محمد بدوي
(1)
سيطر علي أجندة المشهد السياسي السوداني في الشهر الحالي مسالة إستفتاء دارفور الذي دفعت الحكومة السودانية و و حركة التحرير و العدالة طرفي وثيقة الدوحة لسلام دارفور 2011م بالمضي في ذلك استنادا علي كونه إستحقاق سياسي تفرضة بنود الاتفاقية ، و لعل الامر الجدير بالنقاش هو تمسك حكومة الخرطوم بتنفيذ هذا الالتزام في ظل الموت المعلن للاتفاقية التي لم تعر الإهتمام بتنفيذ بعض البنود الرئيسة بالتالي لم تحقق أدني مستويات النجاح رغم التصريحات التي لازمت فترة المفاوضات من قبل بعض الوسطاء مثل المتشار الأمريكي (قرايشن) بان منبر الدوحة هو (اخر قطار في المسرح السياسي ) تحفيزا وترهيباً للترويح للالتفاف حول المنبر الذي سعي افتراضا لايجاد مخرج للصراع الذي إندلع في إقليم دارفور غربي السودان منذ العام 2003م ، تلك التصريحات هدفت لخلق لحظة تاريخية كجزء ترفع من كعب المنبر الذي لازمه سوء التقدير السياسي من حيث المكان و الوسيط الامر الذي قوبل برفض من المجموعات الاساسية من الحركات المسلحة الثلاث ( حركات تحرير السودان بجناحيها و حركة العدل و المساواة ) التي تشكل محور القوة علي الطرف الاخر ، الامر الذي قاد الي التفكير في صنع بدائل عبر تكوين حركة التحرير والعدالة ليكتمل مسرح التفاوض بوجد الحد الادني من الاطراف ، و هي نقطة الضعف الجوهرية التي انبت عليها عملية صتع السلام التي لا يفترض التعامل معها بالنهج الميكانيكي بل تكمن حيويه صتعه يجب ان يستند علي مفاهيم الواقع الفعلي و ان كانت هنالك جهود فيجدر ان يتم توجيهها الي عصب الارادة و قوة الدفع نحو نقاط الالتقاء لان ذلك هو صميم حرفة المسهل للتفاوض .
(2)
مظاهر النشوء التي كشف عنها بدايات منبر الدوحة كانت تشير الي نهايتها ، فسعيها الدؤب الي خلق طرف تفاوضي اقرب الي ( انقسام جسم واحد للتفاوض ) وهو يعني وجود اتفاق معد سلفا ما ينقصه هو طرف يكسبه شرعية ببذل توقيعه الي جانب الحكومة السودانية و ذاك ما حدث ،فبعد مرور خمسة اعوام اثبتت فشلها التام في احداث ادني اختراق علي واقع الاحداث فمظاهر الأزمة شاهد عيان سواء عن معسكرات النزوح الممتدة بالإقليم و التي اتسع نطاقها عدداً ومحتوي و ساءت أوضاعها بل أن الحالة الأمنية بالإقليم تدهورت بعد توقيع الاتفاقي مما حدا ببعض الولايات مثل جنوب دارفور الي اعلان حالة الطواري في 15 يونيو 2014م حين انتقل الانتهاكات الي المدن ، بل الاتفاقية لم تستند علي الارث الذي رسخت له القرارات الدولية التي وضعت بنية اولية للمحاسبة بل تم تقنين وضع المليشيات باكسابها حصانات تمكنها من السير في الخط المرسوم لها دون توان من خلال ادماجها تحت الحماية القانونية لجهاز الامن الوطني والمخابرات الوطني في يناير2014م بالمقابل فملفات المحاسبة وجبر الضرر فلم تتقدم قيد انملة بل اصبح لا سبيل لذلك في ظل هذا الراهن فمن البديهي يصبح من غير المجدي المضي في تنفيذ مسالة الاستفتاء طالما أن هنالك العديد من البنود الجوهرية لم تنفذ مثل الترتيبات الامنية وما اشرنا اليه عاليه و المرتبط بالعدالة و جبر الضرر ، من ناحية فلسفية يتطلب الامر تحسن الاوضاع بما يمكن سكان الإقليم المعنيين بالمسالة ممارسة ذلك الحق و الكشف عن رغبتهم في العلاقة الإدارية في الإقليم الذي تم تقسيمة في الاعوام 1994م الي ثلاث ولايات ثم الي خمس ولابات في 2013م في ظل سريان الإتفاقية الأمرالذي يعد تجديف عكس التيار و نقض للغزل بما يمكن التعبير عنه بانه بوضع العراقيل في مسار الاتفاق الملزم للطرفين ، بالاستناد علي قاموس إدارات الأزمات فأن الإستفتاء لا يمكن تنفيذه عمليا قبل أن تكتمل مراحل ادارة الازمة والتي هي علي الترتيب (الإستجابة للحالة الطارئة ، التعافي ثم أخيراً المرحلة الأخيرة إستدامة إستقرار الأوضاع)
(3)
