لندن _ صوت الهامش
أفادت آخر التقارير الدولية المطلعة على الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في السودان، بأن الرئيس عمر البشير ، الذي وصل إلى السلطة في انقلاب عسكري مدعوم من الإسلاميين في عام 1989 ، يواجه أخطر تحد لنظامه حتى الآن.
وأفاد تقرير صادر عن مؤسسة “تشاتام هاوس” ، بأن الاحتجاجات على مستوى البلاد الداعية إلى تغيير النظام، لا تزال مستمرة في تحد لحالة الطوارئ الوطنية التي أعلنها الرئيس في 22 فبراير، ودخلت الآن شهرها الرابع.
وردت الحكومة على الاحتجاجات بقمع أمني وحشي. تم إطلاق مظاهرات سلمية على استخدام الذخيرة الحية ، وتم اعتقال الآلاف، مع تعرض بعض من المعتقلين للتعذيب.
وفي تسلسل للأحداث، يروي التقرير الذي أعدته “روزاليندا مارسدن” – زميل مشارك في برنامج أفريقيا لدى تشاتام هاوس والسفيرة السابقة للاتحاد الأوروبي و بريطانيا في السودان – كيف أن تعيّين الرئيس البشير لحكومة جديدة، وقيامه بتنصيب ضباط الجيش والأمن على رأس جميع حكومات الولايات، وفرضه الطوارئ التي تحظر الاحتجاجات غير المرخصة، وإنشإه لمحاكم الطوارئ، لم يساهم في خفض وتيرة الاحتجاجات وحدتها، بل كان مردودها عكسيًا.
وأكدت “مارسدن” في تقريرها على أن الاحتجاجات لا تزال تحدث يوميًا تقريبًا، وبدعمٍ من جميع قطاعات المجتمع تقريبًا، حيث انضم الشباب المحرومين من حقوقهم، والذين نشؤا في ظل نظام البشير إلى الخطوط الأمامية للمظاهرات، ومن قبل النساء اللائي عانين من المضايقات والإذلال على أيدي شرطة النظام العام، فضلاً عن المهنيين المستقلين.
وألقى التقرير الضوء على تأثير هذه القوى الاجتماعية الجديدة على المشهد السياسي في السودان، حيث أصبحت الاحتجاجات ظاهرة اجتماعية وثقافية، تنعكس في الفن والموسيقى والشعر والتحية الاجتماعية، ومع ذلك، لا تزال هناك شرائح قوية في المجتمع السوداني لها مصلحة خاصة في الحفاظ على النظام.
الأسباب الجذرية والاستجابات:
وفي تناول للأسباب الجذرية لتلك الاحتجاجات، قالت “مارسدن” أن الأزمة الاقتصادية التي تضرب السودان – والتي تعتبر المحفز الأولي للاحتجاجات – في الفساد المؤسسي وإهمال القطاعات الإنتاجية والإنفاق الهائل على الأجهزة الأمنية على حساب الخدمات الأساسية.
لكن التقرير قد عاد للتأكيد على أن الاحتجاجات لا تتعلق فقط بالصعوبات الاقتصادية، بل من الممكن اعتبارها تتويجٌ لسنوات من الغضب من فساد النظام والقمع والفظائع في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، إلى جانب احتمال تعديل الدستور – والذي يعد القشة التي قصمت ظهر البعير- للسماح للبشير بترشيح نفسه لفترة رئاسية أخرى في عام 2020.
ولم تتمكن الحكومة من حل الأزمة الاقتصادية في السودان والتي تسارعت منذ إلغاء العقوبات الأمريكية في عام 2017 كما يفيد التقرير، حيث تتطلب التدابير اللازمة لتحقيق الاستقرار للاقتصاد ووضع السودان على طريق الانتعاش، إصلاحات سياسية بعيدة المدى – بما في ذلك عقد اجتماعي جديد و ضمانات احترام حقوق الإنسان – يمكن أن تهدد بقاء النظام.
وحتى الآن، أكدت “المؤسسة في التقرير الذي اطلعت عليه “صوت الهامش” ، بأن رد الحكومة السودانية كان طباعة النقود ومحاولة معالجة الأزمة الاقتصادية من خلال التدابير الأمنية، بينما يقوم الرئيس بجولة في دول الخليج بحثًا عن عمليات إنقاذ مالية.
ونوهت “مارسدن” أن أي محاولات لإلقاء اللوم على الخارج، والتحريض على التوترات العرقية، قد أدت إلى نتائج عكسية، وخلق شعورًا أكبر بالتضامن الوطني، ما جعل من غير المرجح أن يكتسب عرض الرئيس البشير بإعادة فتح الحوار الوطني الذي تسيطر عليه الحكومة ، والذي تم إنهاءه في عام 2016 ، قوة في غياب بيئة مواتية، ولا سيما وأن توصياته السابقة لم تنفذ قط.
وعلى الرغم من أن الرئيس أعلن أنه سيتنحى عن سياسات الحزب وتعليق خطط التعديلات الدستورية ، إلا أن الكثيرين يعتقدون أنه يعتزم شراء الوقت والبقاء في السلطة.
وكانت قد وقعت المجموعات السياسية المعارضة الرئيسية في السودان ، بما في ذلك تحالف نداء السودان وقوة الإجماع الوطني ، ومنظمات المجتمع المدني والمهني ، إعلانًا للحرية والتغيير ، يدعو إلى تشكيل حكومة انتقالية ، والسلام والمساءلة وتنحي البشير .
