محمد أبكر
يمكن صياغة سؤال العنوان أعلاه بطريقةٍ آخرى من قبيل; هل توديع صحيفة “الصحافة” بعد (٦) عقود إلا (٣) سنوات، إعلاناً مضمراً للموت “الرحيم” للصحافة السودانية لاحقاً..؟!
هكذا كان السؤال سهلاً، إلا أن إجابته ليست بتلك السهولة; حيث أنه أولاً “الموت” بمعناه السلب والنفي والإنعدام ربما قد يكون أكثر قساواةً إطلاقه على الصحافة مهما ضئلت نار زيتها، ومهما هبت رياح إنطفائها..ذلك في المبتدى ﻷنها – ربما يوافقني في هذه القراءة الكثيرين – الوسيلةً الأكثر حميمةً من بين بقية وسائل الإتصال الإنساني ولا تضاهيها في تلك “الحميمية” سوى الكتاب فالمجلة..، والأكبر أهميةً من شقيقاتها الوسائطية الإخبارية المعرفية..علاوةً على أنها الوسيلة الإعلامية الأولى على وجه التفكير والإكتشاف والإستخدام..
وبالتالي فــ”موت” – أو حسب مفردتي “إنموات” بترميز من صيغة “الكثرة المستقبلية” لمفردة “إفتعال” المبالغية – الصحافة بالمعني العدمي أو الإنعدامي غير ما هو الوارد أو غير الذي نقصده هاهنا..، إلا أننا أوردناه هنا ليؤدي المعني الترميزي المجازي بغية توضيح مدى وصول قمة الأزمة في المسألة.. ولتبيان شدة الصراع العنيف الذي تعايشه الصحافة السودانية في الآوانة الأخيرة!!
وثانياً أن الوقائع المشاهدة والملاحظات الجلية جداً، فضلاً عن بعض قراءات وتكهنات المستقبل – ورغم وضوحها ووطأة تناقضاتها وتصادماتها الحادة – إلا أن الأيام رهينة بما سيؤول إليه واقع هذه الصحافة القرنية.. ونوعية مصيره المحتومة وعما قريب جداً; فالتجليات شئ والأيام وما في رحمها شئ آخر; حيث أن للمظهر وجوده التجريدي وذاتيه المستقلة الكاملة، وكذلك المجهول – غير المألوف – لمظاهره لها وجودها الكُلي، وواقعه الخاص الذي يستقيله عن غيره بالكلية..
ثم أنه لا ضير في أن يأتي قرار مجلس إدارة صحيفة “الصحافة” – وهي إيضاً تسمية ﻷحد أعرق الأحياء بالخرطوم وسط; حيث تم إطلاقه عليه بموقف يتعلق ببيع وشراء وتسليم بعض الأراضي ﻷهالي ذاك الحي الذي يبعد(5) كيلومترات عن قصر الحكومة – بإيقافها عن الصدور إلي حين إشعار آخر لطالما الأمر يتعلق بصورةٍ مباشرة بما تعانيه الصحافة السودانية من تحديات قانونية ودستورية، وتقاسي صراع البقاء في ظل إصدار قانون جديد لها، فضلاً عن معايشتها لحكمٍ عسكري دكتاتوري يبغض حرية الصحافة، ويقمع إستقلالية الإعلام بما يساوي بغضاء الليل في النهار دهرئذ، علاوةً على إنعكاسات الأزمة الإقتصادية التي يظل الجميع تحت ظلالها بلا إستثناء!!
ولا غرو إيضاً في أن تقرر صحيفةٌ بعينها – من الصحف السودانية بالطبع كما سلوك الصحافة – وبكامل إرادتها شبه الإكراهي إغلاق بوابتها والإيقاف عن الصدور و العجز عن مداعبة أنامل القُراء في ظل الواقع “الإنحساري” شبه الكامل من قِبل قوانين وآليات سيطرة الحكومة القائمة على الجميع ضمن “مشروع” تأطير الكل في مظلة نظام شمولي، وحكومة مستبدة، وحاكم جائر، وواقع حياتي أكثر مرارةً، وأكبر معانأةً، وأهلك عيشاً..
ورغم أن الصحافة السودانية منذ العقود الثلاث الأخيرة قد إنحسر إنتاجيتها الإعلامية الحقيقية، وإنحصر تغطياتها للأحداث وكشفها للحقائق – بإستثناء صحف الجريدة والتيار والميدان والإلكترونية – التي تأتي بأفواه النظام السائد وإيدي الحكومة القابضة على الكُل، والتي لا تسمن عن جفاف الإخبار، وإنجواع المعرفة، ولا تغني عن لعاب التصفح والتذوق، ولا تشحذ ألسنة القراءة والمتابعة لا تُسكت ضرورة النقد والتحليل..!
فالصحيفة التي وُلدت في العقد الأول من النصف الثاني للقرن الماضي، أي في عام (1961)لمؤسسها الصحفي عبد الرحمن مختار، وعانقت أعين القُراء قرابة (57) عاماً قد جاء “عزرائيل الصحف” وقال لها: هل أعددت لمثل هذا اليوم؟ فقالت الصحيفة: آه آه! كلا وحاشى.. ولكنّي كنتُ متوقعة إيتانه في زمنٍ ما،فلربما كما أتيت وأعرفُ ما تريد، فخُذ أمانتُك كما حفظتَها وحافظتُ عليها بإميتازٍ وغايةً في الإخلاص والثقة..فأخذ “عزرائيل الصحف” ما توقعته الصحيفة “المخلصة” وغادر بلا أمل رجعةٍ في الغالب الأعم..!
