واشنطن _ صوت الهامش
قالت وكالة “أسشيوتد برس” الأمريكية أن ما يقرب من أسبوع من الاحتجاجات في أرجاء “السودان” كان كفيلاً لفضح عدد من نقاط الضعف التي تهدد قبضة الرئيس السوداني عمر البشير على السلطة التي استمرت 29 عاما.
وأفادة “أسشيوتد برس” في تقرير لها ،بأنه على الرغم من القبضة الشديدة للشرطة، والتي قيل أنها قتلت 37 متظاهراً على الأقل، فإن رد “البشير” كان ضعيفاً، حيث غادر العاصمة قبل مسيرة يوم “الثلاثاء” إلى قصره، وكان يتحسس وغامض في معالجة الأزمة الاقتصادية التي أدت إلى اندلاع الغضب.
ولعل الأكثر إثارة للقلق بالنسبة “للبشير” وهو الإسلامي الذي جاء إلى السلطة في انقلاب عسكري عام 1989 ، الأجهزة العسكرية والأمنية القوية التي لم تبد سوى دعمًا فاترًا له في خضم الاضطرابات.
في الشوارع ، لم تكن المعارك الطويلة مع الشرطة يوم “الثلاثاء” في الخرطوم قد شجعت السودانيين على الصدام المتكرر مع قوات الأمن مرات ومرات.
وقال ائتلاف من النقابات المهنية التي نظمت مسيرة يوم “الثلاثاء” في بيان بعد ذلك: “اليوم ، نحن الشعب السوداني، عبرنا نقطة اللاعودة على طريق التغيير، وسنلاحق جميع خيارات الإجراءات السلمية والشعبية حتى نقضي على النظام الذي يواصل سفك الدماء. واليوم ، أكثر من أي وقت مضى ، نحن واثقون من قدرتنا الجماعية على إدراك ذلك “.
ولفت التقرير الذي اطلعت عليه (صوت الهامش) أن البشير ، الذي هو في منتصف السبعينيات من عمره ، أخمد نوباتين سابقتين من الاحتجاجات وقد يقوم بذلك مرة أخرى، لكن من الواضح أن حكم واحد من أطول القادة خدمة في الشرق الأوسط بدأ يتلاشى.
قيادة البشير
احتفظ الزعيم السوداني بالسلطة على الرغم من سلسلة من النكسات الرئيسية خلال العقد الماضي.
كانت الأولى في عام 2010 عندما وجهت إليه المحكمة الجنائية الدولية اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية في إقليم دارفور. وتمكن من بناء علاقات خارجية منعت عزلة بشكل تام، لكنها خفت بسبب وصمة العار.
وأشار التقرير أن الانهيار الأكثر قسوة كان في عام 2011 هو انفصال السودان عن الجنوب الذي كان في الأصل من المسيحيين، وجاء الانشقاق الذي أقر في استفتاء أجراه الجنوبيون بموجب اتفاق سلام وقعه البشير والذي أنهى حربا أهلية استنزفت لعقود طويلة، لكن مع استقلالها، أخذ الجنوب معه ثلاثة أرباع الثروة النفطية في السودان.
ولفت أن اقتصاد الشمال جاهد منذ ذلك الحين، ففي الأشهر الأخيرة، خفض البشير العملة، مما تسبب في ارتفاع الأسعار وتفاقم الصعوبات التي يواجهها معظم السودانيين، فالجمهور يتصارع بالفعل بسبب نقص الوقود، وثبت أن قرار رفع سعر الخبز هو الشرارة التي أدت إلى اندلاع الاحتجاجات الأخيرة.
وقال التقرير أن البشير لم يفعل الكثير لمساعدة نفسه، فقد توجه إلى منطقة جنوب العاصمة قبيل مسيرة يوم الثلاثاء في قصره، حيث كانت رحلة مجدولة سلفًا، ولكن تم تفسيرها على نطاق واسع على أنها خوف.
وهناك ، حاول أن يبرهن على قوته ، لكن خطابه في مسيرة في الهواء الطلق حضرها عدة مئات من الأشخاص كان باهتًا، معتمدًا على اقتباسات من القرآن متعهدًا بأن الله سيرزق الناس.
ووعد البشير في خطابه بإصلاحات اقتصادية، لكنه لم يذكر تفاصيل، كما ألقى باللوم في الازمة على اعداء غير معروفين للسودان، ووصف المتظاهرين بالخونة والمرتزقة والوكلاء والهراطقة، بعد ذلك أدى رقصة شعبية على أنغام الموسيقى المحلية بينما كان يلوح بعصاه.
