بين يدي ذكرى الاستقلال الثانية والستون يقف الوطن منخورا حتى النخاع بجراح الهوية الغائرة في جسده الهزيل. ناظرا إلى المستقبل الغائم بعيون حائرة، لا يقوى على الحلم ولا يمتلك ترف الإنتظار ليرى ما ستحمله مقبل الايام. للأسف ان ذاكرة السودان الوطن خلال هذه الستين عاما الماضية هي ذاكرة الحروب والقتل والديكاتوتريات والثورات الفاشلة. هي ذاكرة الفقر والتشريد والنزوح والفساد والانفصال والهوس الديني والقمع. ذاكرة الهزائم الأخلاقية والتفكك الاجتماعي والنخب الهاربة من مواجهة هذه الذاكرة المشحونة بكل ما يحطم حلم الوطن المستقل الذي يحمي كرامة مواطنيه.
بعد ستين عاما من الاستقلال لا زال السودان يدور في فلك البحث عن إجابات وحسم لاسئلته الأساسية الكبري. على بعد ستين عاما لا زال السودان كدولة ووطن يواجه سؤال أن يكون أو لا يكون ويبحث عن اجابة اسئلة الوجود وكيفيته وغاياته ومعانيه. ان هذا الوطن الذي شاخ وهرم لو كان مسيرة انسان فهو الان يقف على أبواب المعاش، وقد ترك المستقبل أمامه ولا خيار له سوى حمل أعباء الماضي إلى القبر. لكن بما ان هذا وطن، فإن الأوطان لا تموت ولا تشيخ بل تنمو وتتطور أو تنهار وتتفتت. وعلى أعتاب ذكرى الاستقلال هذه يقف السودان على حافة الخيار الثاني وهو الانهيار والتفتيت.
للأسف ان صناع الاستقلال لم يكن لديهم أي رؤية واضحة لما يجب أن يكون عليه السودان بعد نصف قرن من استقلاله. لذلك قاموا في لحظات الميلاد الأولى بارتكاب أخطاء كارثية عديدة ألقت بعبئها على عاتق كامل الوطن الي هذه اللحظة. فلقد اشرئبت أعناق صناع الاستقلال من شرفات الوطن نحو الخارج بحثا عن الروابط التي تشد أساسات بناء الوطن. وذلك البحث خارجا تمثل في ذلك التعويل على روابط العروبة والإسلام مع الخارج بدلا عن النظر والبحث عميقا عن تلك الروابط الداخلية المحتملة التي كان بإمكانها شد أواصر الإخاء والتعايش بين مكونات الشعب السوداني المختلفة والمتنوعة.
فبعيدا عن سؤال الهوية وخيارات العروبة والإفريقانية على مستوى البعد الثقافي، فإن خيار صناع الاستقلال على مستواه السياسي في الارتباط بالمحيط العربي على حساب صناعة أرضية مشتركة للمواطنة في الداخل كان هروبا من مواجهة تحدي التنوع في السودان. ففي ذكرى الاستقلال كثيرا ما يتم ذكر اسماء لها تاريخ مثل محمد أحمد المحجوب وضرب المثل بقدراته الفائقة في السياسة الخارجية، لكن للأسف أن ذات الرجل الذي كان له دور تاريخي في صناعة الوحدة العربية وأيضا الوحدة الأفريقية وصناعة المنظومات الإقليمية التي وحدت دول كانت في بواكير نشأتها، هذا الرجل نفسه لم يتمكن من صناعة وقيادة مجهودات مماثلة لصناعة ذات الوحدة واستخدام مهاراته التفاوضية وقدراته الدبلوماسية على المستوى الداخلي لصناعة توافق سوداني سوداني يحمي وطنه من مستقبل التفكك وواقع الحرب الأهلية التي كانت دائرة للأسف حتى أثناء فترة حكمه للبلاد كرئيس للوزراء.
ان هذا التناقض في دور النخب السياسية السودانية صانعة الاستقلال يبدو مثل خلل في التصنيع، وليس مجرد عطل قابل للإصلاح. فقد تواترت الأجيال، وظلت النخب السياسية والثقافية السودانية ترتكب ذات الأخطاء وتكرر نفس الحلول التي لم تنتج سوى أزمات أدت إلى الواقع الذي تعيشه اليوم. ورغم أن السودان لم ينجب محجوبا آخر قادر على لعب دور إقليمي فريد، ولكنه أنجب (محجوبون) كثر قادوا البلاد بنفس التجاهل للواقع الوطني كما فعل هو أثناء فترة حكمه أو ممارسته السياسة التي امتدت طوال حياته. والمحجوب ما هو إلا مثال علي فشل النخب السودانية في النظر بعمق وجدية لداخل الوطن، في مقابل تميزهم الظاهر خارجه.
