لا يختلفُ عاقلان حول الأزمات المُتلاحقة التي يشهدها السُّودان منذ سَطْوْ المُتأسلمين على السُلطة عام 1989، وهي جميعاً (دون استثناء) أزمات مصنوعة باحترافيةٍ عالية، ووفق استراتيجياتٍ وخططٍ مدروسة، تبعاً لأُسلوبٌ الإدارة بالأزمات (Management by Crisis)، حيث يقومون بتغذية الأزمات و(صناعتها) من العدم، ليُشبعوا أطماعهم السُلطوية والمالية، حتَّى لو كان الثمن تدمير السودان وتلاشيه. ويُمكن وصف ما نحياه بالـ(جنون الأزموي) أو شيئ من هذا القبيل، وهو وصفٌ لجأتُ إليه بعدما (عَجَزَتْ) حروفي عن تفسير الضربات الإسلاموية للبلاد التي يحكمونها، وهي حالة نادرة لم تَألَفْهَا البشريةُ من قبل.
فالمُتأمِّل لأوضاعنا الماثلة، يجد بأنَّ الأزمات (المصنوعة) شَمَلِتْ كافة مناحي الحياة، بدءاً بالصراعات الدموية بأكثر من إقليم، واحتلال أراضينا كحالتي أثيوبيا ومصر، وفُقدان بعضها الآخر بالبيع أو الرَهْن دون دراسة أو عوائد ملموسة (رغم التحفُّظ على بيع أراضي الدولة مهما كانت المُبررات). وانتهاءً بالاقتصاد المُنهار وتَعَطُّل أهمَّ قطاعاتنا الإنتاجية وتلاشي الناتج المحلي تماماً، وتفشي القَبَليَّة والجهويةٍ وبُلوغها حدوداً مُخيفة، وتراجُع المُستوى الأكاديمي والأخلاقي بصفةٍ عامَّة. هذا بخلاف الإجرام الذي تُمارسه العصابة الإسلاموية ضد الشعب السُّوداني، من قتلٍ وتشريدٍ واغتصاب وانتهاك للحريات والأعراض. وفي المُقابل، انقسم الموصوفين بالقوى السياسية، وعَجَزوا أو انشغلوا بخلافاتٍ انصرافيةٍ وجانبية، في ما بينهم أو داخل الكيان الواحد، وبعضهم يتآمر مع المُتأسلمين ويقبل بفتات موائدهم المسمومة، ويُركِّز فقط على نصيبه من المغانم. وهناك الانتهازيين و(تُمامة الجرتق)، أو الأذرع الإسلاموية المُضللة كالإصلاح والسائحون وغيرهم، وأدوارهم القذرة الداعمة لجماعتهم التي أدخلتنا جميعاً في هذا الدرك السحيق! وسواء كانوا هؤلاء أو أولئك، فإنَّ الخاسر الوحيد هو السُّودان (الكيان) وأهله.
لم يعد أمام السُّودان وأهله إلا الشباب الذين نالوا قسطاً وافراً من ضربات المُتأسلمين الـ(مُتعمَّدة)، بدءاً بتغيير السُلَّم التعليمي الأساسي وإضعاف تحصيلهم والأكاديمي، وتضييق مُنافستهم وفُرَص عملهم وترسيخ مبادئ التمييز الجهوي بينهم، وحثهم على الظلم والفساد ونهب ثروات البلاد، وتعزيز جمودهم الثقافي وتجهيلهم وإدخالهم دائرة إدمان المُخدرات والانغلاق على الذات وإقصاء الآخر، وفقاً لرُؤية المُتأسلمين الأحادية الرافضة للتعدُّدية، ووأد الإبداع وقتل روح المُبادرة فيهم! ورغم هذه الـ(خبائث) الإسلاموية، فقد قَدَّمَ شبابنا أروع التضحيات والدروس الوطنية والإنسانية الباعثة للتفاؤُل، وأثبتوا قدرتهم على (قيادة) السُّودان وتحسين واقعه البائس. ففي الوقت الذي يعبثُ فيه المُتأسلمون سفراً وزواجاً وتسوُّلاً، ويُركِّز (قادة) الكيانات السياسية (مُسلَّحة/مدنية) على ملذَّاتهم اللامتناهية، يُقدِّم شبابنا السُّوداني أروع المواقف الإنسانية، بتضامنهم النبيل مع المُتضررين من الفيضانات والسيول التي تجتاحُ البلاد، رغم ضعف الموارد والإمكانيات المُتاحة لهم، وقبلها نضالاتهم وتضحياتهم في أحداث جامعة الخرطوم وغيرها المنابر الأخرى، وفي سبتمبر التي كانوا محور ارتكازها وشهدائها الوحيدون، مما يُعظِّم الثقة في صدق ونزاهة وروعة الشباب السُّوداني، وقدرته على إنقاذ ما تبقَّى من البلد وأهلها، دون حاجة لوصاية الانتهازيين والمُغامرين.
