الطيب أبو آمنة
مهما أختلفت آراء المتابعين للشأن السوداني بالداخل والمهجر حوله، إلا إن الاتفاق الذي عقد بين أطراف حركات الكفاح المسلح والسياسي (تضم تسعة فصائل مسلحة وسياسية) وحكومة الفترة الإنتقالية في ٣ إكتوبر ٢٠٢٠ في مدينة جوبا، عاصمة دولة جنوب السودان يعد إنجازًا مهما لدولة جنوب السودان والسودان و ما يزال الأشقاء الجنوبيون يواصلون إقناع غير الموقعين على الاتفاق للحاق بركب السلام ، فدولة جنوب السودان التي أعلنت إنفصالها من جمهورية السودان في ٩ يوليو ٢٠١١أي قبل عشرة سنوات تقريبا من الأن بعد حرب ضروس دامت لاكثر من نصف قرن يتخللها إتفاقيات سلام لا تدوم طويلا، إضافة للحرب الأهلية بين الجنوبيون أنفسهم والتي بدأت بعد الانفصال مباشرة مما ساهمت في مضاعفة الإعباء على الدولة الوليدة والتي تعد أحدث دولة على خارطة العالم، فدولة بكل هذا التاريخ الدامي تستطيع أن تتسامى فوق جراحها وتجمع أعداء الامس في طاولة مفاوضات أستقرقت قرابة العام ولا تزال تستضيف غير الموقعين آملة في التوصل الى سلام شامل يجنب السودان إنفصال جديد فيما فشل الرئيس المخلوع البشير و زمرته إنجازه خلال ثلاثون عاما بل قاموا بفصل الجنوب حتى يحكموا قبضتهم على ما تبقى من السودان إلا إن الثورة التراكمية المستمرة التي بدأت في الجنوب فجر إستقلال السودان من بريطانيا و ظلت تتسع رقعاتها لتشمل كل السودان الى أن توجت بثورة ديسمبر ٢٠١٨ المجيدة التي صنعتها تضحيات الجيل الذي ولد و ترعرع في عهد المخلوع ودرسوا في جامعاتها التي أنشئت على نظرية الكم على حساب الجودة فلم توفر تعليما جيدا بل أصبحت ساحة لممارسة العنف السياسي من قبل الطلاب الذين ينتمون للنظام بدعم سافر من حزب المؤتمر الوطني الحاكم آنذاك مما جعل بعض طلاب الإتجاه المعارض ينتهجون ذات النهج للدفاع عن أنفسهم فاصبحت ساحة الجامعات أقل ما يوصف بها أنها ساحة معركة بدلا أن تكون قلعة للعلم وكسب المعرفة،إلا أن بين كل هذه التناقضات تشكل وعي لدى اغلب الطلاب بضرورة ممارسة العمل السياسي بسلمية رغم المواجهة العنيفة من أمن النظام والتعذيب والتنكيل بهم في معتقلات سيئة السمعة، إلى أن اشرقت شمس ديسمبر وسقط النظام بعد أصطفاف جموع الشعب بالداخل والمهجر من شباب وطلاب ،ومهنيين وكفاح سياسي ومسلح تحت اهزوجتهم المحببة (تسقط بس) ليسدل الستار على أطول وأبشع فترة وحشية و دموية في تاريخ السودان الحديث.
بعد سقوط نظام الإنقاذ في ١١أبريل ٢٠١٩ توقع الكثيرين أن تطبق حركات الكفاح المسلح المقولة العسكرية المعروفة (أرضا سلاح) وتأتي الى الخرطوم مباشرة للمشاركة في الفترة الإنتقالية وتأتي تلك التوقعات و الأماني الوردية إعتمادا على أن معظم هذه الحركات تعد من الموقعين وأعضاء داائمين في قوى الحرية والتغيير(قحت) الوعاء الجامع آنذاك والذي يمثل الجانب المدني للثورة ، إلا أن قادة حركات الكفاح المسلح كانوا لهم رأي آخر،فالإرث الثقيل من المظالم التاريخية الذي خلفته الحكومات المتعاقبة في الخرطوم منذ الاستقلال وعمقه نظام الإنقاذ بإشعال الحروب في دارفور وجبال النوبة شرق السوادان حيث ارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية و جرائم الإبادة الجماعية التي جعلت المحكمة الجنائية في لاهاي تطالب بضرورة تسليم المخلوع وعدد من معاونية للمثول أمامها ،أضف إلى ذلك القبضة المركزية المتشددة في السلطة و إستشراء الفساد والمحسوبية والقبلية والمناطقية، كل هذه على سبيل المثال جعلت حركات الكفاح المسلح تشترط وجوب الاتفاق على كل المسائل الرئيسيةً قبل العودة الى الخرطوم ، وبذلك يكون إتفاق جوبا بمثابة صفحة جديدة للثورة السودانية.
