بقلم. مصعب عبدالكريم
قبل شهرين من الان كان الشعب السوداني كله في صدمة عميقة و مع احباط كبير و كانت مليشيا الدعم السريع في قمة اسطورتها الزائفة و تسيطر عليها الغرور و نشوة الانتصارات الغير المسبوقة التي حظيت بها بفضل هروب الجيش من الجزيرة و جنوب دارفور و وسط دارفور و غرب دارفور و شرق دارفور في غصون ايام فقط، و كانت هذه المليشيا تطمح بإجتياح جنوب كردفان و غرب كردفان و سنار و القضارف في آن واحد و بل كان علي قاب قوسين او ادني من دخول شندي لانها فعليا دخلت مشارف شندي و اصبحت تتحرش بأهلها و كما كانت تخطط لحصار بورتسودان من كل النواحي كخطة “أ” اذا نجحت في احتياج المناطق المذكورة و كان قيادات المليشيا بدارفور تهدد بدخول الفاشر للسيطرة علي دارفور كاملا لقيام دولتهم علي النموذج الليبي كخطة “ب” اذا فشلت الخطة الاولي بالوصول الي بورتسودان و ليس هذا بحسب بل كانت العقول المفكرة لهذه المليشيا بدأت تروج لبعض المصطلحات الغريبة مثل المؤسس و الأمير حميدتي و اخري مثل دولة العطاوة و الجمهورية الثانية و غيرها من الامور التي كانت تشئ بهوس تأسيسي لهندسة دولة جديدة غير السودان علي انقاض و جماجم السودانيين و ركام دولة 56 من بنات افكار مليشيا إل دقلو!
في تلك الاثناء تيقن الكثير من المتابعيين تماما ما لم تتدخل الحركات المسلحة الملعب بصورة فاعلة ستقلب هذه المليشيا اللعبة علي الجيش المتهالك الذي فشل في مهمته تماما و انهياره الكامل بات قريب و بذلك ستصل المليشيا الي بورتسودان و وقوع السودان بكاملها في ايدي حميدتي و اخيه و هو سيناريوا يعتبر كابوسا للجميع في الداخل و الخارج اذا تخلينا بوقوع السودان برمتها في ايدي مليشيا وحشية و بربرية مثل الدعم السريع لا تنظمها قانون و لا تضبطها اي قيم او أعراف انسانية ولا عقيدة قتالية لها عدا اطماعها التوسعية للنهب و الصلب و البطش و القتل و الاغتصاب النساء و دفن البشر احياء و غيرها من الممارسات اللإنسانية التي ارتكبتها المليشيا بأبشي أشكالها ضد المواطنيين في كل المناطق التي تسيطر من إقليم دارفور و كردفان و الخرطوم الي الجزيرة.
و أمام هذه الحيثيات الأمنية و السياسية المفصلية أعلنت عدد من الحركات المسلحة المؤثرة في الساحة الميدانية فك حيادها تماما و إنخراطها في المعارك ضد مليشيا الدعم السريع في جميع الجبهات لردع المليشيا و وقف تمددها و حماية المدنيين.
كان اولوية الفاعلين العسكريين هو وقف الزحف الاسطوري للمليشيا و تمددها شرقا و شمالا و جنوبا و كمرحلة اولي ثم ردعها لاحقا و هذه كانت مهمة مستحيلة بنسبة للجيش السوداني التي اثبت فشله للتصدي ضد المليشيا في كل الولايات التي انسحبت منها بالتالي كان الدور علي الحركات المسلحة للقيام باللعبة التي تجيدها جيداً لذلك ارتكزت متحركات القوات المشتركة للحركات في مناطق استراتيجية عبارة عن خطوط مدرجة ضمن اهداف المليشيا للتمدد عبرها شرقا نحو القضارف من الجزيرة و جنوب الي سنار و النيل الأزرق و شمال نحو شندي منها الي الشمالية. في القضارف تم طرد المليشيا من الفاو التي شارفت لدخولها و في ولاية سنار التي دخلت المليشيا في طخومها تم إخمادها زحفها لتهرب الي قري الجزيرة الآمنة و في جنوب كردفان حظيت بهزيمة كبير بدلنج بفضل تدخل حركة مسلحة معروفة و الاهم لولا ارتكاز المتحرك الاكبر من الحركات المسلحة في مشارف شندي بقيادة الجنرال (ع ن) لدخلت المليشا الي شندي الان و عبرت شمالا لحصار بورتسودان من الشمال و الغرب كما كانت تخطط بالتالي انكسرت الشوكة الهجومية للمليشيا تماما من خلال هذه الارتكازات الاستراتيجية للحركات المسلحة.
كمرحلة ثانية بعد اخماد تمدد المليشيا و شوكتها الهجومية بصور محترفة من كل النواحي، انطلقت القوات المشتركة نحو امدرمان لفك حصار الجيش في المهندسين التي حوصرت فيها لعشرة شهور و بالفعل عناصر بسيطة من القوات المشتركة استطاعت فك الحصار في ساعات و تنفست الجيش الصعداء و خرجت من المهندسين لأول مرة بعد عشرة شهور من الحصار و تم طرد المليشيا من كافة المناطق المحيطة بالمهندسين امدرمان القديمة و منها انطلقت عناصر من الجيش و القوات المشتركة لحصار بقايا المليشيا في مقر الإذاعة و انتهت بالقضاء عليهم و تحرير الإذاعة بالأمس.