الدعم المحلي
ونقل التقرير أن البشير لا يزال يهيمن على الطبقة السياسية السودانية، حيث يحشد المشرعين الموالين له لدعمه بهدف إدخال تعديلات دستورية تسمح له بالترشح في انتخابات 2020.
لكن قاعدته الحقيقية هي القوة العسكرية التي هيمنت على السودان منذ الاستقلال عام 1956. وكانت دعمة له في الاضطرابات أقل من مداهنة.
في بيان يوم الأحد، بعد عدة أيام من الاحتجاجات، قال الجيش إنه يقف وراء قيادة البلاد، لكنه لم يذكر البشير بالاسم، وبدلاً من ذلك ، تحدث عن الحفاظ على أمن البلاد و “الإنجازات”.
وفي وقت لاحق من هذا الأسبوع ، ألقى قائد قوة شبه عسكرية قوية، المسؤول المباشرة لما آلت إليه السودان على “البشير” وقدم انتقادات حادة لحكمه، حيث دعى الفريق “محمد حمد دقلو” من قوة الدعم السريع الحكومة إلى “تأمين الخدمات والوفاء بواجباتها وإيجاد وسائل للحياة الكريمة” للشعب السوداني.
وقال: “إنه يجب إيجاد حل جذري وواقعي للأزمة الاقتصادية في السودان” ، ودعى إلى محاسبة “الأفراد الفاسدين الذين يقومون بتخريب الاقتصاد”.
الحلفاء الإقليميون
كان هناك نقطة ضعف أخرى محتملة في حكم البشير، ألا وهي صمت حلفائه العرب، حيث أعلنت دولتان فقط من دول الخليج “البحرين وقطر” علناً دعمها للبشير، غير أنه لم ترد أي كلمة من أهم مؤيديه، كالمملكة العربية السعودية أوالإمارات العربية المتحدة، حيث قدم البلدان منذ فترة طويلة دعمًا ماليًا للخرطوم، كما سعى البشير إلى تعزيز العلاقات أكثر من ذلك بإرسال قوات سودانية إلى اليمن للقتال إلى جانبهم ضد المتمردين الموالين لإيران هناك.
وأكد التقرير أن صمتهم يشير إلى ما يعتبرونه حليفًا غير موثوق به، فالرئيس السوداني في نقاط مختلفة أقام علاقات وثيقة مع كبار المنافسين للسعوديين والإماراتيين – إيران وتركيا وقطر – على ما بدى أنها محاولة للعب مع جميع الأطراف ضد بعضهم البعض لاستخراج المزيد منهم.
كما امتنعت جارة السودان في الشمال “مصر” عن الإعراب عن دعمها للبشير، حيث استقبل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي البشير لسنوات، على أمل تأمين حسن نيته في نزاع مصر مع إثيوبيا بشأن بناء ذلك البلد لسد ضخم تخشى “مصر” أن ينخفض بسببه نصيبها من نهر النيل، لكن البشير الزئبقي اقترب أكثر من إثيوبيا وأثار نزاعاً حدودياً طويلاً مع مصر.
وتجنبت الدول الغربية بشكل كبير البشير، منذ اتهامات المحكمة الجنائية الدولية، لكنهم يظلون مانحين رئيسيين للمساعدات للسودان، حيث طالبت الولايات المتحدة وكندا والنرويج وبريطانيا الخرطوم بالتحقيق في “تقارير موثوقة” بأن قوات الأمن السودانية استخدمت الذخيرة الحية ضد المتظاهرين. وفي بيان مشترك ، أشاروا إلى الحق الدستوري للسودانيين في الاحتجاجات السلمية ووصفوا مطالبهم بأنها “شرعية”.
تعليق واحد
خونة وعملاء ومرتزقة ومندسون استغلوا الضائقة المعيشية للتخريب والعمل على خدمة أعداء السودان”، هكذا وصف المشير عمر البشير آلافا من أبناء الشعب السوداني خرجوا مطالبين برغيف الخبز. وكأن المشير لا يعلم أن في نعت الشعب بهذه الصفات إدانة مباشرة له، ولحكمه المزمن، أكثر مما فيه إدانة للفقراء الغلابة. وإلا كيف يرضى البشير البقاء ثلاثة عقود على رأس شعبٍ من الخونة والعملاء والمرتزقة والمندسّين. ألا يستحق بذلك ألقاب ونياشين “العميل الأول” أو “الخائن الأول”، طالما جرت العادة في بلادنا أن يكون الرئيس المُلهم “المفكر الأول” و”القائد الأول” و”المواطن الأول” و”الرياضي الأول”، وتكون زوجته “السيدة الأولى”. وهل يفخر البشير بثلاثين سنة من حكمه توّجت بتحويل نصف الشعب السوداني، أكثر أو أقل، إلى خونة وعملاء ومرتزقة ومندسّين، بدلاً من تأهيلهم مواطنين، ينتمون إلى وطنٍ يوفر لهم أبسط حقوق الإنسان، وأقل مقومات الحياة الكريمة.
