د.بخيت أوبي
لاشك فى ان السودان كدولة مرت على طول تاريخ الحكم الوطني بعد الانعتاق من الاستعمار، بتجارب واجتهادات اثبتت عدم جدواها، واعاقت التطور والازدهار الذى يحلم به السودانيون، فكان الانتعاق من الاستعمار بداية للطريق نحو المجهول، فبدأت النخبة تلمس طرائق ومناهج الاستعمار فى ممارسة السلطة، فابقت على المؤسسات التى شيدها بناءا على الحفاظ على مصالحة، وخاصة الحفاظ على القبيلة والاثنية كمرجعية لادارة شئون المواطنين، ففشلت فى الاستفادة من التنوع الذى يذخر به البلاد، فعطلت طاقات قطاعات واسعة من المستنيرين فى المشاركة في البناء،فاصطدمت كمون الطاقات حتى تم استغلالها فى التنازع حول سؤال مازال قائما كيف يمكن ان يحكم السودان، فكان حروب الاستنزاف والتعبير عن المطالب بصورة عنيفة بدلا عن التعبير عنها بصورة سلمية وحضارية، فدفع ابناء السودان ثمنا غاليا بسبب سوء تقدير النخبة وجمود تفكيرها، والافتراض الخاطئ بتطابق وانسجام مكونات المجتمع، ولم يضعوا في الحسبان تلك التقاطعات والاختلافات فى الثقافات والموروثات ، والعزلة التى عاشتها تلك المكونات، دون التعرف على الاخر بصورة لصيقة تؤسس على التوافق والانسجام فى بناء دولة المؤسسات، و ادماج التنوع كمصدر ومنبع يتدفق من الاثراء المعرفي والثقافي والوحدة فى اطار الوطن الواحد، فلجأت الى سياسة الاستيعاب المبني على القهر المادي والمعنوي، فكانت الوحدة والولاء للدولة صوريا ومبنيا على المصالح العارضة وليست مبدئا مترسقا تتناقلها الاجيال عبر الحقب الزمنية الممتدة، ما ادى الى تعدد تلك الولاءات وتشتت تركيزها بين الولاء للدولة الصوري والولاءات الاخري التى ترجح كفة الاولى والمتمثلة فى المناطقية والقبلية والاثنية واللونية فكان الاثر قويا فى تشكيل بنية مؤسسات الدولة، والتى عانت ما عانت من التناقضات التى يعاني منها المجتمع فى السودان، فليس غريبا وفقا لهذه المعطيات الزمانية والمكانية والموضوعية ان تنتج مؤسسات ركيزتها الاساسية تنطلق من التصورات السالفة وتعاني من الامراض التي يعاني منها المجتمع ويغذيها الساسة بجذوة تشتعل على مدى الحقب الزمنية تعمق الازمات والتصدعات، ما اثر على المؤسسات عطاء واثراء على الحياة العامة،وكبلتها بقيود ثقيلة لايمكن ان تتنج نجاحا، ومن الغباء تكرار ذات الوسائل والمناهج وتوقع نتائج مختلفة. فالتحدى الماثل امام السودان ليست الحروبات او تحسين اقتصاد الخبز، وانما بناء دولة مؤسسات يحتكم اليها الكل من راس الهرم الى قاع الهرم، مرآة يجد فيها كل مواطن سوداني نفسه فيه. فالبدء في بناء الدولة وتاسيس ركائزها اصعب واعمق من الحلول الوقتية والسريعة والذي يحتاج الى معالجة كل الاختلالات الهيكلية واعادة انتاج هياكل جديدة تستوعب تطلعات وامال الشعب فى بناء دولته، دولة المؤسسات، ويتطلب ذلك جملة من الخطوات والشروط التي لابد لها ان تتوفر حتى يمكن بناء دولة المستقبل التى يحلم بها كل سوداني:
المحور الاول: الممارسة الديمقراطية الرشيدة، ولا يتأتى ذلك الا ضمن مجموعة من الشروط والعوامل منها تأسيس حكومة مدنية انتقالية تمهد لانتخابات حرة ونزيهة يشارك فيها الاحزاب السياسية، وخلالها يجب ان تبني الاحزاب نفسها ببمارسة الديمقراطية من الداخل، وانشاء تحالفات بين الاحزاب ضمن كتلتين تتنافس على انتخابات البلاد، ولابد لها ان تعالج نفسها من الامراض التى طالت المؤسسات العامة، مثل القبلية والمناطقية والطائفية والتوارثية واحتكار قيادة الاحزاب وان يتحول القادة التاريخيين والمعمرين لهذه الى مستشارين للقيادات المنتخبة. فالوسائل القديمة لاتجدي فتيلا فى عصر الانفتاح وتدفق انهار المعلومات.
المحور الثاني: المصالحة الوطنية ومعالجة اثار الماضي ومعالجة مشكلات المجتمع السوداني ذات العلاقة بالتعصب القبلي والاستقتطاب الاثني والميول المناطقية والجهوية والتعصب الديني والعرقي، فى هذه المرحلة يجب ان تفتح المجال امام منظمات المجتمع المدني لحل الاختلالات المجتمعية، والانخراط ايضا من جانب القوي الساسية لبناء تصور متفق عليه فى معالجة تلكم الاختلالات ، وفتح المجال امام كل السودانيين لبناء مجتمع معافي.
المحور الثالث: الاستفادة من الطاقات المعطلة لكل السودانيين فى الداخل والخارج فى المساهمة في بناء الوطن سواء عن طريق الاستثمار او الانخراط فى المنظمات الطوعية او المساهمة بالفكر او المال. ولا شك ان للسودان طاقات فريدة كفيلة بان تبني دولة حديثة.
المحور الرابع: بناء المؤسسات باسس جديده تتجاوز فيه زلات الماضي وثقله ورهقة ، تكون قادرة ومرنة فى استيعاب تنوع السودان واختلاف اجياله ومناطقه وثقافاته وموروثاته.
.