شعرت بدفء سائل ينساب بغزارة علي ثديي الأيسر لينسكب علي أجزاء أخرى من جسدي ، وذات الدفء أحسسته تحتي فوق الرمال التي اضطجع عليها.. تلاه شلل تام يقيد حركتي..
ما عدت بعده أستشعر شيئا..
لم يكن يراودني الخوف علي حياتي ، كرامتي ، إنسانيتي.. لكنني ما زلت أسمع كل شيء حولي بوضوح..
سمعت أحدهم يجثو بين فخذي بعد أن انصاعتا له مؤخراً دون أية مقاومة.. وسمعت صوت فستاني يجتر علي جسدي مرتفعة نحو الأعلى وهو يصدر صوت استغاثة أشبه بصفير نجدة سيارات الإسعاف .
وسمعت صرير السكين حين وضع علي الطرف الأعلى من سروالي الذي كان قد أقسم على أن لا يفارق حديقته السريه..
ثم خيل إلي بعد لحظات أن شيئاً قذرا كان أقل دفئا قد أستقر في إحدى زوايا رحمي.. وتكرر ذات الشئ عدة مرات متتالية ، كنت أسمع خلاله صعود وهبوط أنفاس أحدهم .
لم أعد أتألم من شئ ، أو لربما فقدت الحاسة المسؤولة عن زر مفتاح الألم.. والأغرب أنني
ما عدت أكرههم كما كنت أفعل قبيل أن يصوب أحدهم فوهة السلاح نحو صدري..
2
حتي غطاء رأسي التي دحرجتها الرياح بعيداً فتركت خصلات شعري مبعثرة تلثم حبيبات الرمال ؛ ما عادت تثير اهتمامي..
بل لم آبه بما يحدث وما سيعقبه من شئ سيئ الحدوث .
حتى تلك الجملة(عيونك ساحرة) التي كان ابن جيراننا قد ألقاها علي مسمعي حين كنا نلعب معا في الأيام الأخيرة من مرحلة طفولتنا وتبعه في ذلك آخرون ، لم تعد تطربني ، فقد ثبتت نظرتي محدقة نحو الفضاء الشاسع ، بعد أن انسحبت من مآقيها أنهر الدموع التي لم تعد قادرة على إطفاء ما انتشبت من حرائق .
ثم سمعتهم يتحدثون بلغة أفهمها جيداً.. قال أحدهم : «هيا لنذهب قبل حلول الظلام» .
قلت في نفسي: الظلام !
أذكر أنني كنت في يوم ما أخشى الظلام كخشية الأغنياء من فايروس كورونا..
لكن لم لم أعد أخشى الظلام الآن !؟
وابتعدت خطوات أقدامهم قليلاً .. ثم ما لبث أن ضجت الأماكن المحيطة بشئ من الصمت الصاخب ، إلا من نعيق بومة في جوف شجرة مجاورة ، وصياح بنات الظلام هنا وهناك .
فجأة سمعت وقع أقدام شئ متوسط الحجم يرتطم بالأرض قادم نحوي في هرولة بائنة.. لكنه ما إن أقترب أكثر حتى توقف فجأة واستدار مهرولا مبتعدا عنى بكل ما يملك من قوة..
لم تراودني الرغبة في الالتفات للتأكد منه..
واستمر ضجيج الصمت الصاخب.
3
لا أدري كم مضى من وقت.. أزيز مزعج يلتف حولي ، فاتضح لي بعد لحظات أن كتيبة من الذباب قد قررت إحاطتي وتغطية ما انكشفت وتعرت من فروة جسدي ، ما كنت لأشك في أنها أتت لغرض الحماية لا أكثر..
ورغم محاولتها العبث بكل جزء تلامسه أقدامها النحيفة ؛ إلا أنني استأنست بوجودها معي ، وأحسست_ رغم انغلاق نوافذ الاحساس_ بالتسلية حين تغرز خراطيمها في مواضع متفرقة من جسدي .
لكنني انزعجت وتغير رأيي تجاها حين حط إثنان من أفرادها علي إحدى زوايا عيني اللتين لم ترتمشا أبداً ، فرأيت أحدهم يتحرش بإحدى بنات كتيبته بصورة تكاد تماثل ما دأب عليها بنو جنسي ، غير أنه لم يصوب نحوها فوهة سلاح أو غيره .
حاولت حمايتها من ذاك الوحش العاشق القاتل .. لكن فجأة ارتفع الأزيز معلنا ابتعاد الكتيبة عن المكان بقرار مفاجئ.. أعقبته جلبة وأصوات بشرية مرتفعة .. بعضها بكاء ونواح وصياح .. وبعضها شتم ودعوات و مفردات وهمهمات لم تصلني كلها بوضوح .
استطعت تمييز صوت أحدهم حين انحنى نحوي محاولا سحب الثياب لستر ثدي المشروخ.. لكنه ما عتم أن تهاوى ، فسقط بالقرب مني ممسكاً بإحدى يدي .. إنه صوت أخي الذي لم أكن أتخيل يوماً أن بإمكانه البكاء.. فهو عليم خبير بإبكاء الآخرين ، لكن أن يبكي هو كالاخرين لأمر يدعو إلي الحيرة !
سألته في الأعماق .. لم تبك يا أخي ؟
هل تبكي إنسانيتي وكرامتي ؟
أم تبكي حياتي التي باتت حرة بعيدة عن سطوتك وأمزجتك المتقلبة ؟
أم أنك تبكي شرفك الذي كنت قد أخبرتني بأنه يختبئ في مكان ما من جسدي ؟
توقف سيل أسئلتي التي لا أعتقد أن أخي قد سمع شيئا منها أو سمع عنها حين قال أحدهم متحدثاً علي الهاتف المحمول : «نعم.. لقد عثرنا عليها في ذات الموضع المبلغ عنه يا سعادة ال…»
ثم اقترب أحدهم مني أكثر ونادى علي الآخر بأن يحضر معه الكمامة ، لأن رائحتي ما عادت تطاق .. فتأكدت حينها أنني قد مت ، واختفت مني حاسة السمع التي كانت آخر ما يجعلني أتصل بعالم الأحياء و أعي ما يدور حولي من أحداث .
قصــــــــة_قصـــــيرة
نصوص_أدبية
أحمــــــــد_كــــــانِــم
بولتون_انجلترا
2أكتوبر 2020