صحيفة الهامش
الرياضة من الإهتمامات الشعبية التي ما زالت تحتفظ بقوتها كنشاط اجتماعي وشعبي وتهتم كل قبائل الجبال بها وبصورتها التراثية المعبرة عن قيم المجتمع، والرياضة هنا تمثل التسامح والمحبة والتعاون والصداقة ومهما كانت نتائج المنافسات الرياضية فلا يمكن أن يؤدي ذلك إلي مشاجرة بل العكس يعزز ذلك العلاقات بين قبائل ومناطق الجبال المختلفة.
والمناشط الرياضية التي تمارس هنا كثيرة ومتعددة منها الدواس ورياضة السباق أو الجرى والقنيص أو الديبوي والمصارعة ونأخذ المصارعة كنموذج لهذه المناشط الرياضية والفروسية.
والصراع أو المصارعة رياضة محببة لمعظم سكان جبال النوبة، حتي القبائل العربية صارت تمارس هذه الرياضة ولكن مع إختلاف في طريقة لعبتها من منطقة لأخرى، وتعتمد المصارعة كرياضة على المهارة والرشاقة والقوة العضلية والخدعة، ولكل قبيلة أو مجموعة قبلية طريقتها في الممارسة فعند قبيلة النيمانج في شمال الجبال بالإضافة إلي ذلك تعتمد على الضرب، مثل أن يضربك خصمك أو يصفعك على وجهك أو ينثرالتراب ليشغلك وبسهولة يطرحك أرضاً.
بمثل ما تحمل الرياضة من تسامح ومحبة وتعاون فالصراع يحمل نفس المضامين فمهما كانت الظروف لا يؤدى الصُراع إلي مشاجرة.
يبدأ موسم الصُراع منذ ديسمبر متزامناً مع موسم الحصاد عند حضور الصبيان من حظائر الأبقار، والتي يقضون فيها كل زمن الخريف دون الحضور لأهلهم لكن يسمح للأهل بزيارتهم كل ذلك حفاظاً على طاقاتهم الشبابية، وحتى الذين لا يقضون أوقاتهم في الحظائر يقضونها في منازلهم ولكن في حجرات خاصة لا يسمح لهم بمغادرتها لأي سبب من الأسباب مهما تعددت الأعذار.
فترة وجود الشباب بالحظائر تعد فترة إكتشاف وإعداد المصارعين حيث يعد كل حي أو قرية أو قبيلة مصارعها لملاقاة مصارعي الطرف الآخر.
هناك يوم خاص للصُراع يحدد قبل وقت كافي ويقوم الأفراري بدور الإعلام لذاك اليوم يحملون نقارة ورمز كبير الفرسان في الحي ويذهبون إلي فارس الحي أو القبيلة وهي راعي الصُراع، حيث يقوم كل فارس بتحدي زميله ولكل فارس شخص معين يتولي العناية به وتدريبه ويسمى(السباري) أو (الأفراري) ويقوم برش المصارع بالرماد ويعطيه كمية محددة من الماء ويشرف عليه صحياً وغذائياً.
الجدير بالذكر أن قبائل البقارة جميعها تمارس المصارعة وبنفس قوانين المصارعة عند النوبة- بل حتى فرق الأفراري تجدها وبنفس المهام ويشترك البقارة مع قبائل النوبة في حبهم المفرط لهذه الرياضة وهذا ما يؤكد الثقافة والتراث المشترك بين جميع قبائل جبال النوبة.
يقوم سباري المصارع المتحدي بإخطار سباري الذي وجه إليه التحدي يتوعده بأن مصارعه الذي لم يهزم قط سيكون له شأن، وأنه سيهزم صاحبه دون أدني شك ومن الأفضل أن يتعرف به قبل أن ينازله.
عصراً يحضر المصارعون إلي ساحة الصُراع وقبل البداية يدخل المشرف على المصارعة ويخطب في الجمع المحتشد منذراً كل مصارع وكل سباري بعدم المشاجرة وأن يتحلي كل منهم بالروح الرياضة السمحة لأن الصراع رياضة وأن الرياضة جسر للصداقة والمودة.