من خلال هذه الوتيرة المتصارعة في تغير التوازنات العسكرية في المشهد الأمني بعد دخول الحركات المسلحة التي تمتاز بتجربة عسكرية فريدة الي الملعب العملياتي بنفس مدرسة حرب العصابات التي تجيدها مليشيا الدعم السريع ولا تجهلها الجيش السوداني، ربما بدأت العد العكسي للحرب لنهايتها بكل السناريوهات اما طريق التفاوض وفق شروط إعلان جدة بالخروج الكامل من المدن و بيوت المواطنين و الدخول في معسكرات التجميع و الموافقة علي الدمج الكامل لتكوين جيش وطني واحد من الجيش و الحركات المسلحة و بقايا الدعم السريع بعقيدة قتالية وطنية او ستستمرالحرب نحو نهاية امنية لتفكيك المليشيا عسكريا لان تركيبة المليشيا المكونة من مرتزقة عابرة للقارات و عدم وجود مشروع او عقيدة قتالية تجمعها هذه لا تؤهلها للاستمرار في تحمل هذا الضغط العسكري الكبير مثل ما كان الوضع عليها عند الحركات المسلحةالتي حاربت لفترات طويلة من اجل القضايا المشروعة من الغابات و الصحاري و الوديان و بإمكانيات ذاتية و ليس من بيوت الناس و مؤسسات الدولة الوزارية و الاعلامية التي اختفت بداخلها المليشيا لعشرة شهور بفضل وجودها بداخلها حتي قبل اشتعال الحرب بحكم انها مليشيا دولة بالاساس، و من أتي من النيجر و مالي و افريقيا الوسطي من أجل النهب و الغنائم سوف لن يضحي بحياته دفاعا عن وجوده في منزل مواطن في الجزيرة او الخرطوم او نيالا بالتالي كلما زاد الضغط العسكري ستهرب كل المرتزقة الي بلادهم اما السودانيين منهم ربما سيضعوا السلاح خاصة بعد هروب قياداتهم الي الإمارات العربية المتحدة و انكماش الدعم اللوجستي التي كانت تأتي من دول الجوار و الخسائر الكبيرة التي منيت بها المليشيا مؤخراً و فجأة اختفت تلك المصطلحات الغريبة علي شاكلة المؤسس و الأمير حميدتي و ولي العهد عبدالرحيم و الجمهورية الثانية من الفضاء العام كما ظهرت فجأة.
ولكن!
و لكن السؤال المهم ثم ماذا بعد؟ هل الفاعلين السياسيين مستعدين لليوم التالي للحرب بغض النظر عن شكلية النهاية؟ هل البديل السلمي جاهز لتأسيس فترة انتقالية مستقرة و سليمة من كل شوائب التجارب السابقة؟
برأي يجب أن لا ينتظر الفاعلين السياسيين من الحركات و القوي السياسية نهاية الحرب لوضع البديل السلمي لما بعد الحرب، الان هو انسب وقت للترتيب لذلك شريطة ان تتجرد القوي السياسية من انانيتها و تعلقها بالمليشيا و بشرط أن تكون ذلك مشروع وطني يشارك في وضعه كل الاحزاب و الحركات عدا حزب المؤتمر الوطني المحلول بأمر القانون، و بنفس الوتيرة التي تقود بها العسكريين لقيادة معركة تحرير السودان من الاوباش يجب أن تجلس الساسة للقيام بدورهم لرسم الخارطة السياسية نحو وضع بديل السلمي المدني الديمقراطي، و الذين يحاربون الان سينالون شرف تحرير الوطن من اكبر نكبة تاريخية بعد نظام البشير ولكنهم غير مخولين لصنع البديل السلمي و ليست من صلاحياتهم تأسيس نظام دولة أو إعادة اعمار و تحقيق العدالة و بناء المؤسسات و وضع الدستور و تنظيم الانتخابات هذه أمور سياسية تتطلب حوار سوداني سوداني بين المكونات السياسية لحسمها توافقيا و من الاستعداد لسماع صوت اخر طلقة في المعركة.
و اكبر هدية يمكن أن تقدمها الساسة للفاعلين العسكريين في نهاية الحرب هو إيجاد المشروع الوطني التي ينقصه السودان منذ الاستقلال، بتوافق سياسي معقول يكون اساس متين لبناء دولة مؤسسات ديمقراطية من ضمنها مؤسسة عسكرية محترمة و قوية تقوم بواجبها تجاه المواطن و الوطن و تجاه من يلبس زيها الرسمي (الكاكي) و عقيدتها هي حماية المواطن و الدفاع عن ترابه.
لذلك الحرب ستنتهي غدا أو بعده بصورة مفاجأة كما سقطت نظام البشير، و لكن ستعيدنا عقارب الساعة الي المربع الأول ما لم تكون هنالك بديل وطني ديمقراطي متوافق عليه سياسيا اجتماعيا لتأسيس فترة انتقالية سليمة و تؤسس لديمقراطية راسخة بعد الفترة الانتقالية من الان.
و نواصل !