لاقت اتفاقية السلام الشامل التي تم توقيعها في العام 2005م بضاحية نيفاشا الكينية بين الحكومة السودانية و الحركة الشعبية لتحرير السودان اَنذاك ترحيبا كبيرا لانها فلحت في كسر سجل الحرب الذي استمر لعقود (1955-1971) كفترة اولي و من (1983- 2005) كمرحلة ثانية ورغم ذلك فقد ادي قصر قامة الاتفاقية المتمثلة في ثنائيتها من جانب و عدم ملامستها بشكل جدي للكثير من القضايا المرتبطة بالازمة علي سبيل المثال وضع منطقة ابيبي و إقليمي النيل الازرق و جبال النوبة الامر الذي قاد الي تجدد اشعال الصراعات المسلحة مره اخري وان شكلت تضاريسه الجغرافية اختلافا عن المشهد ما قبل 2005 علي مستوي خريطة الازمات السزدانية ، مما كشف عن الصورة الحقيقة للاتفاق الذي لم يكن سوي هدنة لوقف الحرب بين الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان، امتد قصورها الي ان المخارج التي صورتها الاتفاقية مثل المتعلقة باستفتاء مصير جنوب السودان و النتائج المتوقعة او المتحملة لم ترفد بنصوص او سيناريوهات تعبر بالتغيررات المحتملة بسلاسة الي بر الامان أو تساعد علي التحول المدني لبنية الحركة الشعبية عند الانفصال ، و هو امر جدير بالتوقف عنده لان اسبابه تعود الي افتراضات المجتمع الدولي المستندة علي المام الخبراء والمستشارون الاجانب بالواقع السوداني بشكل جازم لكن حقيقة الامر اثبتت غير ذلك ، فانتهي الامر بان انحصرت احداثيات النظر نحو مسار يبدأ و ينتهي بين جوبا والخرطوم في حركة عكسية ..
كذلك الحال مع وثيقة الدوحة لسلام دارفور فهي سارت في رصيف الثنائية التي تحلق حولها من الخبراء و المستشارون الاجانب الذين فرضوا رؤي قاصرة في فلسفتها و اطارها النظري ، ليتشابه الحال (اتفاق السلام ) و (وثيقة الدوحة ) اللتان عززتا فرضية مدخل الحل الشامل الجدي والسنود بارادة حقيقية لمجمل قضايا أزمة الحكم و النزاعات في السودان .
)4)
التقسيمات الادارية للاقليم في الاعوام 1994م الي ثلاثة ولايات ثم الي خمس ولايات في العام 2013م ليبلغ مجمل المحليات الادارية 64 وحدة تمت لدواعي سياسية للسيطرة علي الاقليم المترامي الاطراف و الذي بدات فيه مظاهر المقاومة العسكرية لسلطة الخرطوم منذ العام 1991م بدءاً بحملة الحركة الشعببية لتحرير السودان التي عرفت شعبيا علي نطاق واسع بحملة بولاد ثم لاحقاً نشاط المقاومة المسلحة للحركات في العام 2003م ، استند التقسيم الي معايير تغيير نمط علاقة حيازة الارض علي اسس قبلية لكي تتمكن يتمكن الاسلاميون السودانيون من كسب ولاء المجموعات السكانية و تسهيل عملية السيطرة السياسية عليهم .
تلك الخطوات ادت الي تفكيك و ثم تذويب الاعراف التي ظلت تحكم تلك العلاقات بين شعوب الاقليم وتضمن استقرارها في العيش السلمي الامن ، ليلتهب المشهد مدفوعا بصراعات المصالح التي شكل الولاء للحزب الحاكم ضمان اساسية في الحفاظ علي تلك المكتسبات لا سيما ان علاقات الارض التقليدية يتداخل فيها الترابط بين الارض كمقابل للهوية، ففي الظروف التي تفرض فيها المصلحة العامة تدخل الدولة في تقسم الارض يتم إستصحاب المناهج المتعلقة بالانثربلوجي ، والتحليل الطبقي ، الموارد ، الاعراف ، الي جانب التواريخ الاجتماعية للشعوب و لا سيما تلك التي تتقاسم الموارد والمصير المشترك ، هدف الاستفتاء ظل الغرض منه الوقوف علي نتيجة حول الشكل الاداري بين الاقليم الموحد و الراهن الفعلي وفقا للاتفاقية او الوثيقة ، لكن سير الأمور بذات الشكل الاعرج يكشف اهدافا سياسية يسعي لها طرفي الاتفاق بالنظر الي الواقع فالفاعليين فريق يضم الحكومة وحلفائها ، و الفريق الثاني الحركات المسلحة و الضحايا الي فريق اخر يضم غير المشمولين بالانتباه و المشاركة في سياق حركة الطرفيين وهم سكان الاقليم ، فما لم تزول هذه التقسيمات بزول مسبباتها فان الواقع ليس في بالامكان لبلوغ مرحلة الاستفتاء حول قضية حيوية ذات اثر مستقبلي .