شبكة من المحسوبية:
وبالعودة إلى الوراء قليلًا، نجد أنه في عام 1964 ومرة أخرى في عام 1985 وقف الجيش السوداني في صف التمردات الشعبية لوضع حدٍ سريعٍ للديكتاتوريات العسكرية السابقة، لكن الرئيس البشير قضى السنوات الثلاثين الماضية في العمل على “انقلاب” نظامه.
وقد كشف التقرير عن إنشاء البشير للعديد من قوات الأمن، وميليشيات حزب الظل وجهاز المخابرات والأمن الوطني القوي للغاية، وقام بتسييس الجيش ومؤسسات الدولة الأخرى، ومكّن المطلعين على النظام من السيطرة على القطاعات والشركات الرئيسية في الاقتصاد، حيث يعتبر جميعهم جزء من “الدولة العميقة” في السودان ، وشبكة من المحسوبية تشكل حاجزاً وعائقًا هائلاً لتغيير النظام.
ومع ذلك، قالت “مارسدن” في تقريرها بأن هناك بعض من أعضاء حزب المؤتمر الوطني الحالي لا يرغبون في ترشيح البشير لإعادة انتخابه مرة أخرى.
وفي الآونة الأخيرة ، كان رد البشير على الاحتجاجات، هو التنحي كزعيم للحزب وإعادة وضع نفسه كشخص موحد للأمة، بينما استقطب حليفه الموثوق به “أحمد هارون” كرئيس للحزب بالنيابة للتخلص من المعارضين الإسلاميين، بمن فيهم الموالون للمستشار الرئاسي السابق النافذ “نافع علي نافع”.
وتمامًا كالبشير، يخضع “هارون” لمذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية لارتكابه جرائم يندى لها الجبين في دارفور، كما قام الرئيس بتعيين الموالين في المناصب الحكومية الرئيسية، بما في ذلك “محمد طاهر إيلا” كرئيس للوزراء، و “عوض بن عوف” وزيرًا للدفاع ، ونائبًا أول للرئيس.
وبررت “مارسدن” قرارات البشير الأخيرة وتعديلاته المريبة، بأنه يعتقد أنه قادر على التغلب على الاحتجاجات الحالية – ومواجهة المعارضة داخل النظام – من خلال السيطرة على الجيش وقوات الأمن، حيث تستفيد القيادة العليا للجيش من الناحية المالية من النظام، وقد تم تعديلها مؤخرًا لتعزيز الولاءات، ومع ذلك، إذا استمر الضغط الشعبي والصعوبات الاقتصادية، فإن أولئك الذين يعتقدون أن واجبهم هو حماية الأمة فوق النظام يمكن أن يحطموا صفوفهم.
الاستجابة الدولية
ويحاول الرئيس البشير الحفاظ على الحياد بين الكتل المتنافسة في أزمة الخليج، مع تعييناته الأخيرة وفصله لنفسه من منصب رئيس الحزب الحاكم، ربما كان يأمل في إرضاء مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة، بينما يسعى أيضًا إلى طمأنة قطر من خلال الإبقاء على الإسلاميين الموالين في مناصب عليا.
كما كشفت “مارسدن” عن طموح السودان باحتضان الهيئة الحكومية الدولية للتنمية المعاد تشكيلها من إثيوبيا بل ورئاستها، على الرغم من أن هذا الأمر قد يفشل من جراء الأزمة الحالية.
وبالإضافة إلى شراكته الاستراتيجية الطويلة الأمد مع الصين ، يتمتع السودان بدعم قوي من روسيا – أحد داعميه الرئيسيين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة – كما قام مؤخراً ببناء تعاون عسكري مع موسكو.
وعلى مدار السنوات الثلاث الماضية، تابعت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول أخرى “ارتباطًا مرحليًا” مع الخرطوم ، حيث تعاملت معها كشريك في مكافحة الإرهاب والهجرة والتجارة والقضايا الإقليمية، لكن الاحتجاجات قد تفرض إعادة التفكير.
وقد أدانت اللجنة الثلاثية (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والنرويج) وكندا والاتحاد الأوروبي العنف المفرط للنظام، وحثت على إطلاق سراح المعتقلين، وشددت على الحاجة إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي ، وحذرت من أن مشاركتهم في المستقبل ستتأثر تصرفات الحكومة السودانية.
وأشار التقرير إلى أنه في حال أخذت هذه التحذيرات على محمل الجد، فيجب على الحكومات الغربية تعليق المحادثات حول التطبيع والحوارات الاستراتيجية الثنائية مع استمرار القمع العنيف؛ والانخراط بجدية مع مجموعة واسعة من الأحزاب التي تدعو إلى الإصلاح .
كما طالبت بإنشاء بعثة دولية مستقلة لتقصي الحقائق للتحقيق في الانتهاكات المزعومة مؤخرًا لحقوق الإنسان، مع مراعاة أن التحقيقات المحلية في السودان لم تسفر من قبل عن محاسبة مرتكبيها أو إنصاف الضحايا.
وأختتم التقرير قائلاً “أصبحت الاحتجاجات الحالية حرب استنزاف ، مع عدم استعداد أي طرف للاستسلام. إلا أن الأمر الواضح هو أن الضغط من أجل التغيير سيستمر في الظهور من الشارع السوداني ، وأن الحكومة لم تفصح عن الإجابات للأسباب الجذرية للأزمة.