لا يبدو الكشك القابع تحت شجرة في واحدٍ من أكثر شوارع الخرطوم ازدحاماً، بالمكان الذي يمكن أن تعلق الأمل عليه إذا كنت تسعى لعلاج طفل ما.
لكن العشرات من الآباء والأمهات القلقين بالإضافة إلى آخرين يسرعون إلى أماكن مثل هذه عبر أنحاء السودان كل يوم، وذلك من أجل إما الحصول على وصفات طبية بالنسبة للآباء والأمهات أو للتبرع للمتطوعين الذين يديرون عملية تمويل جماعي لإنقاذ حياة الأطفال، بحسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
بدأت المبادرة عام 2012، وتلقت تبرعات بحوالي 220 ألف دولار أميركي (ما يعادل 176 ألف جنيه إسترليني) من أجل الأدوية في عام 2014، وجمعت كذلك 533 ألف دولار أميركي من أجل إقامة وحدة عناية مركزية للأطفال في اثنين من مستشفيات العاصمة.
ثمن الأدوية
“لولا وجود هؤلاء الشباب هنا كنت سأضطر لبيع أشياء من منزلي مثل سريري أو بعض الكراسي أو أواني الطهي”، هكذا عبّرت عرفة موسى عن وضعها، وهي التي قطعت مسافة كبيرة من مستشفى جعفر بن عوف للأطفال من أجل الحصول على مساعدة لدفع ثمن الأدوية لابنها.
ومنذ أن خسر زوجها وظيفته جراء إصابته بأزمة قلبية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لم تعد الأسرة قادرة على دفع 200 جنيه سوداني شهرياً (ما يعادل 248 جنيهاً إسترلينياً)؛ كي تتمكن من علاج ابنها البالغ من العمر 8 أعوام المُصاب بحالة نادرة من فقر الدم اللاتنسّجي.
“إذا لم يحصل على علاجه، سينزف من أنفه وعينيه وأذنيه وجسمه كله”، هذا ما قالته موسى وهي تمسح دموعها عندما كانت تتحدث عن محاولة بيع منزل العائلة من أجل دفع ثمن إجراء عملية زراعة نخاع العظم التي لا يمكن أن تُجرى لطفلها إلا بالخارج.
وكانت رؤية الأطفال الذين يعانون من مرض السرطان هي ما دفع بحوالي 15 شاباً سودانياً للتطوع من أجل إنشاء مبادرة تمويل جماعي، أُطلق عليها اسم شارع الحوادث. وقد سُميت المبادرة بذلك الاسم الذي يحمله شارع تصطف فيه المنشآت الطبية. وقد تحول هذا المكان الآن إلى منزل لجيشٍ صغير من المتطوعين الذين يجلسون تحت أحد الأشجار ويحتسون أعداداً لا حصر لها من كؤوس الشاي أثناء حركتهم السريعة وسباقهم من أجل إعطاء الوصفات الطبية للآباء الذين يحضرون إلى هنا أو يتصلون بهم من أحد المستشفيات.
أصابت عقود من الصراع والعقوبات ضد نظام الرئيس عمر البشير حركة الاستثمار والتنمية بالشلل. وصارعت المنظمات الدولية غير الحكومية من أجل العمل في مناخٍ من الشك الحكومي والقيود، ويتضمن ذلك تحديد وتقييد العمل الطبي لمنظمة أطباء بلا حدود والصليب الأحمر.
“لا ترغب حكومتنا بتواجد المنظمات غير الحكومية هنا.. كان هناك العديد من هذه المنظمات، ولكن تم استبعادها”، هكذا يرى أحمد حاتم الأوضاع في السودان، وهو واحد من الصيادلة الكثيرين الذين يعملون مع مبادرة شارع الحوادث من أجل توفير الدواء لمعظم أولئك الذين لا يشملهم التأمين الصحي. وجدير بالذكر أن أحداً من المتطوعين لا يتقاضى أجراً نظير عمله في المبادرة.
التمويل الجماعي
في السودان حيث تعثرت المنظمات الدولية غير الحكومية، فإن نموذج التمويل الجماعي عبر الإنترنت قد ازدهر، بما يسمح للناس بالتبرع من أجل الأدوية والكتب أو البطاطين أو الطعام دون الحاجة للذهاب إلى منظمة ما ربما تعتبر خطراً سياسياً.