لا يمكن تفسير هذا الخلل التصنيعي بسهولة لكن على المستوى النفسي، فيبدو أن تلك النخب التي سافرت الي الخارج الأكثر تطورا وحداثة من السودان ، سواء عربيا أو غربيا، انها عانت من صدمة حضارية جعلتها أسيرة لتلك الصورة الذهنية والأطار الظاهري للحداثة والتطوير. ولذلك قامت تلك النخب على المستوى النفسي والذهني بالقفز على واقع السودان المعقد بحثا عن حلول سهلة للوصول إلى ذات النتيجة التي وصلت إليها دول يعتقدون انها متطورة سواء في لمحيط العربي أو في الغرب، اما أفريقيا في ذلك الوقت فلم تكن في الحسبان ابدا لتلك النخب المتطلعة نحو الحضارة والتمدن. لذلك ربما كان خيار التوجه عربيا هو محاولة اخري للقفز نحو المستقبل عبر نقل الثقافة من الدول المتوسطية مثل مصر وسوريا ولبنان والعراق التي كانت أكثر حداثة ربما على مستوى المدن الكبرى والجامعات والصحافة والإنتاج الأدبي. وكانت تلك هي مجالات اهتمام تلك النخب والتي ظنت انها عوامل كافية للتحديث.
ولكن على أرض الواقع السودان كان دولة لا تشبه اي دولة أخرى لا في المحيط العربي ولا حتى الأفريقي. حتى يتم نسخ جاهز لمستوى التحديث أو التمدن أو اسلوب إدارة الدولة. فحتى نوع الاستعمار ألذي شهده السودان كان فريدا من نوعه اي استعمار دولتين من ثقافتين مختلفتين . ورغم هيمنة الإنجليز سياسيا الا ان المصريين كان لهم تأثير ثقافي كبير ناتج عن تاريخ الحكم التركي السابق والقرب الجغرافي والتاريخي. لذلك فإن النخب التي تنظر إلى الخارج بدلا عن النظر إلى الداخل اختارت اختلاق ذلك التماثل الذي لم يكن موجودا في الواقع. وافتراض أن السودان دولة عربية إسلامية وأمة ذات ثقافة ولغة واحدة. هذا الخيار كان له طابع سياسي أيضا، فتلك النخب انحازت الي انتمائاتها الثقافية الذاتية وغضت النظر عن واقع التنوع الثقافي في السودان وبالتالي حصرت المنافسة السياسية في الانتماء إلى ثقافة ولغة تلك النخب عبر فرض الأمر الواقع.
لكن الأسوأ ليس فقط تجاوز حقيقة التنوع الثقافي، بل تجاوز حقائق التخلف والفقر والقبلية والسيطرة الدينية والتفاوت التنموي. فبناء وطن يتطلب نظرة كلية عميقة ونزول الي الأرض لبناء ثقة المواطن العادي والتواصل معه وصناعة حلول تشبه حقائق الواقع المعاش. لكن النخب السياسية السودانية تعاملت بعقلية الفكي الذي يعلم كل شي ولا يحتاج إلى بحث ولا دراسة للحقائق على أرض الواقع. لذلك كانت السمة العامة لمشاريع الدولة الجديدة وإدارة المشاريع القائمة هي الفشل التام. والسبب كما درسنا في مقررات المرحلة الثانوية هو سوء التخطيط وسوء الإدراة. ومن المعروف أن أهم أسباب نجاح أي مشروع هو إجراء دراسات ميدانية متعمقة . لكن النخب السياسية لم تكن لها أي رغبة في النزول إلى الميدان والاصطدام بواقع التخلف والفقر والمعاناة. على العكس فإن الدول التي نجحت ما بعد الاستقلال وحتى مثال مصر بعد ثورة يوليو كانت تلك التي تنزلت نخبتها إلى ارض الواقع وواجهت أزمات المواطنين مهما كان تعقيدها بدلا عن الهروب منها بحثا عن نماذج جاهزة لتطبيقها. بل اجتهدت تلك النخب وبحثت داخل مجتمعاتها وصنعت حلولها الخاصة بها. فغاندي مثلا عندما عاد من جنوب أفريقيا حيث كان يعيش ووصل إلى الهند قام برحلة لكل قرى الهند جنوبا وشمالا قبل أن يتحدث كلمة واحدة في السياسة وقال انه يريد ان يعرف البلاد والناس قبل أن يتحدث بالنيابة عنهم ولذلك كانت كل حلوله مستوعبة لتاريخ البلد وتنوعها. فكان النموذج الهندي والمصري والماليزي وهناك أيضا نماذج أفريقية مثل غانا ونيجيريا والان إثيوبيا تشهد نهضة واسعة كلها نابعة من النظر إلى الداخل وليس إلى الخارج.
لكن النخب السودانية مارست الكسل الفكري والتعالي الاجتماعي ولم تجتهد أو تعمل لصناعة النموذج السوداني. بل ظلت تمارس لعبة الهروب من مواجهة واقع السودان المعقد المتنوع تارة مختبئة في حلم الوحدة والأمة العربية وتارة مختبئة خلف شعارات الأمة الإسلامية. وكلاهما نماذج لا تناسب واقع السودان المتعدد. ولذلك بعيدا عن جدل الهوية، فإن النخب التي صنعت الاستقلال ومن أتى بعدهم من النخب السياسية السودانية خنقوا حلم بناء الدولة السودانية والوطن المستقل في مهده عبر خيارات الهروب الي الامام بدلا عن النظر في عمق هذا الوطن والبحث عن سبل صناعة نموذج سوداني كان ممكنا قبل ستين عاما، ولكنه الأن يبدو أكثر صعوبة لدرجة تقترب من الاستحالة في ظل استمرار هذه النخب في صناعة ذات الحلول التي أدت إلى ذات الأزمة بدون اي شجاعة لمحاسبة الذات وإيقاف هذا الدمار.