الشاعر الكبير محمد مفتاح القيتوري عليه رحمة الله انجبته هذه المدينة الخضراء الجملية الوادعة،
ماذا سيقول لو أنه بعث من مرقده اليوم ورأى هذه الارض الولود مغطاة بالدماء الحمراء؟، لو انسل من بين الاجداث لرثى مدينة الحدائق الغناء بانبل القصائد ولبكى وتمرغ في ترابها حتى رأف بحاله الطفل الوليد، المدينة التي كانت مطلباً اولياً لموظفي الخدمة المدنية في التنقلات،
وذلك لما لها من سحر للحياة فريد، الجنينة مثلها مثل مدن وسط وغرب وجنوب دارفور تتمتع بمناخ السافنا الغنية الذي ينقص بضع درجات عن مناخ خط الاستواء، وهي على نسق رصيفاتها زالنجي ونيالا وكاس اذ لا يخلو جوها من السحب الزرقاء الداكنة والمتراكمة، ولا ينقص اسواقها الفواكه
المتنوعة والخضروات الوفيرة واللحوم البيضاء والحمراء المشوية والطازجة، جلعها رب الكون دوحة ظليلة يهب تحتها الهواء الدعاش والنسيم العليل الذي يشفي الروح العليلة، صديقي في الطفولة الباكرة عمل والده باحدى المؤسسات الحكومية لهذه الواحة الظليلة، مازالت حكاياته البريئة
التي يتحفنا بها عن هذه المدينة الباذخة عالقة بادمغتنا ونحن ما نزال بالصف السادس الابتدائي، الجنينة تعني البستان المزدحم باشجار المانجو والبرتقال واليوسفي والموز والجوافة.
العقوقون من ابنائها في بلاد المهجر البعيدة ودول الاغتراب القريبة يشحذون الهمم للتسليح
والتجييش العنصري، وهم يرفلون تحت نعيم الدولار والاسترليني واليورو والريال والدرهم والدينار، اما كفاكم يا هؤلاء سيل الدماء الذي ملأ وادي (كجا) هذا المارد الذي اذا امتلأ بمياه الحياة خريفاً سمع خريره وشخيره كل سكان المدينة، لماذا لا تجمعون الاموال لتشييد المدارس
والمستشفيات والمخابز؟، ما هذه اللعنة الابليسية التي حلت بسكان المدينة الفاتنة الملهمة للشاعر والفنان؟، الابناء غير البررة لا يصمدون ايام الشدائد فتراهم يهربون ويلوذون بالهجرات البعيدة، الرسالة التي من الواجب ان تصل الى آذان هؤلاء الابناء الفجرة هي أن اصمتوا
واركنوا الى مخابئكم الباردة واتركوا اهل الجنينة عربهم وعجمهم يفعلون ما يشاؤون، ما اضر بقضايا الاوطان الا نافخي كير الفتنة المتحكمين عليها من بعد، اتركوا الجنينة ما تركتكم ودعوا عنكم العنتريات الجوفاء فانتم لستم بأهل (للدواس)، الذي يريد ان يخوض غمار هذه الحرب
الحمقاء واللعينة فليترجل من سيارته الفارهة وليفارق حياة الفلل الراقية، وليغادر كندا وبريطانيا وامريكا ويأتي للجنينة وليدع نواح الحسان في خدور العذارى.
الجنينة ليست وطن للقبيلة ولا دار للعشيرة ولا مكان لتصفية الخصومات العرقية، هي مدينة تحمل
كل ملامح المدن السودانية العريقة وبها الاحياء التقليدية لمدن السودان الكبير، بها الموظفون القادمون من كل بقاع المعمورة ويقطنها الاسود والابيض والعبرة بالمدنية لا بالرجعية والانتكاس باتجاه القبيل والعشير، الاصوات التي علت هذه الايام بتحوير الحضر ليرتد نحو التريف
لن تصمد لأن الفطرة السوية لا تساند هذا الادعاء الأخرق، وعلى اندية الشباب والرياضيين والفنانيين التشكليين والموسيقيين والمطربين ان تقول كلمتها، لأن الصراع الذي يدور في الجنينة ليس الا انعكاس مباشر للعداء المستحكم بين الجهل والحكمة، وامتداد طبيعي لجدلية شيخ
العرب وكلب المدينة وانكشاف وافتضاح لنوايا من يريدون قتل الجمال ونحر هذه الناقة الملبنة من جيدها الطويل، اقفلوا واوصدوا الابواب في وجه الذين ارواحهم خالية من الجمال – والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئا جميلا – فلن يغني عن عروس الغرب هؤلاء المخربون
شيئا لأن نفوسهم جبلت على سفك الدماء، فالذئب لا يمكن استئناسه ولو انهمرت دموعه على جلد الحمل الوديع والغزال البريء.
الشبه اوجهه بائنة بين مدينتي نيالا والجنينة والناظر لادهاش الخضرة والتفافات الواديين (برلي)
و(كجا)، من نافذة الطائرة البوينج وهي تحلق فوق سماء المدينتين يرى تجليات قدرة المهندس الاعظم في رسم اللوحتين، (نيالا) مفردة من مفردات لغة (الداجو) اصحاب المملكة السابقة تاريخياً لمملكة التنجر والاكثر سبقاً لسلطنة الفور، وتعني (حجر المَسَن) اي (المبرد) الذي
تسن عليه رماح المقاتلين التابعين للملكة، اليوم نيالا تمثل العاصمة الاقتصادية لاقليم دارفور وثاني اكبر المدن السودانية بعد العاصمة، لا يستطيع الداجو القول بأن نيالا لهم وحدهم وعلى الاغيار الخروج نهائياً وبلا عودة، لأنه حينها سيقف الشايقي قبل الداجاوي في الدفاع
عن وجوده على ارض هذه المدينة السودانية، على سكان داراندوكا الوقوف صفاً واحداً ضد من يريد ان يفرق جمعهم شيعاً وعصبيات، عدو الجنينة ليس هو المسلاتي ولا الراحل الرعوي وانما هو ذلك الشيطان الكاره للحياة والراغب في الموت والدمار، الذي تجده متسللاً داخل كل مكونات
المجتمع السوداني العريض، هناك من جبلت نفسه على حب الموت وكراهية الحياة وشوهت دواخله بدوافع سفك الدماء وحرق الزرع وتجفيف الضرع، فاحذروا يا شابات وشباب دار اندوكا من المراة التي تجفف الضرع ومن الرجل الذي يحرق الزرع، وهما موجودان في كل الملل والنحل دون استثناء
لقبيل ولا عشير.
اسماعيل عبد الله