“حوالي 25% من الناس الذين أقابلهم لا يستطيعون تحمل تكلفة العلاج أو الأدوية”، وذلك على حد قول الدكتور لبن خير، الذي تطوع بالمبادرة منذ أن اكتشف أن أغلب سياسات التأمين الصحي تدفع مقابل حوالي 10% من الأدوية، كما أن” التأمين الخاص لا يستطيع أيضاً تحمل تكلفة الأدوية باهظة الثمن”.
ويقول إبراهيم الصافي، وهو صحفي متطوعٌ مثل بقية المتطوعين – فإنه يقضي يوماً أو ليلة أسبوعياً جالساً في مقر المبادرة، إننا “نقوم بنشر الاحتياجات اليومية على صفحة الفيسبوك الخاصة.. كما نكتب الأدوية والفحوصات التي نحتاج القيام بها اليوم”.
يقول أيمن سعيد، أحد ممولي المبادرة، إن كوننا لا نصنف باعتبارنا منظمة دولية غير حكومية أمراً له بعض الفوائد. إذ “يمنحنا ذلك حرية حركة أكبر كما أنه يمكننا أن نتوسع بالقدر الذي نستطيع، بالإضافة إلى أن نظام الإدارة اللامركزي.. كان استراتيجية جيدة”. وأضاف أن ذلك يُتيح الفرصة للناس كي يحققوا ما يريدون بطريقتهم الخاصة.
ويتابع صفحة فيسبوك الخاصة بالمبادرة أكثر من 100 ألف متابع، حيث تُنشر طلبات الوصفات الطبية وأماكن وجود الأطفال المرضى. ومن خلال المتطوعين الذين يعملون عبر أنحاء محافظات السودان البالغ عددها 18 محافظة، ويعملون في مستشفيات الأطفال، يمكن لمن يريد التبرع أن يفعل ذلك بشكل شخصي أو يمكنه أن يفعل ذلك عن طريق إعطاء المال لأناس يعرفهم ويعيشون في نفس منطقته ومحيطه.
وساهم المواطنون السودانيون – وأغلبهم من خارج السودان – بمساعدتنا من خلال تحويل الكثير من النقود. ليس لنا حساب بنكي، لكنهم يقومون بتحويل النقود لأقاربهم، ثم يقوم هؤلاء بإعطائنا الأموال يداً بيد.
قدر من الثقة
وتتطلب المبادرة قدراً من الثقة بين الصيادلة والمتطوعين، الذين يتابعون حسابات ما تم شراؤه أو منحه خلال الوردية. كما يرغب بعض المتبرعين، خاصة بالنسبة للحالات المزمنة أو للمتبرعين لأول مرة، في معرفة أين تذهب أموالهم، ومقابلة المرضى، بالإضافة إلى التعرف على عائلاتهم في بعض الأحيان، مثلهم مثل المتطوعين.
يقول بعض الصيادلة في الخرطوم إنهم يتبرعون بأدوية تتراوح قيمتها ما بين 200 إلى 2000 جنيه سوداني، إلا أنهم يثقون بالمبادرة، ويعلمون أنهم سيتلقون المال.
أتى التبرع الأضخم من إحدى النساء الثريات في الخرطوم، التي لم تمتلك نقوداً سائلة فتبرعت بحليها الذهبية، وحين عرف التاجر أن المال سيذهب للأعمال الخيرية، دفع الضعف مقابل الحلي.
كما يستجيب المقيمون بالخارج أيضاً إلى الدعوات المعتادة لشراء الأدوية غير المتاحة في السودان، أو الأدوية المستوردة باهظة الثمن، ويقومون بإرسالها. يقول أحمد: “المضادات الحيوية، خاصة القابلة للحقن، باهظة الثمن، كما أن جرعة أدوية السرطان القابلة للحقن قد تتكلف 900 ألف جنيه سوداني، بينما تتكلف دورة العلاج المكونة من 28 قرصاً 1.5 مليون من الجنيهات”.
ومثل العديد من الصيادلة، عمل أحمد مع كثير من الصناديق الخيرية المختلفة، منذ بدأ إدارة صيدليته الخاصة في حي المستشفى، وتبرع بالأدوية للمستحقين لسنوات. وهو الآن يعمل مع مبادرة شارع الحوادث، ليصل إلى المزيد من الفقراء الذين ضربهم التضخم وتراجع قيمة العملة، وما تسبب فيه من تراجع قدرتهم على شراء الأدوية المستوردة من أوروبا والولايات المتحدة.
وختم أحمد حديثه قائلاً: “يزداد الناس فقراً بشكل يومي، وتزداد الأوضاع سوءاً، لذا نحاول المساعدة”.
ترجمة هافينغتون
المصدر :الغارديان البريطانية