عثمان نواي
من المؤسف ان كثير من أصحاب عقلية “شكرا حمدوك” ،الذين يفترض بانهم من طلائع التغيير يسألون اسئلة تعتبر بديهية فيما يتعلق بالواقع السودانى فى مناطق النزاعات ،خاصة حول التزام حركات المقاومة المسلحة باجندة تفاوض معينة والثبات على تلك المطالب. خاصة الحركة الشعبية لتحرير السودان التى تلتزم أمام جماهير شعبها باجندة اساسية من ضمنها تقرير المصير والعلمانية كاسس لبناء اتفاق سلام بعد حرب وابادة مستمرة منذ ما قبل الإستقلال وليس عهد الكيزان فقط، كما يريد ان يضع البعض كافة عبء أزمة السودان التاريخية على بعير الإنقاذ الساقط حتى يتم غلق الملفات بسقوط الكيزان، فهم لا شك ارتكبوا أفظع الجرائم، ولكنهم لم يقوموا بما هو نشاذ عن حكومات سبقتهم ومنها حكومات ديمقراطية وربما اكثر ” مدنية” من حكومة حمدوك بتعبير اليوم مثل حكومة ثورة ١٩٦٤ او حكومة انتفاضة أبريل او قبلها من حكومات ديمقراطية مثل حكومة الأزهرى اى حكومة الاستقلال نفسها التى كانت اكثر “مدنية” من حكومة حمدوك الان ومن اى حكومة أخرى لكنها إرتكبت ما إرتكبت من جرائم فى الجنوب. اما حكومة الصادق المهدي فالجميع يعلم ما قامت به من تجنيد المراحيل وكل ذلك النزيف فى جنوب كردفان والجنوب، مما أدى الى انخراط معظم اهالى جبال النوبة فى القتال ضد الحكومة المركزية فى أواخر الثمانينات.
ومن يظن ان الحديث فى هذا التاريخ القريب جدا هو اجترار لمرارات الماضى فعليه ان يعلم ان من أهم مفاتيح الانتقال السياسي الناجح هو إيجاد ضمانات لعدم تكرار أخطاء التاريخ القريب ناهيك عن البعيد. هذا إضافة الى الحاجة الى بناء جسور الثقة المفقودة اصلا تجاه كل تشكيلات الحكومات المركزية سواء كانت ثورية ام لا. فيبدو ان الكثيرين من النخب المركزية لاتزال ترى السودان فى حدود مثلث حمدى، وتتعمد اغفال حقيقة ان الثورة لدى شعوب مناطق النزاعات لم تبدأ فى ١٩ ديسمبر ٢٠١٨ ،هذه هى ثورة المناطق التى لا تعيش حالة مقاومة مستمرة وثورة دائمة منذ ما قبل قدوم الإنقاذ نفسها، ام ثورة اهالى مناطق المقاومة فهى ثورة استمرت لعقود وبالتالى استمر النضال وقتال الكيزان حتى النفس الاخير. ولكن ذات الأسباب التى حركت الثورة ضد الحكومات ماقبل الكيزان لاتزال موجودة ما بعدهم. لذلك فإن الافتراض بأن سقوط الكيزان سوف يعنى اتوماتيكيا انتهاء كل أسباب النزاعات، فإن هذا الافتراض فى حد ذاته هو افتراض شديد التعالى والاقصاء وهو احد أشكال الوصاية المستمرة على اهالى السودان فى مناطق النزاعات وهذا التفكير بالوصاية هو أول ما يجب تغييره فى اللحظة الراهنة لإثبات ان هناك قاطرة تتجه نحو التغيير.
ان مواقف الحركات المسلحة إنما تعبر عن جماهير شعبها والتزامات تاريخية اتجاههم ومطالب تاريخية من تلك الشعوب ظلت تتكرر منذ الاستقلال. والحقوق فى النهاية تنتزع ولاتمنح ،وأن كانت وسيلة الحرب كانت هى سبيل المقاومة الوحيد طيلة سنوات عديدة فإن أدوات المقاومة الان تتسع كما ان رقعة المقاومة نفسها تتسع حتى انها تصل الى المركز نفسه . ان متطلبات التغيير وبناء دولة العدالة والمساواة لا تنحصر فى سقوط الإنقاذ او فى الدولة المدنية فقط بل تبدأ من هنا لتفكيك ليس فقط دولة تمكين الكيزان ولكن لتفكيك دولة الهيمنة الأحادية المركزية منذ الاستقلال ،فهل بمقدور الحكومة الحالية البدء فى إجراء هذا النوع من التفكيك المطلوب حتى يتمكن كل السودانيين من التمتع بذات الحقوق بنفس الدرجة فى كل مناطق السودان ؟ هذا هو سؤال المرحلة حول ملف السلام وهو سؤال موجه للحكومة الانتقالية صاحبة السلطة ولا يمكن ابدا ان يتم مطالبة من لايملكون السلطة بتقديم التنازلات دون اى ضمانات او اى مقابل واضح. فحتى ما يسمى بالمؤتمر الدستوري المنتظر، فإنه ليس تصور هلامى وضع منذ اتفاق اسمرا ولم يتحقق ابدا، والسبب هو انه مجرد آلية مماطلة وتسويف. لازال امام الحكومة الانتقالية فرصة تاريخية لإنهاء كل النزاعات فى السودان ولكن هناك حاجة لشجاعة تاريخية ترتقي لحجم التحديات لايبدو انها متوفرة خاصة فى ظل شراكة الحكم مع العسكر والجنجويد.
[email protected]