ولكي ما ينجحُ الشباب في تحقيق هذا الهدف النبيل وإنقاذ البلاد وأهلها من براثن المُتأسلمين والمُغامرين، من الأهمية بمكان إدراكهم لأهمَّ أسباب واقعنا البائس الذي نحياه الآن، باعتبار أنَّ معرفة السبب/الأسباب (التشخيص السليم) هو مفتاح العلاج. وبالنظر لواقعنا الحالي، نجده يعود بالدرجة الأولى لضعف الوعي، تلك الثغرة التي استغلَّها المُغامرون منذ الاستقلال وحتَّى الآن، وذلك رغم (حصول) أعداد مُقدَّرة من السُّودانيين على درجات (أكاديمية) رفيعة، ومع هذا يسيرون خلف أسماء وعوائل مُعيَّنة، تتحكُّم بمصائر البلاد وأهلها وتعتبرها إرثاً خاصاً، ولم ينتبه أولئك التابعين لفشل (قادتهم) و(سادتهم) وتآمرهم الفاضح ضد السُّودان وأهله، والشواهد كثيرة ولا تحتاج لتفصيل! ويأتي غياب التنمية (المُتوازنة) بين مناطق السُّودان في المرتبة الثانية بعد ضعف الوعي، فهي السبب الرئيسي لدعاوي التهميش، إذ تغيبُ الخدمات بكل أطراف البلاد، وليس فقط إقليم واحد أو منطقةٍ دون أُخرى، فاستغلَّها المُتاجرون بقضايانا لتحقيق مآربهم الخاصة، وصعدوا على (جماجم) الأبرياء من الأطفال والنساء والعُزَّل، و(فشلوا) في تعديل أوضاعنا طيلة الـ(27) سنةً الماضية، ولا يزالون يتلاعبون ويتقافزون هنا وهناك، دون اكتراثٍ لمآسينا وجراحاتنا التي فاقت كل الحدود! فتعديلُ أوضاعنا يكون بقيادة العمل (الفعلي)، وليس ببيانات الاستنكار والتصريحات الجوفاء ومُفاوضات الفتات، ولعلَّ ربع قرنٍ من الزمان كافية تماماً لإطلاق الأحكام بالفشل والخنوع!
في هذا الإطار أُعيد طَرْحي السابق بتشكيل مجلس للشباب كـ(مجلس السيادة عقب الاستقلال) من كل أقاليم السُّودان، عقب الرجوع للتقسيم القديم (دارفور، كردفان، الشرقي، الأوسط، النيل الأبيض، النيل الأزرق، الشمالية والخرطوم)، وفق معايير يُتَّفق عليها، وبمُعدَّل شابين اثنين/للإقليم (أعمارهم ما بين 20-45) يقوم باختيارهم أبناء الإقليم المعني، بغض النظر عن دياناتهم أو أنواعهم (ذكور/أُناث) أو ألوانهم وأعراقهم، وبما يضمن تمثيل كل أقاليم السُّودان في حكم البلاد، ليضطلع هذا المجلس بإحداث التغيير المنشود وتشكيل حكومة (ما بعد التغيير)، لفترةٍ انتقالية لا تقل عن خمس سنوات. مع الابتعاد تماماً عن الأحزاب والكيانات السياسية، بعد فشل (قياداتها) في ترقية (الوعي) العام وتحقيق النهضة المطلوبة للسُّودان.
ويُمكن لأبناء كل إقليم، التواصُل مع نظرائهم بالأقاليم الأخرى، وخاصةً بالأحياء السكنية لإنضاج الفكرة واختيار ممثلي الأقاليم المُختلفة، وتشكيل مجلس الشباب القومي (16 عضواً) وفقاً للتقسيم الإداري القديم (8 أقاليم)، ليقوم المجلس باختيار رئيسه ونائبه في ما بينهم ووضع ضوابطهم، بما في ذلك كيفية تسمية عضو الإقليم المعني وفترة تمثيله داخل المجلس، والعمل على إحداث التغيير بأسرع وقت، وبأكثر الآليات (أماناً) كالعصيان المدني والتظاهر وغيرهما. وبالتوازي مع هذا، يقوم المجلس الشبابي عقب تكوينه، بتشكيل لجان أكاديمية من الـ(مُستقلين) بمُختلف المجالات، لتحديد الشروط المطلوبة لشغل المناصب الوزارية (مُؤهِّلات وخبرات الوظيفة المعنية)، واختيار حكومة ما بعد التغيير على أساسها، بغض النظر عن الحزب أو الديانة أو الإقليم أو النوع، فالعامل الأساسي هنا هو الكفاءة والتخصُّصية. مع دمج الوزارات وضغط هياكلها الوظيفية لتقليل الإنفاق العام، وليعمل الجميع خلال الفترة الانتقالية، لتحقيق هدفين هما تطوير التعليم وتحقيق النهضة الاقتصادية، وبما يرفع الوعي ويدعم تحقيق التنمية المُتوازنة.