وهكذا بلا مقدماتٍ قد غابت الصحيفة – التي تتمتع بإنتشارٍ واسع لحكوميتها، و تحظى بإحترامٍ كبير لتقليديتها – الأسبوع الماضي عن أرفف المكتبات وذهبت – ربما – إلي إجل غير مسمى، بيد أن صحفيين منها “أكدوا أن الإغلاق لن يدوم طويلاً… ولو بطريقةٍ ما.. هذا الأخير من عندي”!
وليس جديداً مُضافاً إن قلنا أن قرار إيقاف الصحيفة المعنية كان متوقعاً رغم فجائيته على روؤس صحفييِّها لطالما الأمر يتعلق – طبقاً لأقوال الذين تم إبلاغهم بخطابات إنهاء الخدمة – بشكلٍ جذري بــ” إن الصحيفة صارت مملوكة لجهاتٍ حكومية وتخطط للخروج من أزماتها المالية; في إعادة تجربة الإندماج مع صحف أخرى من جديد لتقليل النفقات، ولكي يتسنى لها الحصول على إعفاءات جمركية وتسهيلات حكومية”، علاوةً على أن – ربما – “تكون صحيفة “الصحافة” إحدى المؤسسات التي ستبقي على اسمها كمكافأة لها على الموافقة على الاندماج مع صحف أخرى صغيرة مملوكة لرجال أعمال وناشرين آخرين”..
وكل ذلك فضلاً عن بوادر نشوء أزمةٍ في “إنخفاض التوزيع وفشل الإدارة في جذب قُراء جُدد، فضلًا عن زيادة سعر الصحيفة فوق طاقة كثير من المواطنين الذين تحولوا إلى قراءة الصحف عبر الإنترنت”..
ويكمن تأثير قرار إيقاف الصحيفة وفجائيته – بصورةٍ خطيرة – في شبح التشريد والبطالة الذي يمكن، بل حتمي أن يحوم على أفئدة وجوارح الصحفيين المُسرحَين عن العمل – ويقارب عددهم أكثر من الثلاثين صحفياً وصحفيةً – الذين تم إعلامهم بإنهاء خدمتهم بها، وقد يعود عمل بعضهم لديها منذ التأسيس الأول للصحيفة..!
ويمكن الإشارة إلي أن صحيفة “الصحافة” – منذ تاريخ تأسيسها كما كل الصحف – قد واجهت قرارات الإيقاف التعسفية، والتأميم القسري والإندماج شبه الإرادي مع رفيقاتها المستقلات أو المواليات كلياً أو جزئياً في كل فترة حكومة إنقلابية عسكرية بعينها، أو إئتلاف برلماني محسوبي معين، أو نظام “ديمقراطقي شكلي إجرائي” ما..حيث أنها – الصحافة – عُمِمت على يد “المايوية” في (1971)، فعادت عام (1985)، ثم توقفت بقانون الشركات وغيره..وظلت متوقفة حتى عادت إدراجها للصدور عام( 1999)..هذا غير أنها خاضت تجربة “الشراكة الذكية” مع عدد من الصحف عام (2002)، إلا أن التجربة كانت من أفشل التجارب في الشراكات في تاريخ الصحافة السودانية.. حسب خبراء ومراقبون في المجال ذاته!!
وينص القانون الجديد المعدل لـ( 2018) في بنود إمكانية وقوى، وفقرات فرص إستصدار الصحف على إقتراح مجزوم بأنه، وﻷجل مواجهة التكاليف الباهضة جداً على إقتصاديات المواد الطباعية والحبرية والإنتاجية، فضلاً عن وسائط المعالجة التقنية الحديثة; على الناشرين ومالكي الصحف إدماج صحفهم في تحت مسمي “شركات مساهمة عامة”، الأمر الذي لطالما يبغضه الصحف المستقلة، ويسخطه الصحفيين الأحرار عن الحكومة أو موالاتها والتوبيق لها.. ولطالما مسألةً تنسف وجود “الصحافة المعارضة أو المناهضة للسلطة”..ولطالما قضيةً غير مقبولة بها قانونياً ودستورياً وإجرائياً..
وهكذا بين مطرقة نصوص القانون الجديد وآليات تنفيذها القاهرة لاحقاً، وسندان الإنحسار التوزيعي والإنحصار الإنتاجي جراء الأزمة الأقتصادية الطاحنة على الأحياء والجماد تواجه الصحافة السودانية صراع البقاء; والبقاء للأقوى فالأصلح..وتنازع بعنفٍ شبه قاسٍ أوجه الثبات والصمود والإنوجاد..!
وبالتالي..فهل مزامنةً مع الأيام التوالي.. نسمع على مرأى جهوراً بأن ثمة صحيفةٌ آخرى، بل صحفٌ عِدة سلكت مسار صحيفة “الصحافة” نفسه; فعندئذ تكون إفتراضية “إنموات” الصحافة السودانية واقعاً لابد للجميع معايشته والإعتراف به، بل وإحترامه – ﻷجل إعادة تشكيل جديد لو شاءت الأدمغة ووثقت الأيدي وصدقت الأفواه – ،فضلاً عن لحظتها تحيل الفرضية إلي فرضية آخرى غابرة في التاريخ السحيق وهي هل الصحافة لها وجوداً حقيقياً على وجه( Tuorth On Fantasy)، ولها واقعاً يترأى بالحق والحقيقة أم إن الإمر مجرد وضعية إفتراضية ذهبت – كما هي تُمتهن على وجه الوظيفة لا الفن والعلميّة – برفقة الصيرورة الحتمية لتطور الشخصية الإنسانية، وتقدم آليات بناء حضارتها العقلانية!؟!.
mabakarm28@gmail.com