على كل حال، يظل ما قاله الرئيس عن شعبه شأناً داخلياً، لا نود الخوض فيه أكثر حتى لا نُحسب على الأيادي الخارجية أو “مناضلي الكيبورد” الذين يشنون حرباً “تجاه السودان لتمسّكه بدينه، وعزّته التي لا يبيعها بالقمح أو الدولار” على حد تعبير المشير. أما أن يُقحم الرئيس البشير، ومدير مخابراته صلاح قوش، إسرائيل في الأزمة، متهماً جهاز الموساد بإرسال خلايا للتخريب والعبث في مؤسسات الدولة، فهذا زعمٌ يستدعي وقفة طويلة، لا من باب تبرئة إسرائيل، ولكن لسماجة الزعم وسذاجته، وسوء توقيته.
ربما كنا نقبل مثل هذه الفِرية، لو أنها سيقت في غير زمان، عندما كانت إسرائيل غاضبةً من علاقات السودان مع إيران وحركة المقاومة الإسلامية (حماس). وبسبب ذلك، شنت الطائرات الإسرائيلية غاراتٍ على سيادة التراب السوداني ضد أهداف إيرانية، بينها مصانع لإنتاج الصواريخ، وسفن حربية وقوافل أسلحة ومعدات قتالية، كانت تُهرّب إلى قطاع غزة حينها. أما راهناً، فلا يمكن لعاقل شراء مزاعم مدير مخابرات البشير، سيما وأن العلاقات بين الخرطوم وتل أبيب تغيرت منذ العام 2014، بعد أن أدار البشير ظهره لإيران، وبات أقرب إلى دائرة “التطبيع” السعودية.
لا يمكن لغربال البشير تغطية شمس اتصالاتٍ سرية مباشرة، أجراها مسؤولون في نظامه مباشرة مع إسرائيل من دون وسطاء، حسب ما كشفته تراجي مصطفى أبو طالب، رئيسة جمعية الصداقة السودانية الإسرائيلية، المقيمة في كندا، وقد استقبلها الرئيس السوداني عمر البشير عام 2016 في الخرطوم. وتفيد المعلومات التي صرحت بها تراجي بأن ممثلي النظام السوداني توسّلوا الإسرائيليين مساعدتهم لإنعاش الاقتصاد، وكسر العزلة الدولية.
وقد أرسلت الخرطوم أكثر من إشارة إلى تل أبيب خلال الأشهر القليلة الماضية، كان أكثرها وضوحاً ما صرح به وزير الاستثمار السوداني، مبارك الفاضل المهدي، في أغسطس/ آب من العام الماضي، داعماً تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين السودان وإسرائيل، “ذلك أن السودانيين لا يعتقدون أن هناك مشكلة في العلاقات مع إسرائيل، أو أنها تشكل خطا أحمر”، على حد تعبير المهدي. وقبل ذلك، نفى رئيس حزب الوسط الإسلامي السوداني، يوسف الكودة، أي مانع ديني من إقامة علاقات مع إسرائيل، فيما لم يستبعد وزير الخارجية السوداني السابق، إبراهيم غندور، طرح مسألة تطبيع العلاقات مع إسرائيل للنقاش. وكشفت تسريبات “ويكيليكس” أن مستشار البشير السابق، مصطفى عثمان إسماعيل، اقترح على الولايات المتحدة أن تتضمّن عودة العلاقات مع واشنطن تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
نشك، ونشكك، في ما يسوقه نظام الخرطوم من مزاعم واهية ومُخجلة، للنيل من طهارة ثورة أبناء النيليْن. مع هذه المزاعم، يتكشف أكثر التواطؤ المُؤسس بين الغزاة والطغاة، بين عروش الاستعباد وأنظمة الاستبداد، لقمع شعوبٍ توّاقة لبضع كرامةٍ تسند ظهرها، وكِسرة خبز تُسكت جوعها، وقد أضناها انتظار معركة تحرير فلسطين التي ما برحت الأنظمة العربية تُجيّش لها منذ 70 سنة ونيف.