السيــاق الآخــر
محمد ابكر
وتلاميذ السودان أثناء تلقينهم التعليمي يبكون مُر البكــاء جراء الجوع، وعدم تناولهم لوجبة الإفطار لطالما يقاسون الحاجة المركبة – بالمرارة والبؤس – الفقر المدقع والأمية الظلومة، رغم ما يزخر به السودان من ثروات غذائية وموارد معدنية وخيرات غابية وغازية، الشئ الذي يستبعد عنها الإنضاب والإنفاد لأزمنةٍ طوال..!
قد لا يجادل إثنان حيال الذهول المغلف ببوادر الصدمة، الذي إستشاط العقول والحواس جراء ذلك التحقيق الجرئ، والذي قامت به الصحفية( لبنى عبد الله) بصحيفة الجريدة، صوت المواطن الأول.. ولطالما معطيات ذلك الذهول شبه معروفة عند الجميع، وشبه مألوفةً جداً لدي متابعي سيرورة الراهن السوداني – السياسي والإقتصادي – الحاقل عن محددات الحياة المستحقة، والعيش الكريم..!
وحيث تحت هذا العنوان العريض ((750) تلميذاً لا يحصلون على إفطار بمدارس الصفوة أم درمان) يؤكد التحقيق أن تلك المدرسة – كما جميع رفيقاتها بالسودان سواء بالمركز أو الهامش – تعاني المعانأة المريرة من ” … تردئ الوضع البيئي بمدارس مرحلة الأساس( وبلا إستثناء مدارس الثانوية والجامعات حتى)، واكتظاظ الفصول بالتلاميذ، وانعدام مراوح التهوية، والإفتقار المعدم لخدمة الكهرباء والماء، بجانب افتقارها لمقاعد الإجلاس; حيث توجد بمدرسة الصفوة الأساسية بنات بمربع (4) نحو (900) تلميذة مقابل (90) كنبة لا غير مع عدم وجود مصدر نقي لمياه الشرب، في وقت لا يتناول (750) تلميذ وتلميذة وجبة الإفطار يومياً بسبب الفقر”..!
كل هذا لا يعني غير أن التلميذ السوداني – ناشئ المستقبل الأخضر المنتظر – قد يذوق طعم الفقر المركُب شبيه مذاق الحنظل; حيث يعايش الأمرّين – عن لا وعي وإداك كبيرين – التدجين التعليمي مقروناً بإعادة صياغة الذاكرة من جديد، والعوز الإقتصادي القاتل، الأمر الذي يؤدي إلي تذريف الدموع عن الجوع والحاجة كما أظهرهما تحقيق مدرسة(الصفوة) الأخير..
وهكذا تظهر معطيات القضية القاسية..وذلك فضلاً عن الإفتقار شبه الكامل للوازم الهواء النقي، علاوةً على إنعدام المصادر الصحية للماء الجيد، والإنعدام الأليم عن مقاعد الإجلاس، بالإضافة لعدمية توفر خدمة الكهرباء فوق الإكتناظ شبه الأسطوري للفصول بالتلاميذ/التلميذات مختلفي الأعمار والحاجات والأهواء والدوافع!!
إنه ﻷمرٍ مقزز ومقرف بشدة أن تذق عن رغم أنفك (الفقر المركّب: الجوع قهراً، والمسخ العقلي تعسفياً)، وأنت في مستهل مشوارك العمري، ولطالما أنت في بداية الأحلام الوردية، والأهداف المؤجلة، والرغبات العاجلة، والنظرة البريئة..; حيث حقاً كيف يستقيم عدد (900)تلميذة مقابل (90) مقعداً لا غير، فضلاً عن أن عدد (900) منهن لا يتناولن عدد (750) وجبة الإفطار كشفاً عن تصريح لمديرة المدرسة قسم البنات نعمات إسماعيل!؟
وبينما – طبقاً لمدير قسم الأولاد للمدرسة نفسها عصام علي – ” … أن مجموعة كبيرة منهم لا تملك ثمن وجبة الإفطار”، ويوضح قائلاً للتحقيق:” أن التلاميذ الذين يحضرون من الصفوف الصغيرة للشكوى من الجوع يبلغ عددهم نحو (250) تلميذاً…”!!
إنه لتحقيقٍ مثيراً حقاً عن قضيةٍ مثيرةٍ ومهمةً جداً لطالما كل القضايا التي تخص البلاد أنها مستدعيةً للصدمة والذهول لحظة كشف حقائقها، والتحقيق عنها، وتحليل معطيات تشكيلها..ولطالما تعوّد المواطن السوداني العادي على السكوت، وإسكان الصمت والغضب الكتوم..ولطالما كل القضايا السودانية كثيرة الإثارة والإهتمام والرعاية في حدِّ ذاتها غير التحقيق فيها، والكشف عنها، والتحليل لها، والنقد عليها!!
