عثمان نواي
التعليم في السودان هو دائما ما وضع الحد الفاصل بين الوجود في اعلي هرم التراتبية الاجتماعية، على الأقل في إطار المركز. حيث أن التنافسية للصعود الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الي حد ما ارتبطت بالتعليم تاريخيا. حيث أن الكيان الذي كان قائدا لعملية الاستقلال ونقل السلطة من المستعمر الي قيادات سياسية سودانية وبالتالي تشكيل الدولة السودانية بشكلها الراهن، هذا الكيان كان يسمي مؤتمر الخريجين. اي انه كان يستمد ليس فقط اسمه ولكن أيضا سلطته الاعتبارية والمعنوية من موضع مرتبط بمستوي التعليم الذي حظي به مجموعة سميت لاحقا (نخبة) لأنها كانت من الحظ بمكان لتصل إلي هذه الدرجات التعليمية التي اهلتها للوظائف والمكانة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية العليا في البلاد.
أذن التعليم في السودان وفي كل العالم بلا شك له أهمية خاصة في بناء الدول، ولكن في السودان له أهمية أكبر كما ذكرنا لأن خصوصية المسار التاريخي للدولة السودانية ربطها مباشرة بالمتعلمين والخريجين. حيث أن مؤتمر الخريجين الذي خرجت منه الأحزاب التي حكمت السودان سواء من موقع الحكومة والمعارضة، هو نواة جعلت الحراك السياسي في الجامعات لاحقا هو أيضا مصدر للثورات التي هزت البلاد وغيرت النظم الحاكمة، إضافة إلي دور المهنيين كمتعلمين. في الهامش السوداني أيضا أو في الأطراف الثورات التي قامت أيضا ودرجات الوعي بالحقوق كانت ولاتزال مرتبطة بقوى المتعلمين وليس فقط بالكيانات الاثنية أو الدينية او القبلية. ولذلك فإن هذا المحمول التاريخي يجعل العملية التعليمية في قلب القضايا التي تستوجب اهتماما خاصا في المسار الي صناعة تغيير حقيقي في السودان.
ولا شك أن التعليم الذي يعبر كما قدمنا سابقا عن تركيبة الدولة السودانية ونشاتها ودور المتعلمين فيها، فإن التعليم يشبه في حالته الان خارطة التقسيم الغير العادل للحقوق الأساسية المواطنة بين المركز والأطراف، وخاصة مناطق الحروب. في الجداول الموجودة ادناه نجد نسب التفاوت الكبيرة جدا في توزيع النسب التسجيل في المدارس بين مناطق النزاعات وبين المركز والشمال. ونجد أيضا مؤشرات تتعلق بنسب التعليم والأمية. وهذه النسب والجداول مأخوذة عن تقرير اليونسيف حول التعليم في السودان عام 2007. حيث أوضح التقرير أن نسب التسجيل للطلاب في المدارس بلغت أقصى درجاتها في ولاية نهر النيل بنسبة 88 %تليها الولاية الشمالية بنسبة 84%. بينما نجد أن أقل نسب التسجيل في المدارس هي في ولاية كسلا وجنوب كردفان حيث تصل النسبة في كسلا الي 44%، بينما جنوب كردفان 58%. نفس النسب المتدنية تشهدها ولايات دارفور التي نجد بها نفس نسبة جنوب كردفان للتسجيل. هذا مع العلم ان نسبة سكان جنوب كردفان من نسب تعداد سكان السودان الكلية هي 3.7%، بينما نسبة سكان الشمالية من هي فقط 1.8%. هذا الفارق الكبير يوضح بدقة مقدار التمييز في انتشار وتوسع التعليم في ولايات الشمال والمركز في مقابل المناطق المهمشة.
في مؤشر آخر أكثر خطورة وأهمية نجد أن نسبة المتعلمين، اي غير الأميين، في الولاية الشمالية هي 76 %، بينما الجزيرة تصل 70% والخرطوم 80%، لكن ولايات الهامش والنزاعات نجد أن نسب المتعلمين تصل الي 44%في جنوب كردفان و40% و 39 % في غرب وجنوب دارفور. إضافة إلي نسب تصل 18 %في ولايات جنوب السودان قبل الانفصال. هذه الأرقام تستند إلى آخر إحصاء سكاني قبل الانفصال عام 2008.
