تتكرر هذه الأيام التحليلات حول احتمال وقوع انقلاب من الجيش على النظام سواء كان ذاك الانقلاب من قبل أفراد ينتمون للحركة الإسلامية أو من أفراد مستقلين أو وطنيين. وهناك أيضا سيناريو انقلاب القصر الذي ربما يكون الأكثر ترجيحا في ظروف النظام والمعارضة الراهنة التي تتسم جميعا بالضعف والحيرة.
لكن أي كان الوضع فإنه من المؤسف أن الساحة السياسية وخاصة أوساط المعارضة والمثقفين مازالوا يرون في الانقلابات اي كان مصدرها حلا لأزمة السودان. ان هذه البلاد حكمت بشخصيات عسكرية اي كان خلفيات فكرها السياسي لأكثر من 50 عاما من تاريخ السودان. كما أن المؤسسة العسكرية السودانية القائمة منذ الاستقلال هي مؤسسة لا يمكن أبدا النظر لها كمخلص للوطن من ازماته. فهي كما ذكرنا حكمت السودان بالفعل كمؤسسة وعبر أفراد خارجين من المؤسسة وان تحالفوا مع قوى سياسية على الأرض إلا أن المؤسسة نفسها كان لها دورها الأساسي في احتكار السلطة.
فإنقلاب عبود كان معتمدا على دعم حزب الأمة وانقلاب نميري كان يعتمد على دعم من الحزب الشيوعي أو على الأقل التوجه اليساري والاشتراكي لنميري في البداية كانت تتجه للقرب من معسكر اليسار. في مابعد ثورة أبريل حكمت المؤسسة العسكرية بشكل غريب لم يكن يجدر به الحدوث بعد قيام ثورة شعبية. ورغم تسليم الحكم للأحزاب لكن سيطرة المؤسسة العسكرية بعد قيام ثورة كان مؤشرا على أن تلك الثورة لن تصل ابدا إلى غايتها بعد أن سلمت نفسها للعسكر الذين ثارت عليهم. وفي النهاية أتى حكم الإنقاذ الذي انطلق من قاعدة دعم الحركة الإسلامية. وبين كل تلك الانقلابات الحاكمة قامت إعداد لا تحصى من الانقلابات التي قادتها معظم القوى السياسية الموجودة على الساحة السياسية السودانية من المركز والهامش أيضا. وفشلت جميع الانقلابات التي حدثت أثناء حكم انقلابات أخرى. بل وكانت نهايتها مأساوية ودموية للغاية بالنسبة للانقلابيين علي النظم العسكرية. فلم يتمكن اي انقلاب في تاريخ السودان من الإطاحة بحكومة انقلاب آخر.
النقطة الأخرى الهامة في ما يخص المؤسسة العسكرية السودانية هي أنها في الحقيقة تشكل بعدا خطيرا في تهديم الكيان السودانى ومشروع قيام دولة المواطنة والحقوق المتساوية. فهذه المؤسسة العسكرية السودانية ظلت تخوض حروبا دموية ضد أجزاء من الشعب السوداني منذ ماقبل الاستقلال وحتى الآن. فالجيش السوداني لم يخوض اي حرب لحماية حدود الوطن من إعداء خارجيين منذ الحرب العالمية الثانية، ولكنه في حالة حرب مستمرة ضد مجموعات معينة من الشعب الذي من المفترض به حمايته. فالجيش السوداني يقتل شعبه بدلا من أن يحميه طوال 60 عاما منذ استقلال السودان. ان هذه المؤسسة لا يمكن أبدا تسليمها أمر هذا الوطن مرة أخرى مهما كانت الظروف. خاصة ما لم تتم إعادة هيكلة تامة. ولكن في كل الأحوال، فإنه لأجل مستقبل مستقر وسلام دائم فإن المؤسسة العسكرية يجب أن يتم إخراجها تماما من الحياة السياسية في السودان. فلقد فعلت ما يكفي بهذا الشعب الي الان.
ان حالة انهيار الجيش نفسه واحلال مليشيات مكانه ليس فقط سببها صراعات الحركة الإسلامية، ولكن أيضا ضعف العقيدة الوطنية الصحيحة التي أدت إلى أن يكون الجيش السوداني هو جيش يخدم مصلحة الحكام الذين هم جزء من الجيش. وهؤلاء الحكام بالطبع لم يكونوا ابدا وطنيين، بمعنى الوطنية التي تحمي الأرض بكل سكانها وحدودها، بل كانوا دوما حكاما يحمون مصالح مركزية أثنية نخبوية وعنصرية على حساب بقية الشعب السوداني. إذن فإن أي تعويل على المؤسسة العسكرية في إنهاء هذا النظام هو مجرد عملية انتحارية ستقوم بإعادة تسليم البلاد إلى ذات النظام العميق الذي أنتج النظام الحالي والذي لا يمكن أن ينتج إلا أمثال هذا النظام.
فهذه المؤسسة العسكرية بتاريخها وعقيدتها العسكرية الحالية لا يمكن أن تنتج سوي بشير اخر او نميري آخر، اي ديكتاتور آخر. إذن السؤال هل أدمنت النخب السياسية والمعارضة في السودان هذه الحلول الفاشلة التي يعلمون نتائجها. والي متى ستستمر حالة انعدام الابتكار والكسل الفكري وعدم الجدية والرغبة الحقيقية في تحمل المسؤوليات التاريخية التي يجب أن تقوم بها هذه النخب السياسية والثقافية لكي يتم بناء سودان مختلف جذريا عن الذي نعيشه الان. فال متى يستمر هذا الخوف من تحطيم المعابد. فالسودان ظل رهينا بما يكفي لمعابد العسكر والإسلاميين والعروبيين بشكل متساوي، وقد حان الوقت لتحطيم هذه المعابد جميعا وتحرير هذا الوطن بشعوبه المتنوعة من هذه القيود التي أخرت هذا الوطن وحطمته وقسمته.