بقلم : د. محمود يوسف
من الصعوبة بمكان فهم الثورة السودانة دون استيعاب بعض من الخلفيات التي صاغت وشكلت هذه الثورة. كان السودان من أوائل الدول الإفريقية التي حصلت على استقلالها من بريطانيا العظمي في 1/1/1956، وقد تم صياغة مفاهيم وتطلعات الزعماء السياسيون في حقبة الاستقلال من خلال تداعيات أحداث عام 1924 ، لذلك ركزوا أكثر على التعامل مع الأيديولوجيات والتطلعات العربية وفي تجاهل تام لرغبات وطموحات الأغلبية من الجزء الإفريقي من السكان، وشكل جميع السياسات الرسمية العمل علي تعزيز هذه العملية عن طريق تعريب وأسلمة البلاد، على الرغم من أن تعداد السكان حسب إحصائية عام 1955\56 ، حيث مثل الأفارقة 58 ٪ من السكان والعرب وأولئك الذين ادعىوا أنهم عرب أقل من 39 ٪ من السكان والأجانب 3 ٪ [1 ، 2] ،وكان هناك 597 قبيلة في السودان [2]
تم تشكيل الخريطة السياسية الحالية للسودان عندما أرسل محمد علي باشا ، الحاكم المصري، ابنه إسماعيل باشا للسودان للحصول على الرجال والعاج وريش النعام والذهب في عام 1821 [3] ؛ كان هذا الغزو بداية للحكم التركي في السودان حتى هزمه القومي السوداني الأول محمد أحمد المهدي، الذي قاد ثورته عام 1881 حتى دخل الخرطوم في 15 يناير 1885 وهزم الحاكم الإنجليزيني للسودان الجنرال جوردون باشا ممثلا للدولة التركية [4]. بعد 17 عامًا من الحكم الوطني، قامت القوات الأنجلو- مصرية – ومعه الكثير من السودانيين ، بغزو السودان في 2 سبتمبر 1898 ، ثم ضم دارفور إلي السودان في عام 1917 بعد هزيمة السلطان علي دينار الذي دعم الخلافة العثمانية والألمان في بداية الحرب العالمية الأولى في عام 1914 ، حينها أيد تركيا وأجرى اتصالات معها عبر السنوسي في ليبيا [5].
ازدهرت تجارة الرقيق أثناء العهد التركي والمهدية، وعلى الرغم من أن البريطانيين زعموا أن غزو السودان تمت لوقف هذه التجارة التي تقلل من كرامة الطرفين ، فإنه من المؤسف أن ذلك لم يحدث ، ولقد علق علي ذلك مساعد مدير الاستخبارات في السودان بين عامي 1915 و 1926 ، السيد سي. ويليس قائلاً: “نما النظام الاجتماعي بأكمله في شمال السودان ليعتمد على امتلاك الرقيق التي بدونها لايمكن تطوير أي ممتلكات أوصيانة الأسرة” [6]. يظهر ذلك مدى التعاون بين السلطات البريطانية في السودان والمستفيدون الرئيسيين من وجود تجارة الرقيق في السودان، وهما علي الميرغني وعبدالرحمن المهدي، اللذان قادا مشاريع كبيرة واستغلا أتباعهما الدينيين في هذه المشاريع الزراعية، حتى عام 1926 حين تم إلغاء تجارة الرقيق رسميا في السودان، بغض النظر عن معارضة هؤلاء الزعماء الذين كتبوا مع آخرين خطابًا يعترضون على منع هذه العملية، ولكن وللسخرية كان القرار ينص على أنه يجب أن يُمنح العبيد أوراقًا للحرية عندما يبلغون الشرطة [6] وأخبرني صديق من الشماليين أن والدته كانت تطلب منهم عدم السماح لعبيدهم بالخروج خوفا من الذهاب الي مخفر الشرطة وخاصة كان هنالك أحد الجنوبيين (وكان مكروها) يمر علي المنازل ويقوم بأخذ العبيد الي مخفر الشرطة لأخذ ورقة الحرية كما أطلقوا عليها، أن هذه العملية الزائفة والغير واضحة، والتي تذكر المرء بما يحدث في موريتانيا ، قد أبقت على العبودية لفترة طويلة وحولت المجتمع إلى ثلاثة مستويات من الطبقات بناءً على مدى سطوع بشرتك، مما سمح بوجود طريق في وسط الخرطوم سمي باسم تاجر الرقيق الشهير الزبير باشا!
خلال تلك الفترة، تم تجنيد العبيد السابقين المحررين وغيرهم من المواطنين في أعمال بناء مختلفة بعد الاحتلال، مثل المكاتب الحكومية والسكك الحديدية والطرق وخزان سنار والجسور وغيرها .. انضم آخرون إلى الجيش، بالإضافة الي المجموعة السودانية الكبيرة التي اتت من مصر مع الجيش المصري، وبعد الحرب العالمية الأولى في عام 1914 \ 1918 ، اكتسب بعض الضباط المتقاعدين والكتبة والعمال والتجار وعيًا كبيرًا تجاه أنفسهم والمجتمعات المحيطة بهم، الأمر الذي انعكس في تشكيل جمعية القبائل المتحدة في عام 1921 من قبل علي عبداللطيف، القومي السوداني الثاني (كانت والدته من الدينكا ووالده من النوبة) ، وهو ذلك الجناح السياسي الذي شارك لاحقًا في تشكيل جمعية اللواء الأبيض، بقيادته ونائبه عبيد الحاج ألأمين (من قبيلة الجعليين من الشمال) .