكون جريئة وقوية، وعلى الجميع أن يدرك أن فتاوى وآراء النخب الدينية ليست دينًا..، ومن الخطأ تقديس أقوال المفسرين، واعتبارها هي الأخرى دينًا واجب الاتباع..; فنحن المسلمون، قسمنا أنفسنا جماعات وطوائف وفرق، يقتل بعضها بعضاً بدم بارد، فأصبحت طاقتنا مُهدرة بسبب ثقافة الثأر والإنتقام التي يحرص المتعصبون على نشرها في أرجاء الأمة عبر كافة الوسائل، وبحماس زائد.. ويضيف مؤكداً:” إن قيادة المجتمعات المسلمة، والحركة بها للأمام، ينبغي أن لا يخضع لهيمنة فتاوى الفقهاء والوعاظ…”!!
وهكذا.. فالأمم العظيمة أو المجتمعات الحضارية تُبنى بالحقل العلمي والإهتمام به- وبالضرورة القصوى – فضلاً عن غرس وتوطيد بذور التفكير المنطقي، وتعزيز النظرة العقلانية والديمقراطية، والرؤية الإنسانية، وتدعيم التوجه الإخلاقي، ونشدان الوعي والإتصال السياسي الكافيان وتوكيدهما، وإنماء ورعاية حقوق الإنسان، وإحترام القيم، وتقدير الجمال والفن والأدب، وصيانة الحُرمات والحريات في أفئدة ناشئتها وأجيالها الصغار، علاوةً على سيادة مشاعر قبول الآخر وإحترام الآخر ورأيه المختلف وتأكيد فرص ممارسة ” المواطنة”، وشيوع الصدق والثقة والشفافية بين كافة جوانح المجتمع..!.
mabakarm28@gmail.com