احمد داوود
باستطاعة اي شخص أن يشتغل بالسياسة ، ولكن هذا لا يجعل منه سياسيا . فالمعيار الحقيقي لأن يكون سياسيا هو بالطبع : مدي قدرته علي ابتكار خطط ، ونظريات تخدم وتعالج القضايا المجتمعية والسياسية.وبهذا قد لا تنطبق تلك المفردة علي معظم المشتغلين بالسياسة في الوقت الراهن.
والسياسي في هذه الحالة -اقرب للمناضل الذي يكافح من اجل شعبه اكثر من السياسي بالمعني المتعارف عليه . وليس بالضرورة أن يكون الشخص سياسيا فقط لأنه عضواً في حزب سياسي أو حتي لحصوله علي منصب تنفيذي في حكومة ما. واذا فعلنا ذلك سنقصي الكثير من المثقفين ، والمشتغلين بالعمل العام من دائرة الفعل السياسي.
وهذا يقودنا الي نقطة هامة للغاية ، ويحيلنا للتساؤل الموضوعي : ما هي الغاية من الاشتغال بالسياسة ؟
الغاية هنا أما أن تكون شخصية ؛كالدفاع عن حق شخصي ،او تحقيق منفعة كالحصول علي منصب أو وظيفة. أو قد تكون عامة كالدفاع عن قضايا مجتمع ما أو النضال ضد الظلم أو حتي المطالبة بحقوق أمة ما.
هل هذا الأمر ينطبق علي المشتغلين بالسياسة الان؟.
في بلادنا _هنالك مئات الأحزاب السياسية ، وملايين الساسة الذين يزعمون التصدي لقضايا الشعب . ولكن بالمعيار السابق هم في الحالة هذه ليسو بساسة اذا ما اعتبرنا الدفاع عن قضايا الانسان هو شرط الاشتغال بالسياسة.السياسة هنا مهنة كغيرها من المهن الاخري، وهي اقصر الطرق لتحقيق الثراء .وليست عملا تطوعيا يهدف إلي مساعدة الآخرين.
ربما كان ذلك بسبب سياسات الأنظمة السابقة التي تخير المشتغل بالسياسة بين الانحياز لمصالحه الخاصة والتمتع بامتيازات السلطة أو الدفاع عن قضايا الآخرين والحرمان من تلك الامتيازات . وبالنسبة لشخص عاني من الحرمان بعد عقود من النضال ضد الظلم سيكون معلوما لدينا أي الخيارين سيتخذ.ولكن ماذا عن الحاضر؟.
رسم دور محدد للسياسي أو حتي المشتغل بالسياسة مع ربط هذا الدور بالامتيازات خلق سياسيا مشوها تهمه مصلحته الشخصية اكثر من مصلحة الشعب ، هذا من جانب ، من جانب آخر فإن ايدلوجيا الحزب التي يعتنقها الشخص تقف عائقا أمام رغبته في خدمة المجتمع . و يبدو ذلك واضحا في حالة الأحزاب التي تنتقل من المعارضة الي ممارسة السلطة .فالشخص الذي ينتمي لتلك الأحزاب عليه أن يدافع عن توجهات حزبه حتي لو كانت تلك التوجهات ضد إرادة الشعب والمجتمع ، و عليه أيضا أن يكون برغماتيا ويغض الطرف عن مساوئ حزبه حفاظا علي مصالحه الذاتية. ويعد بعض أعضاء المجلس السيادي ،قادة التحرير والنخب السياسية انموزجا حقيقا لصورة السياسي المشوه أو حتي للأشخاص الذين يشتغلون بالسياسة من أجل اهداف ومصالح ذاتية.
نيلسون مانديلا علي سبيل المثال عندما ترأس بلاده كان أول قرار اتخذه أن أمر باستقطاع جزء من مرتبه لصالح دعم الشرائح الضعيفة ، فأين ساستنا من ذلك.
الصحيح أن السياسة عمل تطوعي كالكفاح المسلح ، فالشخص الذي ينضم لحزب ما ، أو ينوي الالتحاق بثوار التحرير لا يفعل ذلك لأنه يود أن يصبح في يوما ما وزيرا أو قائدا ، أو لأنه يرغب في الحصول علي المال أو تحقيق أهداف شخصية ، وانما يفعل ذلك لأن الانضمام للحزب أو الالتحاق بثوار التحرير هما الوسيلتين المتاحتان أمامه اذا أراد أن يخدم شعبه. وعندما ينتقل السياسي أو المناضل من خانة المعارض الي الحاكم فإن عملية الانتقال قد تتم عبر تبني قضايا الشعب . وإذا أصبح وزيراً علي سبيل المثال فهو مكلف فقط لأنه جاء عبر الشعب وبالتالي فإن شرط استحقاقه للتكليف يتعلق بتحقيقه للمطالب التي كلف بها.
نفس الأمر ينطبق علي الشرطي ، الموظف والقاضي .فالغاية الحقيقية من استيعاب شخصاً ما بالشرطة أو الجيش هي التزامه بحماية البلاد وحفظ الأمن والاستقرار ، وهو في هذه الحالة مجرد عامل عند الشعب الذي يدفع مرتبه بواسطة الضرائب التي يدفعها للنظام الحاكم. ولا يستحق لفظة شرطي كل من يلتحق بالشرطة بسبب المال، وحتي المرتب المستقطع من مال الشعب هو فقط للحماية من الانحراف.
ذلك هو الصحيح، والذي يجب أن يحدث ، وليس ما نشاهده الآن.فقد أصبح الاشتغال بالسياسة من قبيل تحقيق المصلحة الشخصية.ويكون الشخص سياسيا لان السياسة هي شرط الثراء والشهرة.ولانها أيضا الضامن لمستقبل زاهر.هذا بالطبع يفسر اشتغال العسكر وحتي زعماء القبائل بالسياسة،ف الجنرالات الذين كانوا في الماضي لأ يفقهون سوي لغة العنف والقمع أصبحوا الآن يظهرون اطماعهم السياسية بكل وقاحة .وزعماء القبائل يتراسون أحزابا سياسية.
النظرة البراغماتية للسياسة باعتبارها مهنة أو بوصفها كأداة للتكسب قللت كثيرا من قيمة المشتغل بالسياسة والمناضل الذي كان يدافع عن قضايا المسحوقين والمنبوذين .اصبح هذا المناضل بمنظور المجتمع البسيط مجرد متسلق و انتهازي .واصبحت السياسية أيضا للكثير من الناس مهنة كغيرها من المهن لا تحتاج لأية قواعد أو مبادئ ، فقط القليل من الخبث والكثير من النفاق والخداع.
فلو أن الغاية من الاشتغال بالسياسة هو التكسب لما ظلل د/ جون يقاتل لأكثر من ربع قرن ، ولما ظل مانديلا بالسجن لثلاثين عاما ، ولما هجر جيفارا وطنه ليلتحق بثوار التحرير بكوبا .كان بامكانهم أن يقبروا احلام ومطالب شعوبهم عند اقرب فرصه تسنح لهم.