أمر الساسة والسياسة في السودان يثير الدهشة والأستغراب، بالأمس القريب لُقن الصحفي سيف الدين دروساً في الإستلاب الحضاري من ضيف (الأتجاه المعاكس)، البرنامج الذي ضربت سمعته الآفاق بتقديم الدكتور فيصل القاسمي لحواراته الساخنة بقناة الجزيرة، وكانت قد دارت مداولات حلقة يوم السابع والعشرين من شهر أكتوبر الجاري حول العنوان (ماذا تبقي من العروبة والعرب)، هذا الموضوع محل النقاش جاء بعد السباق المحموم من حكومات بعض البلدان العربية التي من بينها السودان نحو تطبيع علاقاتها مع دولة إسرائيل، لقد دافع سيف الدين دفاع عنتر بن شداد عن قومه بعد أن أطلق سيده العبارة التاريخية المعلومة (كر فانت حر)، وجاءت الضربة القاضية من ضيف البرنامج عندما خاطب سيف الدين بوصف (المستعرب)، المفردة التي أشعلت النار في هشيم دواخل الكاتب والصحفي النحرير الذي ثارت ثائرته وهاجت هائجته وماجت كالثور الأسباني المطعون على سنامه، فقاتل قتالاً مستميتاً من أجل الدفاع عن حياض العروبة المنتهك، تلك العروبة التي لفظها أهلها فاستعان بالمحسنات اللفظية والبديعة للغة الضاد وكل ما جادت به قريحته الأدبية، لكن الناظر في وجه الكاتب والصحفي السوداني الأسمر يرى أثر الصدمة الكهروميغناطيسية عالية الفولتية التي لم يكن قد حسب لها حساباً، وجاءت ردة فعله الصادمة عندما وصف زميله ضيف البرنامج بأنه مجرد (ديك شركسي).
ألتطورات المتسارعة بمنطقة الشرق الأوسط لم تنهي قبضة نظام الإخوان المسلمين على مقاليد السلطة في السودان لوحده، ذلك النظام الذي جثم على صدر المواطن ثلاثين عاماً حسوما وبقوة الحديد والنار، بقدر ما أن هذه المستجدات قد أسهمت بشكل كامل في إسقاط أيدلوجيات اليسار المعهودة من بعثيين وناصريين وبعض من الشيوعيين المستعربين، فرفع المواطن العادي غير المؤدلج حواجب دهشته لتطابق الرؤية بين رافعي لواء (أمريكا روسيا قد دنا عذابها) ومعتنقي شعار (أمة واحدة ذات رسالة خالدة)، فتبين للناس أن الفرق ما بين الكيزان وبين هؤلاء ما هو إلا فارق مقدار ضئيل، فقد ثبت أن جميعهم لا يعبرون عن أيدلوجيا الوطن، وكلهم رهنوا إرادتهم للأفكار المستوردة واستسلموا للمفاهيم المفصّلة على وجدان وثقافة سكان عواصم أخرى – دمشق، بغداد والقاهرة – لا تشبه الخرطوم في اللون والملبس والمأكل والمشرب والطقس، وما كانت اللاءات الثلاث إلا دعاية سياسية لجعل هذا القطر الأفريقي يشغل وظيفة المنظف والماسح لأوساخ عيوب الماكرين، الذين يداهنون إسرائيل في السر والعلن ويطلبون من رجل إفريقيا المريض أن يستقبل وجهه بصق بني يهوذا نيابة عنهم وعن آل يعرب بن قحطان، ويريدونه أن يبقى مريضاً شاحباً وبائساً إلى أبد الآبدين مؤدياً لدور (شيّال وجه القباحة).
إذا كان حملة أيدلوجيا الإسلام السياسي قد خدعوا الشعب السوداني بملائكية وطهارة طرحهم المزعوم، وادعائهم الكذوب بإنزال قيم السماء للأرض وإقامة دولة الخلافة الراشدة التي كان أحد قادتها الخليفة العادل عمر الفاروق، بولوغهم في الكبائر التي حرمها الله من قتل للنفس البريئة ونهب وسرقة لقوت الضعفاء والفقراء والمساكين، فإنّ العروبيين قد امتحنهم الله بتحدي الخروج من الحكومة الإنتقالية إن كانوا حقاً لا يؤيدون تطبيع العلاقات مع (دولة الكيان الصهيوني)، على الناصريين والبعثيين والعروبيين من حزب الأمة أن يقدموا استقالاتهم اليوم وليس الغد من مقاعد مجلسي السيادة والوزراء إن كانوا صادقين، وهنا لابد لنا أن نشيد بموقف البروفسور صديق تاور كافي كوكو الذي قال بما تمليه عليه أجندة الأيدلوجيا التي اعتنقها وآمن بها منذ الصغر، بصرف النظر عن حالة الأستلاب الكاملة التي تتلبسه من أخمص اصبع بقدميه حتى آخر شعرة من شعره الأفريقي الذي بالكاد يغطي فروة رأسه، وإلا فسيعتبرون كسلفهم من الكيزان الذين يتباكون من أجل تحرير بيت المقدس وفي ذات الوقت يعجزون عن دخول الصامدة جوبا التي اعلنوا عليها جهادهم الجهول والظلوم، ففعلوا بأرض الوطن ما لم يفعله أصحاب القضية العربية بأوطانهم.
ألسودان مصيدة الأيدلوجيات الدخيلة لم يفتح الله عليه بمفكر وملهم ومبتدع وطني له من العبقرية والذكاء ما يقدم به مشروعاً سياسياً وطنياً خالصاً لا يعتد بأطروحات المدارس الغريبة على بنيته الاجتماعية والنفسية، لقد ظل طوال الزمن رهين للإشارة المسلطة عليه من دمشق والقاهرة وبغداد، أما آن له الأوان ليحتفي بمنتوجه الخاص من الفكر والإبداع المفاهيمي الذي يتوائم مع طبيعة الأرض والإنسان، لقد حاول شهيد الفكر الأستاذ محمود محمد طه أن يؤسس لمثل هذا المشروع الجامع بين السياسة والدين والقضايا الوطنية لكنه أخفق، وبعده طرح الراحل الدكتور جون قرنق أطروحة السودان الجديد المسنودة بالفكر والسلاح، لكن تآمرت عليه القوى الإمبريالية فنحرته على قمم جبال الأماتونج، والشاهد على تاريخنا القديم والحديث يجد أن الفكرة تموت بموت رائدها كما هو الحال لكل من المهدي ومحمود وقرنق، فجلود السودانيين لن يحكها إلا الظفر الذي نبت من بين فجاج خلاياها، والإفاقة من غيبوبة الإستلاب الأيدلوجي والعرقي تتطلب أن يكون للأمة رائدها الذي لا يكذبها، كما للهند غاندي ولجنوب أفريقيا مانديلا ولرواندا كاقامي وللإمارات الشيخ زايد.
إسماعيل عبد الله
[email protected]
29 أكتوبر 2020