بعض قوى نداء السودان يحاول إقناعنا من خلال بياناته، وتصريحات قادته، أنه ساعٍ إلى التوقيع على خارطة الطريقة بيده اليمنى، ويوحي لنا أنه يمسك في يده اليسرى بشروط ضرورية لتحقيق الحوار الذي يرجوه مع النظام. والمعنى هنا أن هذه القوى المعارضة تسوق لنا فكرة أنها إذا رأت أن هناك ما يؤكد لها جدية النظام فإنها ستدخل معه في حوار بهيكلية جديدة لا علاقة له بحجوة الوثبة. وقد يستجيب النظام، تحت ضغط دول الترويكا الراعية، لبعض من تلك الشروط، ويتم الاتفاق على الورق لإيقاف “الحرب”، وتفعيل شريان “الإغاثة” للمواطنين. وهذان عاملان ظلا يقلقان مضجع قيادة الحركة الشعبية التي لا قبل لها بحماية المواطنين من القصف الجوي، وإغاثة هذا العدد الكبير من الواقعين تحت سيطرتها. ولكن التجربة دلت أن الشيطان يكمن في تفاصيل التطبيق.
إذ عندئذ يستأنف النظام تفعيل تراثه في نسف بنود الاتفاقيات الإيجابية الموقع عليها. والحقيقة أن القضية ليست وحدها في جدية النظام لاستحسان الحوار الذي يحقق أساسيات لحل المشكل الوطني الذي صار معقدا. فنحن نعلم أن الحلول الجزئية لا تخاطب قضايانا الملحة، وأن غياب أي طرف فاعل في أي حوار وطني سيعمق المشكلة أكثر فأكثر. بل إن النظام سيعمل على استغلال هذه التجزئة لإفشال الحل نفسه مثلما استمرأ لعبة تفخيخ الاتفاقات التي يوقعها مع جبهات وطنية. والأكثر من ذلك أن تعاون هذه القوى المعارضة مع النظام، حال اتفاقها على تطبيق توصيات الحوار، سيدق بين المعارضة إسفينا، ويعمق الخلافات داخل التيار السياسي الواحد. وهذا ما يساعد النظام على حل أزماته، أكثر مما يساعد، ويسرع، الحل الوطني لتضميد الجراح، وخلق بيئة وطنية صالحة لكل السودانيين.
فعلى مستوى الحوارات السابقة التي عقدت بين النظام وبين بعض قوى المعارضة المركزية لاحظنا أن المستفيد الأعظم هو النظام. أما على مستوى الحوارات بين النظام وبين المعارضة العسكرية فإننا أيضا لاحظنا أن النظام استقوى عبرها بينما رأينا تبعثر هذه القوى للحد الذي فيه ساعد بعضها النظام في حربه ضد زملاء الكفاح المسلح المتمترسين. لمسنا ذلك بعد توقيع اتفاقية أبوجا، ثم الدوحة. وهكذا لم تجن دارفور إلا المزيد من التمزق في نسيجها الاجتماعي، والسياسي، وتفاقم أزمات ريفها، تحديدا، بعد أن انقسمت السلطة الإقليمية إلى جناحين، أحدهما بقيادة التجاني سيسي، والآخر تحت قيادة بحر أبو قردة.
وبالنسبة لاتفاقية الشرق رأينا كيف أن الخلافات ضربت بأطنابها المناضلين، فتحولوا إلى ثمانية أحزاب، ضمن قياداتها موسى محمد أحمد، وآمنة ضرار. وقد ضيعت الحرب الإعلامية الشرسة بين المناضلين مكاسب الاتفاق القليلة لأهل الشرق، والذين تفتك بهم الآن الأمراض، ويفتقدون الماء الصالح لشرب الإنسان والحيوان، وضف تضاؤل فرص التنمية في الإقليم المهمل. والغريب أن نخبة الشرق على قلتها، والتي أعانت كفاح الأهل هناك، انتهت إلى نخبة غائبة إزاء مساحات التأثير في محاضر الجدل حول الشأن الوطني. فصوت الشرق غائب إعلاميا اليوم، ونكاد لا نرى نخبته تنشط في مجال مكافحة مآسي الإقليم المتعددة بالقياس إلى نشاط مختلف نخب السودان.
سلميا، ليس هناك من سبيل للتوصل الي إيقاف الحرب نهائيا، واقتراح حلول موضوعية لمشكل البلاد المستفحل إلا عبر جلوس القوى المؤثرة للتداول ثم الاتفاق حول كيفية تحقيق النقلة السياسية المرجوة. ولكن كان ينبغي أن يكون أساس الفكرة هو الحوار حول إنقاذ الوطن، وليس فقط التفاهم مع المؤتمر الوطني لتقسيم كيكة السلطة. وهاهنا يبقى الحزب الحاكم مثله مثل أي تيار سياسي آخر لا يعلو بنصيب أكبر ينفرد عبره بسن هيكلية، وإدارة، لهذا الحوار، وإنما هنا عليه أن يذعن عبر ممثليه لرغبات ممثلي الشعب كافة، إذا كان الاسلاميون يرغبون حقا في مصلحة أهل البلاد.