تضمن الاتفاق ثمانية بروتوكولات من أجل معالجة قضايا عدة أهمها وقف الحرب وجبر الضرر وضرورة فصل التوجهات الدينية عن مؤسسات الدولة وإحترام التعددية الثقافية والتمييز الإيجابي لمناطق الحرب، قضايا الأرض(الحواكير في دارفور) ، العدالة الإنتقالية والمحكمة الجنائية ،وقضايا المزارعين و الرعاة ، و قضايا الثروة و تقاسم السلطة،إلى جانب قضايا العودة الطوعية للنازحين واللاجئين إلى مناطقهم التي نزحوا منها وإزالة المستوطنين الجدد، حيث نص الاتفاق على تمديد الفترة الإنتقالية إلى ٣٩ شهرا إبتداء من تاريخ توقيع الاتفاق.
على الرغم من إنقضاء ستة أشهر على توقيع الاتفاق وعودة كل الموقعين الى الخرطوم إلا أن ما تم تنفيذها من مصفوفة الاتفاق تمثل نسبة ضئيلة إذ تم تعييين
ثلاثة أعضاء في مجلس السيادة الذي أصبح يضم ١٤ عضو وعقبه إعادة تشكيل مجلس الوزراء ليستوعب القادمون الجدد ونستطيع أن نقول ما تم تنفيذه إلى لحظة كتابة هذه السطور هو جزء يسير من برتوكول تقاسم السلطة حيث لا تزال هنالك ملفات شائكة تنتظر التعامل معها ليصبح الاتفاق واقع معاش بين الناس فكما يقول المثل إن الشيطان يكمن في التفاصيل فيمكنني القول إن شيطان إتفاق جوبا يكمن في بروتوكولين مهمين وهما العدالة الإنتقالية وملف الترتيبات الأمنية إضافة الى ملف ملكية الأرض والتي تعرف بالحواكيربأبعادها القانونية والإجتماعية وتأتي أهميتهما في أنهما تثبت جدية طرفي الاتفاق في المضي قدما فيما إتفقا عليه، فمفهوم العدالة الإنتقالية يعني التدابير القضائية وغير القضائية التي تقوم بها الدولة (في الفترة الإنتقالية) بتطبيقها من أجل معالجة ما ورثته من إنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان مثل جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية وتتضمن هذه التدابير الملاحقات القضائية و لجان الحقيقة وبرامج جبر الضرر وإصلاح المؤسسات ،فالتحدي الماثل لتنفيذ برتوكول العدالة الإنتقالية ترتبط بمدى جدية الحكومة في التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية التي كانت قد أصدرت مذكرات توقيف لم تنفذ بعد بحق خمسة أفراد سودانين على رأسهم المخلوع البشير(علي كوشيب سلم نفسه للمحكمة) بتهمة إرتكاب جرائم إبادة وجرائم حرب و جرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور، فهناك خياران لا ثالث لهما ،تسليم المتهمين إلى المحكمة الجنائية في لاهاي في أقرب وقت او الاتفاق على إنشاء محاكم داخلية تحت إشراف المحكمة الجنائية الدولية ،أما التحدي الأعظم و مكمن الشيطان الأكبرفهو ملف الترتيبات الأمنية ، فإذا كان إتفاق السلام بكل برتوكولاتها هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق الإستقار السياسي والإقتصادي والإجتماعي والتنمية المستدامة في السودان فان تنفيذ ملف الترتيبات الأمنية بنجاح يعني نجاح الاتفاق،حيث يواجه ملف الترتيبات الأمنية تحديات عديدة لعل أبرزها درجة جدية الأطراف المعنية بالملف و عملية دمج القوات الذي قد يكون مكلفا بسبب حجم وتنوع القوات و تعدد حركات الكفاح المسلح وإختلاف عقيدتهم القتالية وتطبيق معاييرمحددة لعملية الدمج أو التسريح ليكون بنهاية الفترة الإنتقالية قوات ذات عقيدة واحدة ،عملية جمع السلاح من المواطنين والمليشات المسلحة على وجه الخصوص في أقليم دارفور (مليشيات الجنجويد) وكذلك مصير ما تسمى قوات الدعم السريع حيث لم توجد في الاتفاق إشارة لدمج هذه المجوعة في القوات المسلحة السودانية إضافة الى التصريحات التي تحاول شرعنة وجود القوات واعتبارها قوة نظامية كالجيش والشرطة في حين أن القاصي والداني يعرف كيف وجدت هذه القوات و إن محاولة شرعنتها في المستقبل سوف تكون القشة التي سوف تقصم ظهر الاتفاق.
ملبورن/أستراليا
٢٩ مارس ٢٠٢١