(5)
المسئولية التاريخية لانفصال الجنوب تقع علي عاتق الاسلاميين السودانيين ، الامر الذي كشف عن فشلهم في ادارة الدولة السودانية ناهيك عن توفير الرفاهية لشعوبه بافتراض الفعلية سيطرتهم علي السلطة والموارد ، مما اصبح يشكل هاجسا يدمغ الفشل الاكبر للاسلاميين في علاقتهم و إدارتها فبعد أن ملأوا الافق بهتافت الرغبة للسيطرة علي مساحات بالقرة الافريقية و ضمها لجغرافية الدولة الدينية ، محاولات التملص من تلك المسئولية اصبحت مثل لعبة الكراسي بفكل يحاول السيطرة علي مقعد الامان و الابتعاد عن نطاق ذلك ، هذا يفسر اليسير من الحرص علي استفتاء دارفور الذي يقف كمعادل يتم تسويقه عله يقلل من اثار الممارسات التي قادت الي انفصال جنوب السودان و هنا اعني الاستهتار و الاستخفاف بالمنهج التراكمي وتحولته
الغرض الذي يمكن قراءته من الدفع نحو الاستفتاء هو لعرقلة جهود مدخل الحل الشامل للازمة السودانية الذي ظلت طرحته قوي المعارضة و استطاعت الحصول علي استجابة ما من قبل المجتمع الاقليمي الاتحاد الافريقي (الوسيط) ، فقصدت بذلك وضع سقف للتفاوض علي الحل و ضخ دماء في اتفاقية الدوحة للسلام واعادتها الي الواجهة مرة اخري لتدفع ايجابا نحو موقفها المعلن من عدم التفاوض باجندة جديدة ومنبر منفصل مع الحركات المسلخة الدارفورية ومن اراد عليه الالتحاق بوثيقة الدوحة
(6)
توقيت الاستفتاء يمكن قراءاته مع موقف رئيس الالية الافريقية رفيعة المستوي الرئيس الجنوب افريقي السابق ثامبو امبكي المتحول نوعيا من مدخل الحل الشامل و مشاركته الخرطوم لتسويق الحوار الوطني ، و هي رسالة اعلامية للمجتمع الدولي بتوفر الارادة من قبل الحكومة السودانية او الخرطوم لحوار سياسي داخل السودان ، الامر الاخر هو انشغال المجتمع الدولي بازمة اللاجئيين السوررين و الهجمات الارهابية علي الدول الاروبية و المهاجريين غير الشرعيين ووضع الامم المتحدة علي قمة اجندتها الاستقرار السياسي في سوريا واليمن و ليبيا شجع علي المضي في ذلك لكسب الجولة في تقديرات الخرطوم ، من جانب اخر فالحكومة السودانية علي ثقة بانها ستجد الدعم السياسي بعد قطع علاقاتها مع معسكر ايران و واقترابها من معسكر السعودية ودول الخليج فبعثت بالقوات العسكرية للقتال ضد الحوثيين وصالح باليمن و انقاذ المدنيين المحاصرين في بعض مدنها ،
(7)
حركة التحرير والعدالة و المجموعات التي تم الحاقها بها لاحقا في مفترق الطرق فليست لها القدرة التنظيمية او العسكرية علي احداث فعل او موقف يعزز من مواقفها بل ان عدم اتساق قوام المجموعات الموقعة وضعهم تحت سيطرة الخرطوم فحالهم ان لم يطابق العلاقة بين المخدم والمستخدم فهو اشبه بذلك مع الاختلاف ان مصادر التمويل تتحكم فيه الخرطوم بعلاقتها الفلسفية و المصالح التي تربطها مع قطر (الوسيط) الممول .هذه الاوضاع سهلت ان تدفع الحكومة السودانية بهم لتنفيذ الاستفتاء و ساهم في تسريع وتيرتها الاموال التي تم رصدها ثم ضخها في الاستفتاء 50 و التي بلغت مليون دولار أمريكي و التي تم النظر والتعامل معها كمورد مفتوح كتكتيك علي غرار (الجزرة ) التي تستخدم كمحفز للسير نحو الهدف او النتيجة التي ترغب فيها الخرطوم بالوصول الي النتيجة التي تهدف اليها وهو الابقاء علي التقسيم الاداري ، أخيراً الاستفتاء يجعل المؤتمر الوطني في حل من التزامات اتفاقية الدوحة و تبعياتها التي استطاعت من خلالها (شراء الوقت) و تسويق حركة التحرير والعدالة في (مزاد) الراي العام تحت مظلة الحرص علي السلام ، لكن بانتهاء امد الالتزام ومع ضعف الحركة التي تم تكوينها يشبه بحال فريق لكرة القدم الذي يتم تجميع علاعبوه قبل فترة قصيرة من المنافسات ، الكرة الان في ملعب الخرطوم و المؤتمر الوطني الذي اصبح يمتلك ( إطار أو هيكل اتفاقية) ليناور بها لمرحلة قادمة من يرغبون في خوض المنافسة لتشتري ( وقت اَخر)