إن أي حوار مع المؤتمر الوطني يستثني طرفا مؤثرا، وينفرد بعده السياسيون الجالسون معه في مفاوضات السلام بمقاسمة السلطة، لن يجلب إلا نسف طموحات المعارضة، والتي لم تضعف حركيّتها مثلما لاحظنا إلا بعد كل جولة حوار في إحدى العواصم من حولنا. كما أن النظام نفسه، برغم أنه حقق إستراتيجياته عبر صنيع الحوارات المبتسرة، لم يتمكن من الحظو علي الشرعية التي ظل بها يحلم للسيطرة علي البلاد. وهذا الرأي ليس جديدا فقد جاء علي لسان قادة القوى السياسية نفسها، وكتاب الرأي، والحادبين علي الحل السلمي. ولكن السياسيين، علي الأرجح، لا يثبتون علي رأي واحد. فما يصرحون به من موقف اليوم ينفونه، أو يناقضونه، غدا تماما، وذلك حين تلوح أمام ناظرهم ما يظنون أنه أقصى مكتسب فردي. وهذه المثلبة من ما أصاب تاريخ المشهد السياسي بالأجندات الأيديولوجية، والشخصية، والمناطقية المصطرعة، وقللت المصداقية في كل القادة السياسيين الذين نراهم اليوم مسرعين للتوقيع، دون أن ينتبهوا الي أن لهم تصريحات موثقة ومشددة بأنهم لن يكونوا يوما جزءً من حوار يستثني القوى الفاعلة في السياسة والمجتمع.
الإمام الصادق المهدي، وقادة الحركات المسلحة، وبقية المكونين لنداء السودان، كادوا يزعجوننا، قبل الضغوطات الأميركية، والأوروبية، بتصريحاتهم حول الحل الشامل الذي يضمن مشاركة كل الأطراف. ولكنهم اليوم يتوجهون نحو العاصمة الإثيوبية، ولا يعنيهم أصلا غياب قوى مؤثرة حليفة لهم عن هذا المحفل الذي يحركه الإستراتيجيون الأميركيون والأوروبيون خلف الكواليس، وعلى الظاهر يبدو أمبيكى الاتحاد الأفريقي. وهؤلاء ظلوا يضغطون قوى نداء السودان دون اعتبار لإقناع غالبيتها بجاذبية هذه الخطوة في مسار الإصلاح السلمي. ولعلهم يدركون جيدا أن هذه “الكلفتة” لن تصنع الحل، ولكنها جزء من مكافئة النظام الذي يتعاون معهم في مسائل تخص التخابر حول الإرهاب وتهريب الشر.
إن ما يقوله قادة المعارضة من مبررات حول توقيعهم على خارطة الطريق ليس هو الموضوع الذي يهمنا كثيرا. فهذه المبررات، على صدقها، كان ينبغي أن تصحبها تقديم مبررات أخرى حول تراجعهم عن التصريحات بشأن المشاركة الشاملة لكل الفاعلين حول الأزمة. وكما نعلم أنه ليس هناك أي سياسي يعجز عن صناعة المبررات التي تمهد له الوصول نحو مرحلة تحقيق استراتيجياته. ولكن الساعين للتوقيع استشعروا صعوبة أن “ينبلع” التبرير الشارح لأسباب التنازل عن لازمة المشاركة القومية الشاملة في الحوار.
هذا الملمح من “الدافوري السياسي” غير المبدئي هو ما يعمق الفجوة بين هذه التنظيمات السياسية وبين قواعدها. بل هو الذي يغيب استدامة المصداقية تجاه معظم قادة اتجاهاتنا السياسية. ولذلك لم نتوفر إلى الآن على قادة وطنيين متحلين بالاستقامة الفكرية، والسياسية، ويقرنون القول بالعمل مهما تكن التحديات المحلية والخارجية.
هذا ما خص إجراءات الحل السلمي البادية للعيان، والذي هو جزء من إستراتيجيات المعارضة المركزية والمسلحة، ونعتقد أنها صادقة في هذا الجانب أكثر من النظام. ولكن ما يغدو هو أن بعض قوى المعارضتين والدول الراعية للمفاوضات يمارسان العبث، لا غير، إذا تصوروا أن هذه المفاوضات الجزئية ستنهي عناد النظام وتحمله طوعا، أو كرها، علي إشراك آخرين في الحكم. و”الموية كضبت الغطاس”..أو “ألمي حار ولا لعب قعونج”..!