بقلم عثمان نواي
“You have got to disturb the peace, when you can’t get no peace.”
Aretha Franklin, black American artist
مضي على اعتصام نيرتتي ٥ ايام دون وعود كاذبة حتى من حكومة ” الثورة”. ولازال كثير من النشطاء يعيبون نضال اهل مناطق الحروب وحملهم السلاح وكأن هذا هو خيارهم من بين كثير من السبل لنيل الاهتمام واسماع الصوت. حيث ان ادانة حمل السلاح فى مناطق النزاعات فى السودان توضح الجهل الكبير بتجربة حياة السودانيين فى تلك المناطق تاريخيا كما أنه تأكيد على الامتيازات التى يتمتع بها الذين يستطيعون ان يتظاهروا سلميا دون ان يتم قصفهم بالطائرات او حرق قراهم ودفنهم فى مقابر جماعية.
فهذه المناطق هى تمثل حزام نزاعات ومقاومة مستمرة من أجل الحرية من قبل سكانها ضد محاولات الاستغلال منذ مئات السنين. فحزام النزاعات فى السودان هو نفسه حزام تجارة الرقيق واستغلال السودانين سود البشرة منذ قرون. وقد صمدت شعوب هذه المناطق عبر القرون ونجت من عمليات نهب مستمرة للبشر والثروات عبر سلاح المقاومة. وهذا السلاح تاريخيا هو سلاح الحرب وليس النضال المدنى.. فلم يكن ممكنا الاعتصام او التظاهر ضد تجار الرقيق او امام زرائب الزبير باشا فى اعالى النيل والاستوائية، ولم يكن ممكنا الإضراب ضد هجمات جنود المهدية بحرق الشطة على مداخل الكراكير فى الجبال حتى يجبروا الاهالى المختبئين هناك من هجمات صيد الرقيق للخروج لصيدهم كرقيق او الموت اختناقا. وتروى القصص الشعبية ان الكثيرين اختاروا حرية الموت على الحياة مستعبَّدَين. هذا طبعا إضافة الى حملات الاستعمار التركى والانجليزي العسكرية بالعشرات لاخضاع اهل الجنوب ودارفور وجبال النوبة الثائرين على الاستعمار الأجنبي حتى بعد اكثر من عشرين عاما على توطيد الاستعمار سلميا فى شمال ووسط السودان. اذن حمل السلاح لم يكن ابدا سوى ما تعلمه اهل مناطق النزاع من كل المعتدين عليهم عبر القرون.
ان خيارات المقاومة والنضال من أجل الحرية تبدأ من ذاكرة وتجارب الشعوب المريرة ولكنها مشرفة وثابتة وهى مما يجب ان يفخر به كل السودانيون، ان لهم أخوة لم يقبلوا غير الحرية والكرامة بديلا، ولو على أرواحهم ودفعوا الغالى والنفيس لأجل ذلك. اما الان ونحن نقف أمام مرحلة شعر فيها مؤخرا اهالى تلك المناطق ببعض الأمن من البراميل المتفجرة من طائرات الانتنوف، فهاهم يختارون سلاح المقاومة الاخر وهو الاعتصام والتظاهر. رغم انهم لازالوا يواجهون ويعيشون حالة حرب، فهم يتم قتلهم يوميا من المليشيات المسلحة ويتم اغتصاب نسائهم ويتم حرق قراهم. ولكن اعتصام اهل نيرتتي الان هو شهادة على ثقة الشعب فى حكومة الثورة التى ياملون ان لا تقتلهم كما فعلت الحكومة السابقة او التى قبلها. فهى صوت يعطى الثقة فى حكومة ياملون فى ان تسمعهم لا ان تسكت أصواتهم الى الابد عبر ابادتهم. وان صمّ الاذان هذا عن مطالب اهل نيرتتي وعدم التواصل معهم او محاولة الاستماع لهم من قبل الحكومة تعتبر وصمة عار أخرى تنزع كثير من الثقة فى حكومة توجّب عليها ان تضع السلام فى موقع الأولوية كما تعلن رسميا كل يوم.
ان سلمية ومدنية النضال فى وطن أطول الحروب الأهلية فى أفريقيا هو امتياز لا يتمتع به الجميع. فالذين ولدوا على أصوات البنادق وفى داخل المعسكرات كنازحين منذ عقود ، يتعلمون الاختباء من الرصاص قبل المشي. والذين لا يجدون أمامهم فرصة عمل او حماية من الموت الا تحت الكاكى والبندقية اى كان الشعار الذي يحمله لا يتمتعون بامتياز اختيار السلمية. ولكن انتزاع مساحة الاعتصام السلمى هذه هى نتاج نضال مشترك لكل السودانيين عبر ثورة مستمرة منذ عقود ويجب حماية مكتسبات مساحة النضال السلمى هذه بالاستجابة لها بجدية وحساسية فائقة. فإن الغضب والأحباط هو أول شرارات العنف. واعتصام نيرتتي البديع التنظيم هو دليل على ان أساليب العمل المدنى وقيادة العمل اللاعنفى لم تعد محتكرة على أبناء المدن والزبائن المعتمدين فى ورش التنظيم المدنى لابناء الأفندية. بل ان اتساع آفاق المعرفة بالهجرة القسرية والديمقراطية المعرفية التى صنعتها التكنلوجيا جعلت من الممكن لأهل قرى وارياف أطراف السودان خلق مساحاتهم من النضال المدنى الفعال. والان بعد مرور اسبوع كامل من الاعتصام، على الحكومة ” المدنية” ان ترتقي الى حجم التحدى فى تغيير مسار تحقيق المطالب فى السودان وتحويل عملية نيل المواطنة المتساوية الى مساحة نضال مدنى سلمى لانحتاج فيه سوى الى أصواتنا فى الهتاف والاحتجاج ان كان هناك ما يستوجب الغضب او أصواتنا فى صناديق الانتخابات لاختيار من يمثلنا. والفرصة الان فى يد الحكومة الانتقالية ،اما تغير التاريخ او تواصل تكرار اخطاؤه. فان عدم الاهتمام لمطالب اهل نيرتتي هو عار كبير لا يجب ان يستمر اكثر من ذلك.
[email protected]