بعد هذا الحديث ينزل الأشبال لإفتتاح المناسبة بعدهم تتاح الفرصة لمن هم في طريقهم للإحتراف وبعدهم المحترفون وهم أولئك الفرسان الأشداء ذوو العضلات المفتولة الممسحون بالرماد المتحادون وصراعهم صعب جداً وغالباً ما يستمر فترة طويلة دون غالب أو مغلوب.
وللصراع في جبال النوبة قوانينه المنظمة والتي يلتزم بها الجميع مصارعون وسباري ومتفرجون. فالمصارع يعتبر مهزوماً إذا لمس الأرض فاقداً قدرته… وكما أنه لا يسمح للمصارع بأخذ الراحة دون إذن من الحكم إذ أن الحكم هو الذي يوقف الصراع في أي وقت يراه مناسباً حسب خبرته والمصارع المحترف يزاول الصراع لفترات طويلة ومنها يعتزل ويصبح حكماً أو سباري.
ومن صفات المصارع المحترف وعلاماته ومهارته تجده يربط بخسه في مؤخرته تحدياً منه بأنها إذا إنكسرت يعتبر مهزوماً.. أما الرماد الذي يرش به السباري مصارعه ويمسحه به فمهمته ترك المصارع طري الجسم وأملس حتى لا يستطيع الخصم مسكه بسهولة. كما أن هناك بعض المصارعين لا يستعملون الرماد.. تحدياً بمهارتهم وقوتهم.
وللصراع سبر معروف يقام لكل مصارع زاول الصراع مدة طويلة ولم يهزم، وبعد هذا السبر يصبح محترفاً وذلك بعد خوضه خمسة صراعات تنافسية لم يهزم فيها… وبعد هذا السبر يوضع في كشف المحترفين ويشبه هذا السبر التكريم الذي يقام لقدامي الرياضيين في فروع الرياضة المختلفة.
ولرياضة المصارعة في جبال النوبة درجات فهناك صراع يقام في الحي الواحد لإختيار فارس الحي، ويقام صراع بين فرسان الأحياء المختلفة لإختيار فارس القبيلة الذي ينافس في صراع القبائل والأحياء المختلفة.
قد يكون الصراع في حالات التحدي الفردي حيث يجد مصارع زميله ويعطيه فرع شجرة صغير دليلاً على التحدي وأنه يريد منازلته وبذلك يحددان يوماً للصراع ويقوم كل واحد منهما بالإعلام وسط قريته أو قبيلته لحضور تلك المنافسة.
هناك أغاني حماسية تغني أثناء الصراع بعضها يؤديها المصارع نفسه وبعضها السباري وآخري يؤديها الجمهور والمشجعون، وفرق الأفراري.
الكدكة: بفتح الكاف والدال وهي كلمة رطانة نوبية يصطلح بها على مجموعة قدامي المصارعين الذين تركوا المصارعة ولكنهم ظلوا شريحة من المجتمع لهم أعرافهم الخاصة بهم ويتميزون بخفة الدم والروح الفكاهة وإجادة التنكر والتمثيل وإجادة الرقص لدرجة المهارة والولع الشديد بالمصارعة.
وتعرف الكدكة عند العرب بمجتمع(الأفراري) ويقوم الأفراري بنشاط فني كوميدي مصاحب للمصارعة يسمي نشاطهم هذا بالمصارعة ولكن المصارعة هنا غناءً ورقصاً كوميدياً تختلف عن المصارعة التي يقوم بها المصارعون كرياضة ولكنها تكون مصاحبة لها ومكملة.
وعندما تشاهد هؤلاء الكدكة يخيل إليك أنك تشاهد مسرحية كوميدية، والأقنعة ولوازم التنكر من لوازم الكدكة فكرنفالات الفرح التي تشاهدها في الأفلام التسجيلية ينفذها الكدكة بمصاحبة الإيقاعات والغناء والأقنعة التي في جذورها تنمي إلي المجتمعات الأفريقية.
ولأن مجتمع الأفراري مجتمع مفتوح وخليط من أعراق ولهم إتصال بكل قرى الجبال المجاورة وإجادتهم لفن التقليد والتمثيل فهم يجيدون الرقص لدرجة المهارة فالرقص فناً متأصلاً في روح سكان المنطقة.