هذه هي الملامح العامَّة لمُقترحٍ قابلٍ للتعديل والإثراء، وربَّما يكون الخيار الأفضل للبناء عليه وتطويره باستمرار بما يدعم نهضة السُّودان، فهو مُقترح يسعى لمُعالجة أكبر مشاكلنا، ويضمن حرية وشفافية اختيار أبناء السودان لمُمثِّليهم بأنفسهم، مع تقليل الإنفاق الحكومي، فضلاً عن إشراف المجلس الشبابي على إعداد الدستور الدائم للسودان وإجراء الانتخابات العامَّة. وسنتلافى المزيد من الدمار والصراع الدائر بسبب التهميش، بوجود تمثيل دائم لكل إقليم في المجلس الشبابي (السيادي). وبالنسبة لنظام الحكم (فيدرالي/مركزي/لامركزي)، يجري الاحتكام لمبادئ الإدارة العلمية الرصينة، حيث نختار النظام الإداري للسُّودان تبعاً لتوفُّر مُقوِّماته وعوامل نجاحه (إدارية، اقتصادية، ثقافية/معرفية، اجتماعية وسياسية)، مع العمل على تحقيق المُوازنة بين رغبة الشعب وتلك المُعطيات، وبمعنىً آخر (مَدْ الرِجِلْ قَدْرْ اللِّحَافْ)، وهو ما تتبعه جميع الدول المُتقدمة وتستند إليه الإدارة العصرية. وبصفةٍ عامة، تعتمد فكرة مجلس الشباب، على اختيار قيادات (شبابية) من أقاليم السودان تتمتَّع بالوعي والقبول والاحترام، ليُشرفوا على إحداث التغيير وتشكيل حكومة انتقالية، مُؤهَّلة وقادرة على تسيير الدولة والنهوض بها، استناداً للإرادة الشعبية الحقيقية والروح الوطنية الصادقة والتأهيل العلمي اللازم.
وعلى شبابنا إدراك حقيقتين خطيرتين، أولى هذه الحقائق أنَّ العداء القائم بين أبناء السُّودان بدعاوي العُنصُرية والجهوية وغيره، لا ينفع إلا المُتأسلمين والمُتاجرين بقضايا الشعب السُّوداني، والضحية الأوحد هم المُواطنين البُسطاء، وهو واقعٌ ماثلٌ لا يحتاج سوى النظر للضحايا من جهة، وللمُتأسلمين و(قادة) الكيانات (مُسلَّحة/مدنية) وأُسرهم من جهةٍ ثانية! والحقيقة الثانية، تتمثَّل في خطورة تقسيم السُّودان تحت أي مُسمَّى لأنَّ مصيره ليس فقط الفشل، وإنَّما تلاشي الجميع من الوجود تماماً، وذلك من واقع مُعطياتنا الراهنة. وبمعنىً آخر إنَّ انفصال أي جُزء من البلاد سيكون مصيره فشل هذا الجُزء وبقية الأجزاء، وزوال السُّودان بكامله كنتيجةٍ نهائية، مما يُحتِّم توحُّد الجميع في مُواجهة العدو الأوحد كما يقول المنطق والعقل.
إنَّنا نسيرُ نحو هاويةٍ سحيقة تُهدِّد بقاء كل ما هو سُّوداني، وعدونا الأكبر والأوحد هم المُتأسلمين ومن يتآمر ويتراخى معهم، سواء كانوا تُجَّار الحرب باسم النضال الذين لا يهمهم سوى مصالحهم السُلطوية والمالية، أو المُجتمع الدولي الطامع في مقدراتنا والداعم الرئيسي لقَتَلَتِنا وسافِكِي دمائنا، أو المُغامرين المُتدثرين بثوب الأشقاء ويلتهمون أراضينا ويستبيحون أرواحنا، ولا مجال أمامنا للتخلُّص من هذه الكوابيس إلا باقتلاع المُتأسلمين كبدايةٍ لأي إصلاحٍ اعتماداً على ذواتنا، والتأخير والتردُّد والصراع في ما بيننا يضرنا ويُضعفنا، وينبغي توحيد جهودنا نحو العدو الحقيقي، على الأقل تفعيل مقولة (عَدُو عَدُوي صديقي)، ونحن لسنا أعداء بل أبناء وطنٍ واحد تربط بيننا عوامل مُشتركة عديدة، وتُوجد مُصاهرات وأرحام ضاربة في الجذور. والإجرام لم يتوقَّف لا بالخوف ولا بالتفاوُض والصور الضاحكة في القاعات المُكيَّفة، أو النداءات والاستغاثات الدولية، ولا بالصراع مع بعضنا البعض، لن يُوقف هذا الإجرام إلا ثورتنا الحقيقية التي نصنعها نحنُ لا غيرنا.