الحرب في اقليم دارفور لم تضع اوزارها بعد ومآل الحال يغني عن السؤال، وضنك العيش زاد معدّل تفاقمه بعد زوال الطاغية وبدأت بعض العقول البسيطة التي لا علم لها بتعقيدات السياسةوشئون الحكم، بعقد المقارنات البريئة بين العهدين البائد والقائم، هذه دلالات ونذر شؤم تحيق بمنظومة الحكم الانتقالي التي جاءت بعد ثورة جبّارة اقتلعت واحدة من اعتى دكتاتوريات القرن، ما يضيق به السياسيون ذرعاً بعدما يتسنموا سنام السلطة هو الانصات بتؤدة ومسؤولية لصوت الشارع، وكأنما كتب الله على أهل السودان فصاماً مقيماً بين صوت المواطن واذن الحاكم، وقد بدأ التذمر والتضجر من وزراء الثورة في مواقف كثيرة اصطدم فيها دستوريو الفترة الانتقالية بالمواطنين، عبر ظاهرة مطلبية شعبية جديدة تحاصر المسؤول على حين غفلة منه اطلق عليها الثوار اسم (الفتيل)، كشفت هذه المصائد (الفتايل) الضيق والقلق البادي على وجوه من اعتلوا المناصب بفضل دم الشهيد الصغير المسفوح على قارعة الشارع المنصوب عليه فخ هذا (الفتيل)، فالتوتر الذي يكسي وجوه (حرّاس) الثورة لا ينبيء بخير ويوحي بما لا يحمد عقباه، بدليل أن بعض هؤلاء الوزراء (المفتولين) حاول الهرب من قبضة الشباب الطامح للحياة الكريمة، في هذه المواجهات (الفاتلة) بعد عامين من التغيير.
استبشرنا خيراً باتفاق سلام جوبا وهللنا وكبرنا وفرحنا بأن اللحمة الوطنية لا محال مرتوقة، لكن مأساة الجنينة حوّلت افراحنا الى اتراح وآمالنا الى خيبات، خاصة وأن بروز الاصوات الواصفة لكتاب السلام بالسفر المكرّس للقبلية والجهوية جعلت حكماء السودان يتأنون، لقد علّمتنا تجارب حروب جنوب السودان أن الاتفاقيات الجزئية لن تحل المشكلة، فدخول مشار للقصر في ذلك الزمان لم يغلق فوهة بندقية قرنق ومهادنة مناوي للبشير لم تسكتقعقعات مدفعية خليل، وها هو التاريخ يعيد نفسه اليوم في الجنينة دار اندوكة التي قضّت مضاجع المستوزرين الوالجين لباب السلطةعبر بوابة جوبا، فهل يا ترى من يكون قرنق القادم من الغرب الذي يؤلف بين قلوب سكان الاقليم ليمنحوه صكاً مقدساً ويتقبلوه قائداً ملهماً حائزاً على قلوب الملايين من اعرابهم واعاجمهم، مثلما حاز الدينكاوي ابن بور العظيم على اصوات النوير والشلك والباريا واللاتوكا والبلندا والكريش، السلام والامن والاستقرار لن يتحقق في السودان بينما هنالك عضو من جسده يشكو ويئن، فالتنمية المستدامة غير ممكنة مع ديمومة آلام هذا الصداع النصفي المزمن.
الحكومات السابقات اسقطها شح الخبز وانعدام المحروقات وقطوعات الكهرباء، والحكومات الحاضرات والقادمات لن تكون باحسن حال من سابقاتها، ولا باوفر حظ من البائدات اذا لم تفي بحاجات البطون من مأكل ومشرب ودواء، فالمواطنون لا يستطعمون حديثاً منمقاً يتداوله المترفون في برنامج (حوار البناء الوطني)، والأسئلة الحائرة والدائرة غير المجاب عليها مثل: أين ذهبت الأموال المستردة بآلية ازالة التمكين؟ وأين هي مردودات اعفاءات الدين العالمي على الخزينة العامة؟ وأين تلك المساعدات المعلن عنها من قبل المانحين في المؤتمرات والفعاليات الاقتصادية، التي حضرها دستوريو الانتقال منذ اقتلاع عرش الطاغية؟، كلها اسئلة حائرة ودائرة تنتظر الرد الشافي والكافي من رئيس الوزراء ووزير ماليته وديوان المراجع العام، وبما أن المراجع العام هو الممسك بالمقياس الدقيق والتيرمومتر المحكم الذي لا يخيب في تحديد صدقية مقصد موظفي حكومة الثورة، عليه تقديم تقريره السنوي الخاص بعام عشرين عشرين ليبين للناس مدى نزاهة من تعهدوهم واستأمنوهم واوكلوا اليهم عهدة وامانة المال العام.
ليستقيم ظل عود الحكومة المعوج حتى تخرج من مهددات الانتقال، لا مناص لها من ترك الحجة الواهية والشماعة اليومية التي تعلق عليها الفشل، (الدولة العميقة) – هذه المفردة المملة والمكرورة التي ازعجت الناس وصكّت الآذان، السلام الشامل الذي لا يستثني احد هو الركن الاول في انقاذ مرحلة الانتقال مع مراجعة الوثيقتين (جوبا والدستورية)، و اشراك لون الطيف الواسع من المكونات الوطنية في تسيير دولاب الانتقال وتدارك خطل الانغلاق والتمحور حول الشلليات والدوائر الاجتماعية والسياسية الضيقة، زد على ذلك الحل العاجل لازمات الدواء والمحروقات والخبز وخدمات التيار الكهربائي، وهنا يكون وزير المالية هو رأس الرمح الذي تسدد به الحكومة الطعنات النجلاء في جسد غول الفقر والفاقة والعوذ، وعليه يعقد الأمل في العبور الحمدوكي المأمول، وهو الحصان الأبيض الذي يعتلي صهوته فارس الثورة الديسمبرية المجيدة، اذا صلح هذا الحصان صلح جسد الحكم الانتقالي وضمن الناس العبور، اما ان اخفق فما هو الا ثقب اسود قَد قُد اسفل سفينة الانتقال وأنه لا محال مغرقها في مدلهمات خطوب هذا البحر اللجي المتدافعة امواجه باوجاع الفقر ونذر الحرب.
اسماعيل عبد الله