ان هذه الفوارق في نسب الدخول والتسجيل في المدارس والتي تصل الي فارق بين ولايات المركز والهامش يصل إلى أن نسب التعليم في بعض الولايات في المركز هي ضعف تلك الموجودة في الهامش، هو أمر ينبه الي حقيقة التمايز والامتيازات التي يصنعها فارق التعليم وحده ناهيك عن الجوانب الاقتصادية او السياسية أو الخدمية الأخرى. وقد ربطنا أن التعليم في السودان هو حد فاصل رئيسي نحو الترقي الاجتماعي والوصول الي مراكز القرار. ولكن هذا المشهد المنقسم بين المركز والهامش في نسب توزيع التعليم وفرصه إنما يؤكد أيضا علي أن التعليم هو وسيلة للتمييز كما أنه وسيلة التمايز وحفظ امتيازات مناطق معينة في مقابل الأخرى. إذ أنه كان منطقي أن تكون هناك فوارق شاسعة في نسب المتعلمين بين المركز والأطراف في زمن المستعمر، باستخدام حدد المناطق المقفولة والحروب وما الي ذلك من حجج. إلا إنه لا مبرر لذلك بعد نصف قرن من الاستقلال. فحتى مناطق مثل دافور مثلا لم تشتعل فيها الحرب الا في ال 15 عاما الاخيرة فلماذا نسبة الأمية تصل فيها الي 60 %؟ هذا المؤشر ليس يدل فقط علي حقيقة أن عملية تجهيل ممنهج تتم في الولايات المهمشة، بل إنه يدل علي أن أهمية التعليم التي تدركها تماما المجموعات المهيمنة، يتم استغلالها جيدا عبر إهمال التعليم في الهامش وبالتالي استمرار الفوارق الشاسعة بين أهل الهامش والمركز بشكل مستدام. حيث أن فوارق التعليم بهذه النسب المرتفعة لم تصنع خلال عهد الإنقاذ بل إنها عملية تراكمية من عملية التجهيل وليس التعليم التي جرت للهامش.
ولذلك المرء يثلج صدره كثيرا أن عديد من المجموعات المستنيرة في الهامش بدأت تهتم بأزمة الفوارق التعليمية وبدأت تقوم بمبادرات لتغيير دقيق وإحداث الفارق في الوعي ألذي هو الذي يسد الفوارق الأخرى بين المركز والهامش. ولذلك اسعدني التعرف علي مبادرة مثل مبادرة بهاء التي يقودها مجموعة من ابناء السودان من أجل تعليم أبناء جبال النوبة المحاصرين في مناطق الحركة الشعبية. حيث انه لا سبيل لهم للوصول للخدمات التعليمية وقد خسر كثير منهم سنوات عديدة دون تعليم جيد يؤهلهم لمستقبل أفضل. المبادرة هي لبنة في طريق التحرك نحو سد الفجوة. وحيث أن المبادرة تقوم علي اساس التبرع والتطوع، فإن الدعوة مفتوحة حسب من هم قائمين عليها لكل سوداني مهموم بتعليم أبناء الهامش وسد الفجوة أن يقوم بالتطوع أو التبرع أو تبني تعليم طالب واحد على أضعف الإيمان. هذه المبادرة في نظرى لها أهمية خاصة في طرح خطوات إيجابية لكي يكون هناك اسهام مباشر وملموس من قبل كل السودانيين المهتمين بأن بتغيير حال السودان للأفضل وان يتم بناء وطن المساواة والحقوق. حيث أن الشعارات وحدها لا تكفي للتغيير، ولذلك فإن المؤمنين بالتغيير خاصة من المركز هذه المبادرة ربما تتيح لهم فرصة جيدة لكي يبنوا أواصر جديدة للتلاقي والتلاحم بين مكونات الشعب السوداني. ولكي يتم صناعة جسور مبنية على تغيير حيوات حقيقة. ولكي يستبدل الأطفال القادمون صورة المركز وأهله في أذهانهم من أنه فقط يسقط علي رؤوسهم القنابل، الي أنه من هذا المركز أيضا تأتي الأقلام والكراسات وفصول العلم وطاقات النور بدلا عن طلقات القتل والتدمير.
ان الفوارق في التعليم التي أبرزتها الأرقام أعلاه تحتاج إلى تحليل مفصل بشكل أكبر وتحقيق أكبر حتي نستشعر بشكل أكبر مدي الكارثة. هذا خاصة إذا علمنا أن السودان ومنذ عام 2004 يصرف علي التعليم أقل 0.7% من الدخل القومي للبلاد. هذا مؤشر خطير لكل السودان، ولكنه مؤشر أخطر للهامش الذي أمامه تحدي ليس فقط في تحسين مستوى الأداء الأكاديمي، بل سد فجوة عقود من التجهيل والتهميش الممنهج من قبل الدولة. ولذلك فإن مبادرات مثل بهاء وغيرها لها أهمية خاصة في صناعة تغيير حقيقي في خارطة العلاقات بين السودانيين وفي تعديل كفة الميزان وإنهاء دائرة الحروب المغلقة والأهم صناعة امل في مستقبل يتشارك الجميع في صناعته.
موقع المبادره فيه كل المعلومات سيكتمل بنهاية الأسبوع. http://baha-edu.org/