أنها لهي الصورة الأوضح قاتمةً والمغلفة بالسكوت والحصانة لأحد أهم المناطق السكنية النموذجية بالنسبة لصندوق الإسكان بولاية الخرطوم، وهي مدينة(الصفوة )..ولطالما أزدحمت أرقام (القطط السمان)، و(التماسيح الكبار) بالإتصال إلي من هنا وهناك جراء حقائق ذلك التحقيق الذي حتماً – كما يعلمون جيداً – سيؤدي بهم إلي المحاسبة(الداخلية تمثيلاً)، وكشف الصورة العارية للمنطقة، فضلاً عن توافر فرص إقحامهم في مقابع التورد في حالات الفساد والإفساد وتحرى الإنفساد..ولطالما -كما بالفعل – خرج للعلن بعضهم ينفون معلومات ذلك التحقيق ويحرون تكذيب ومبالغة تلك البيانات الإعلامية الخطيرة التحقيق فيها، والمثيرة الكشف عنها للعوام..!
وهكذا يظل أمر كشف حقائق القضايا الكبرى والمهمة – في السودان وفي ظل حكومة المؤتمر اللاوطني – والتحقيق فيها من أهم المحظورات الخطرة جداً تناولها بالإخبار، ومن أكبر الممنوعات التي على الصحفيين – حسب إعتقاد مسؤولي الحكومة ونصوص قوانينهم القمعية – تجنبها وإبعاد أنفسهم من حشرها فيها…لطالما أنها أُم جوانب الضمير اليقظ للإعلام، والصوت العالي لوجودية الصحافة وممارستها كمهنة وعلم وفن..ولطالما يبقي أمر النظام التعليم وإجراء التحقيقات الإستقصائية فيه من جواهر الأمور الضرورية الواجبة تناولها إعلامياً بالجهور..، وسبر أعمق أغواره لطالما يتعلق ببناء الإنسان ومساعدته في سبيل تقدمه وتطويره، وخلق حضارته الإنسانية الكونية..
وفي السياق ذاته لا ضير – حسب من جاء في الأنباء – في أن يدلى المدير العام لديوان الزكاة د.محمد عبد الرازق “عن تسرب أعداد كبيرة من (تلاميذ) مرحلة الأساس نتيجةً لعدم حصولهم على وجبة الإفطار!..ولا غرو كذلك أن تكشف “لجنة مشتركة – في إجتماع لها – من بنك الطعام ووزارة الرعاية الاجتماعية ووزارات التربية بالولايات عن وجود أكثر من مليون تلميذ وتلميذة بمرحلة الأساس فقراء ; يحتاجون إلى وجبة الإفطار يومياً.. وتكفل ديوان الزكاة في ذلك الاجتماع بدفع مبلغ (6) ملايين جنيه لتوفير وجبة الإفطار بالمدارس”..!
وهكذا..بيد أن منظمة (بنك الطعام) نفسها في صفحتها الترويجية ظلت تردد هذه العبارة: (يوجد أكثر من مليون تلميذ وتلميذة في مرحلة الأساس فقراء يحتاجون إلى وجبة الإفطار يومياً).. وذلك تبعاً لما خلص إليه مسح اجتماعي حديث نفذته المنظمة بالتعاون مع بعض الجهات العاملة في الحقل الاجتماعي..وتؤكد -طبقاً لإحصاءاتها المسحية – أنّ “حجم المستفيدين من برامج تقديم الوجبات الرامية إلى إنهاء الجوع قفز إلى (49%) خلال العام الحالي، مقارنة بـ(38%) في العام المنصرم..
وهكذا قد يعاني التلميذ السوداني كثيراً جراء وجود “النظام” التدجيني السائد، وفي ظل وجود الحكومة المتسلطة الحالية..والأنكى فيه أنه قد يقاسي إفتقار النظام التعليمي إلي المواد الدسمة للتغذية العقلانية والفكرية المطلوبة ،والمغلف بخطط التدجين والمسخ المخي، وطمس ذاكرة الأجيال وإعادة تشكليها مجدداً حسب إرادة ورغبة وخطة النظام والحكومة القامعان والقاهران بشدة مرارة البؤس والعوز القاتل من جهة، والمعانأة المريرة من الفقر الإقتصادي الذي يسكن تحت ظلاله الهجيرية كل حواس وإحساس المجتمع..إنه للفقر المركّب الذي يبكي طالبي العلم والتحصيل المعرفي; حيث الجوع والبؤس جانباً والمسخ التعليمي لأدمغة الناشئة وتدجينها وإعادة صياغتها حسب الرغبة والمصلحة والمشروع المخطط له من جانب غير!!.
mabakarm28@gmail.com