أكثر من 90% من الأفراري كانوا مصارعين، أما البقية الأخرى فهم أناس لهم شديد بالمصارعة ولكل أفراري مصارع أو مصارعين يكون على وعد معهم يوم المصارعة في القرية أو الجبل المعني حيث يأخذ بخسة بها رماد ويتجه به إلي مكان المنافسة وفي نفس الوقت يأتي المحاربون(المصارعون) من زرائبهم ويلتقون وبعد نهاية المصارعة يعود كل مصارع إلي حيث توجد زريبة بهائمة بينما يستمر الأفراري في تجوالهم، ويبدأ هذا الموسم بعد إنتهاء نظافة الزراعة فبإنتهاء نظافة الزراعة في أكتوبر يسلم الأفراري الجراية لزوجته لتذهب بها إلي البيت، أما هو فيستمر في تجواله إلي أن يبدأ الحصاد فتعمل زوجته نفير وترسل له حيثما كان تفيده بذلك.
والمصارعة (الرقص) هي ربط المصارعة كرياضة بالفن، والمصارعة كرياضة شعبية لها جمهورها العريض ولكن 70% من حفل المصارعة يرتبط بالفن من حيث العرض الذي يقدمه المصارعون والأغاني الحماسية الشجية التي يشترك في أدائها الجميع بما فيهم الأفراري والذين يجيدون كل الرقصات تقريباً لذلك فإن كثيراً ممن يرتادون المصارعة يفضلون حلقات الرقص على مشاهدة المصارعين والمصارعة، إنه كرنفال فني رياضي في آن واحد ولهذه اللعبة أصولها وجذورها التي تمكنها من البقاء والإستمرارية وهذا يمثل في حد ذاته عنصر القوة في الثقافة النوبية.
والمهم عند هذه الشريحة أنها تضم مجموعات من جبال ورطانات وقبائل مختلفة ولكنهم ينسجمون تماماً وأهم ما يميزهم روح الفكاهة، إجادة الرقص، حبهم المفرط للمصارعة، إجادة التنكر والتقليد، إجادة التمثيل، هم المعلنون عن المصارعة خاصة صراع القندول والتحدي والصدقة أو سنوية الميت.
ونظرة المجتمع للكدكة أنهم جزء مكمل لعملية المصارعة فلذلك يتسامح معهم المجتمع وعندما تكون هناك مناسبة كبري يتجمع كدكة من كل الجبال ويبدأون في الرقص والغناء والتمثيل بملابسهم وأقنعتهم التنكرية ويطوفون على الجبل ويدرك أهل الجبل ان بهائمهم خاصة الصغيرة منها كالأغنام والضأن عرضة للذبح وعليهم أن يحفظوها.
أما أي بهيمة يحصل عليها كدكة ويقبضونها لا يحق لصاحبها مقاضاة كدكة لأن نظرة المجتمع لهذه الشريحة أنهم جزء لا يتجزأ من تراثهم وهم جزء مكمل لعملية المصارعة وغالباً ما يتعلق الكدكة على ضحيتهم كأن يقولوا (كف صقر خطف فروج) وبذلك يعرف أهل الحي أو القرية أن ما شيتهم وقعت في أيدي الكدكة… وإذا إكتشفوا أن البهيمة التي خطفوها تخص إمرأة عجوز أعادوها لصاحبتها.. أما في حلبه الصراع يتفرقون يقف كل واحد منهم خلف مصارعة وبعد نهاية المصارعة يعودون إلي حياتهم التنكرية.
عندما يستولي الكدكة على التيوس والخرفان والدجاج في المناسبات يذبحونها ولا يعتبر تصرفهم هذا تصرفهم هذا سرقة إنما هو عُرف أما في غير هذه المناسبات فإن سرق احدهم فإنه يفصل ويبعد من مجتمع الأفراري وفي هذه المناسبات إذا ضبط احدهم في مخالفة أخلاقية يفصل من مجتمع الأفراري لأنهم يريدون أن تكون علاقتهم طيبة بكل الناس.
أداء الكدكة الإستعراضي في شكل جماعة تغني وترقص بأقنعتها التنكرية ويطوفون على كل الجبل أو القرية فيجدون ذبائح من الكرماء، إذا لم يجدوا شيئاً أخذوا ما يجدون أمامهم من أغنام وخراف وغيره بعد صيحتهم الشهيرة والقوية (كف صقر خطف فروج).