الجنينة هذه المدينة الوارفة لم تهنأ ببشريات السلام المزعوم ولم تقطف ثمار الثورة الديسمبرية العظيمة، قدرها التعيس جعلها تغرق في بحيرة من الدماء منذ اليوم الأول لزوال الطاغية، اختلط فيها الحابلون بالنابلين وصارت الفوضى سمة من سماتها البارزة، كلما ذكر اسمها طافت بالخيال صور الجثث المشتتة على ميادينها، امسى صوت السلاح وقعقعة المدفعية الثقيلة هو الاكثر ذيوعاً من تكبيرات المؤذنين في مساجدها المشهورة باقامة الصلوات منذ ماقبل عصر السلطان بحر الدين، تحولت هذه الدوحة المخضرة والمخترقة بوادي كجا العملاق الى مأتم كبير للحزن المقيم، من يتصور ان ملهمة الشاعر الافريقي العظيم محمد مفتاح الفيتوري ستتحول يوما ما الى ركام من الاجساد المسمومة ببارود الغدر والسياسة؟، لماذا يختار القدر اجمل ديار الله لتكون ارضاً لمعارك السفهاء والجهلاء واللصوص؟، عندما ترنو بنظرك نحو البؤر التي اشتعلت حروباً دامية لم تبقي ولم تذر حول المعمورة، لا ترى غير الخضرة والمياه العذبة المنجرفة سلسبيلاً نقياً يستلذ به الشاربون، كشمير وسريلانكا وفيتنام ورواندا وجنوب السودان، كلها تمثل وجهاً آخراً لمدينة الجنينة الخضراء.
الأمن الداخلي تقع مسؤوليته المباشرة على وزارة الداخلية، وكل ما يتعلق بتوفير الحماية للمدنيين في الجنينة وبورتسودان وحلفا وكادقلي لا يخرج من اوجب الواجبات الواقعة على كتف وزير الداخلية المزينة بالنجوم والصقور الفضية اللامعة، لا تبرير ولا مناص لك ولا مهرب يا سعادة الوزير من تحمل هذا العبء الذي هو من اولى اولويات الثورة التي اتت بك لهذا الموقع الحساس، التبريرات التي يقدمها بعض انصاف الصحفيين المعتادين على مسح جوخ الحاكم لا تتسق مع الدور المتخصص الذي يجب ان تقوم به الوزارة المختصة، فجهاز الشرطة مسؤول مسؤولية مباشرة من تعرض اي مواطن اعزل للاعتداء والترويع، ولرجال الشرطة حق الدفاع الشرعي اذا ما هوجموا من قبل مسلحين منفلتين يستبيحون دماء الابرياء، هذه الوزارة المحورية المنوط بها تحقيق الركن الثاني من شعار الثورة (سلام)، لا ينحصر واجبها الأمني والثوري على مدينة الخرطوم وحدها، بل على وزيرها أن يطلب من حكومته التسهيلات اللوجستية والمؤن والذخائر لخلق هيبة للدولة بالجنينة،وان يستعين بما خولته له الوثيقة الدستورية من صلاحيات لبسط الأمن الشامل في ربوع مدن وارياف البلاد، لابد من وجود فاعل للشرطة السودانية في مثل هذه الاحداث المؤلمة والمحزنة والمهملة.
الحديث عن دور قوات شركاء السلام في حسم فوضى الهرج والمرج والقتل المجاني لا دستور يسنده، لأن الحكومة الانتقالية لم تقم حتى هذه اللحظة بتكوين هذه القوة المشتركة من الشرطة والجيش وجنود الحركات المسلحة، لذلك اي حديث عن دور لقوات شركاء السلام في فض النزاعات وحماية المواطنين لا يرتكز على ارضية دستورية، على الاقل حتى الآن، بما في ذلك حديث مستشار رئيس حركة العدل والمساواة في الفاشر قبل اسبوع، وهو الحديث الذي قال فيه انهم لن ياخذوا اذن من احد في حسم التفلتات الامنية، مثل هذا التصريح يجب ان يستوضح فيه هذا المستشار الذي كان يشغل رتبة شرطية عليا في النظام البائد قبيل المفاصلة الشهيرة بين البائدين، ان اي محاولة من قوات الحركات الموقعة على اتفاق سلام جوبا للجم المتفلتين قبل تكوين القوة المشتركة، ما هو الا صب للبنزين في النار المشتعلة في الجنينة والمتوقع اشتعالها في جنوب دارفور، وكما يعلم المراقبون ان المحاصصة القبلية لاتفاق جوبا هي ما ادى لايلولة الامور الى هذا المآل المؤسف، ونعيد لنكرر أن أمن المدن يقع في دائرة اختصاص وزارة الداخلية وحدها.
كل ما حدث ويحدث من تفلتات امنية وموت مجاني منذ الثاني عشر من ابريل الفان وعشرون، لامناص لمجلسي السيادة والوزراء منه على الاطلاق، ولا يمكن ان تخرج المسؤولية الدستوريةوالسياسية من اطار هذين المجلسين، بل وعلينا التأكيد على أن الوزارة الرئيسة القائمة على ضرورة وضع حد لهذه الفوضى الغير اخلاقية هي الداخلية، ومن ثم ياتي دور وزارة الدفاع اذا صدق حديث والي غرب دارفور من أن مسلحين عبروا الحدود السودانية التشادية وشاركوا في قتل المواطنين، فهنا يتحول محور الاختصاص الى وزارة الدفاع وقواتها المسلحة الحامية لحمى الوطن من المتسللين والمتربصين، فكما حشدت قواتنا المسلحة جيشها العرمرم على تخوم الفشقة بحدودنا الشرقية عليها كذلك فعل الشيء نفسه مع الحدود الغربية، فالوطن لا يجزأ والنظرة اليه من خلال نظارات ضباط جيشنا الوطني الغيور يجب ان تغطي كل ارجائه، وعلى اعلامنا القومي ان يهتم لمآسي الاطراف البعيدة كاهتمامه باحزان الخرطوم عندما ضاقت ذرعاً لمجرد الوجود السلمي لقوات شركاء السلام بارضها الحلوب، فبينما الجنينة تموت وتحتضر امام مرأى ومسمع العالم كله تنشغل قنوات التلفزة المركزية وتغرق نفسها في الدعاية والاعلان عن برامج رمضان الغنائية.
اسماعيل عبد الله
6 ابريل 2021